“تجسّد” .. حين يقيس الغياب كثافة الحضور
العدد 207 | 01 آذار 2017
زياد عبدالله


تمضي هذه القراءة في تتبع كتاب فني متأسس على فن الأداء والشعر حيث تتمازج في “تجسّد” (إصدار مؤسسة الشارقة للفنون 2016 وباللغتين العربية والانجليزية، ترجمه إلى العربية يوسف رخا ووسن يوسف)  قصائد الشاعرة والفنانة الإيطالية كريستيانا دي ماركي وأعمال الفنان الإماراتي حسن شريف (1958 – 2016)، ولعل أهم ما سيخلص إليه قارئ هذا الكتاب الاستثنائي أن القصائد لا توضح الأعمال الأدائية لشريف بل تستنطقها وتحاورها، تضيف أو ترشد أو تضلل، وليتبدّى الأمر أشبه بحوارية جمالية والفوتغراف محمّل بالأداء والحركة والاستثمار بالمكان أيضاً، فعلى سبيل المثال تأتي أربع صور متوالية ملتقطة من مسقط علوي لحسن شريف بعنوان “إزالة ألواح الاسمنت” وهو يسعى لنزع بلاطة اسمنت في مساحة مبلطة ببلاط متسخ مرّ عليه الزمن وليرد في قصيدة دي ماركي المقابلة لها: “أعظم ثقل ليس في رفع الأشياء بل في استبدال مكوناتها”. بينما تتوالى ست صور لشريف رفقة صديقين في الصحراء، مرة يبدون إلى جانب سيارة “لاند روفر” وفي صور أخرى يقوم شريف بحفر حفرة في الرمال ولتأتي قصيدة دي ماركي بعنوان “العاملون في المشروع”: “إيجاد القلعة جوار النهر الكسول حيث الظلال الشمالية تجتاح القاعة/ وحدها الأسماء تبقى/ انتظرت الضيوف/ لكنني عزفت عن الاتصال عن بعد/ لم تتغير العادة/ غواية الفرار”.

ولفهمٍ أكبر لحيثيات الكتاب فإنه لابدّ من الإضاءة على رؤية حسن شريف الفنية هو الذي يقول “نعم، إن عملي هو يدوي ولكن من المهم بالنسبة لي أن يكون الفن سهلاً، وتقنياً يمكن لأي شخص أن يقوم به. بهذا المفهوم عملي خال من المهارة. أقصد أنك لا تحتاج مهارات خاصة للقيام بأعمال تصبح أعمالاً فنية. لا أريد للمنحوتات أن تظهر أنها ناتجة عن براعة. فأنا لا أسعى لتأدية أي من أنواع السحر لإبهار الجمهور وجعله يتساءل عن كيفية إنشاء العمل. لا توجد أسرار. السؤال الفلسفي أو النفسي هنا هو، كيف أعطي نفسي السلطة لعمل الفن كفنان”.

وكما هو معروف فإن شريف كان أول فنان مفاهيمي في منطقة الخليج العربي وتشير رئيس مؤسسة الشارقة للفنون حور القاسمي في تقديمها الكتاب إن أعمال شريف في ثمانينات القرن الماضي ساهمت بشكل مهم في تاريخ الفن في دولة الإمارات “استخدم حسن شريف الأداء للتفاعل مع الحياة اليومية، بتوظيف الأفعال البسيطة والإيماءات مثل المشي والقفز والتأرجح والتحدث والحفر ورمي الحجارة واستخدام أشياء من الحياة اليومية مثل المرحاض وحبل النايلون وزجاجة حليب وشعر وحجارة. وهذه الأفعال اليومية العادية وما يعثر عليه من أدوات كانت متماشية مع مفهوم مارسيل دوشامب –وفيما بعد، مفهوم فلوكسوس – إدراج الحياة اليومية في الفن ودحض أي حاجة للمهارة الفنية التقليدية أو الحرفية”.

ووفقاً لرؤية شريف سابقة الذكر فإن اليومي لا يعود يومياً أبدا، وهذا ما تقوله لنا قصائد دي ماركي  على الأقل فمع سلسلة مما يؤديه شريف تحت عنوان “درج” ترد هذه القصيدة: “بين الفعل واللافعل/ أشبه تجربتي اليومية/ الجسد مشلول/ غير قادر على هبوط الدرج/ ما لم يسيطر على الظلام/ حدثني عن الضوء والغموض/ إلى اي مدى يكون ذلك غير جوهري / حين يعرفه الغياب/ غير أن الغموض يفعل في الجسد أكثر مما يفعله النصوع/ أمر لابد منه/ أن يقيس الغياب كثافة الحضور”.

يقول شريف عن هذه التجربة “في الثمانينات قمت بأعمال أدائية بدون أسباب، وهذا كان مصدر جمالها”. هذا ويعود الجزء الأساسي من عروض الأداء هذه إلى فترة ما بين عام 1982 وعام 1984 – كما يرد في الكتاب – والتي كان يقدّمها شريف لمجموعة من الأقارب والأصدقاء المقربين في دولة الإمارات، سواء في دبي أو في صحراء حتا، وفي مدرسة “بايام شو” للفنون في لندن.

*****

خاص بأوكسجين

اسم الكتاب

تجسّد

اسم الكاتب

كريستيانا دي ماركي/ حسن شريف

الناشر

مؤسسة الشارقة للفنون 2016


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.