يا بنات الليل يا بنات العتمة
العدد 200 | 10 تشرين الأول 2016
آلاء حسانين


تضيق بنا الحياة، تضيق… نحن أبناء العوالم السفلية والحانات القذرة والأمهات القاسيات…  الأمهات اللاتي وضعننا في الظل، عند الفجر… كاتمات بكاء الوضع، كاتمات مجيئنا، نحن السواد القبيح تحت عيني العالم.

حبونا نحو الحياة، في المنحنيات الضيقة… حاملين تقرحات ركبنا وقلوبنا…  نظرنا للشمس في عينيها ومضينا نحبو، نحو الحياة… التي كانت تتراجع مع  الغروب.

تحسسنا سيقاننا المثنية، لما أتعبنا حبونا الطويل، وقلنا، نغرسها في الأرض ونضيء…  نزرعها في الطين، ونثمر… نجعلها خشبًا تتهدل الوحدة على كتفيه، وننادي الغربان.

مشينا وحدنا، دروبًا طويلة… رأينا الماضي البعيد يُعرض مثل الحلم، على جوانب الطريق… وجدنا آباءنا يضاجعون أمهاتنا في العتمة وبكينا. قلنا، نعبر هذا الحد الفاصل بين الآن والماضي، نحمي أمهاتنا، ولا نجيء. قلنا، لا نريد المجيء، لكن أمهاتنا، عرائس الدمى الصغيرة…  الآبار الموحشة، التي يفرغ فيها العالم الشبق انتصارات فحولته… أمهاتنا اللاتي يطفحن أطفالا وأحزانًا ويفضن… أمهاتنا، أيها العالم الشبق، ينجبننا بدل الدموع…  يصيّرن ماءك الحار أشجاراً تنبت في ترابهن…  أشجارًا لا تسقط أو تميل، أشجارًا مغروسة في عمق أرحامهن.

كانت السماء مرايا لنا، نظرنا لوجوهنا في الغيم، وظننا أنفسنا أمهاتنا…  قلنا، هؤلاء أمهاتنا حوريات السماء… لوّحنا للغد وقلنا، أمهاتنا الملوحات… حركنا أكفنا يمنة ويسرة وقلنا، أمهاتنا يقلدن حركات كفوفنا… عبسنا في وجه السماء ورأينا أمهاتنا تعبسن، وقلنا، لكن أمهاتنا، لا تعبسن. أخفضنا رؤسنا وحدقنا في سيقاننا الرملية، في الهاويات العميقة… وقلنا، نحن بنات إذن؟ وفي الأصابع… رأينا كلّ اصبع قضيبًا وقلنا نغذي جوع العالم… الذي يفتح فمه عبر كل مسامنا، و يبكي، مثل رضيع… الجوع للأمومة وحليبها الدافئ. تفحصنا أجسادنا وقلنا، نحن انعكاس أمهاتنا، نحن بذور استسلامهن للعالم… صرنا دمى صفراء وقلنا، نؤدي أدوارنا. استلقينا مثل بنات صالحات وفتحنا أرجلنا للعالم. وقلنا، هو أب… يفعل ما يشاء. ليغرس نقمه في قلوب بناته، لا فرق… كل بنت، هي تجسيد لرغبات الأب، هي المرأة التي يريد، ولا يجد… قلنا لا فرق… كل رجل لا يجد أمه في النساء ينجبها. كل رجل ينجب من يتمنى ولا يجد… من يرغب أن تحتضن جذوعه.

حبلنا بأبناء آبائنا ووضعنا حزنًا مشوهًا… لفظنا قلوبنا، وخنوع أمهاتنا مع الولادة وقلنا، هذي الحياة التي لا نريد… فكيف تبدو الحياة التي نريد؟

مشينا مسافات طويلة في الليل، وأدنا الرغبات في أعماق أرحامنا، وانعتقنا… لوينا أعناق أرحامنا، ومثل جرار مثقوبة، حملناها على ظهورنا و أضعناها… لمّا أردنا الوضوء للصلاة.

توضأنا بأبنائنا؟ قلنا ربما… برغبات آبائنا المحشوة في القراب؟ قلنا ربما… توضأنا بماء حياتنا… لكنّا توضأنا. لمن نصلي الآن؟ والسماء عطاس محتشد والسحب فوضى كيميائية والمطر يهطل من ضجر… لمن نصلي الآن؟ والفراغ أكثر اتساعاً من ما مضى، والأرض ربة حزينة والدنيا سواد بارد؟

لمن نصلي الان، ونحن لم نهبط من علوّ ولم تكن لنا اصطفاءات قديمة. لمن نصلي، أيها الماضون نحو الفجر، نحو الحياة التي في الشمس؟ والشمس لم تعد إلهة والقمر صخرة متعبة.

السماء هلام، يا آباءنا الداخلين إلى بيوتنا… آباؤنا الدخيلين. بعكاكيزهم و أكفهم الجافة، التي تطرق فوق الأبواب في الليل وتنادي: تعالوا…  يا بنات الليل تعالوا. يا بنات الهرم الذي في وجوه أمهاتكن تعالوا…  أمهاتكن أغلقن كل الطرق نحوهن، ونمن، قاطفات أثداءهن… و مثل الأجنة، نمن، بأرجل مضمومة.

تعالوا، يا بنات الليل، يا بنات العتمة… تعالوا… فالحياة شاسعة في الخارج، والآلهة القديمة غادرت… والرجال الكثيرون يبكون أمهات قديمات وأرامل… الرجال الكثيرون يريدون ربة، من أصلابهم، تهدهد الطفل الحزين العاري، تمسد قلبه و تلقمه كراتها. تسكن وحشة العالم في قلب الأب، الأب الرب، الأب الطفل. تعالوا… فالرب حزين ووحيد… تعالوا، فالرب يريد بنتًا و أكفًا حنونة… والعالم الموحش لا يعرف بكاء البنت… البنت وجدت كي تكون أماً، رغم إرادتها ستكون أماً… الأم تبكي وحدها في الليل، الأم تنشر أرضها لأصابع الفلاحين المتعَبة، المتعِبة، وتبكي وحدها إن شاءت، لا يهم… فالعالم حزين ووحيد، والرب يريد بنتًا صغيرة.”

*****

خاص بأوكسجين


شاعرة من مصر