ياسمينا رضا: التفاهة رغوة تطفو فوق الأعماق
العدد 173 | 17 أيار 2015
ترجمة: عزّة حسون


س: حذّرتني ناشرتك الامريكية جوديث غرويش من أنكِ لا تحبين المقابلات.

ج: ليس الأمر أنني أكره المقابلات بل أكره ترويج نفسي. لا أحب شعور الانفصال عن عملي حتى أبيعه. وفي بعض الأحيان يكون الصحفيون المتمرسون كابوساً مزعجاً وينتظرون منك زلة لسان. هم لا يملكون ما يقدمونه على الصعيد الشخصي وفي الحقيقة ليس لهم وجود. الأمر بمجمله مجرّد عمل.

 س: كتشارلي روز؟

ج: أجل. لقد رفضت أن أظهر في برنامج “تشارلي روز” لأنه النموذج المثالي لذلك النوع من الصحفيين المتمرسين ممن يسألون سلسلة من الأسئلة المكتوبة مسبقاً، ولا يُتعبون أنفسهم ليسمعوا الأجوبة. تشعر وكأنك أمام آلة أسئلة عظيمة، وهذه تجربة مريعة أُفضّل ألا أضع نفسي فيها.

س: في مسرحيتك ” الرجل الطارئ” وهي عبارة عن سلسلة من الحوارات الداخلية بين شخصيتين على متن قطار، يصف الراوي العجوز شعوره أنّ أعماله المُبكرة بعيدة عنه جداً لدرجة أنّها قد تكون لشخص آخر. كتبتِ ذلك وفي ذلك الوقت كانت قد بدأت ككاتبة، هل كنت آنذاك تتكهنين؟ وبعد عشرين عاماً على ذلك هل اتضحت الحقيقة؟

ج: الكتابة عملٌ نبوئي، ففي العشرين من عمرك أنتَ تعرف كل شيء يمكنك معرفته، ولا تحتاج إلى حياةٍ من الخبرة حتى تستطيع الكتابة عنها. هناك ما يسمى بالظاهرة الحدسيّة و هذه الظاهرة ثاقبة. أنا لا أتكلم عن نفسي فقط فالعديد من الكُتّاب يملكونها. في مسرحية “الرجل الطارئ” أتذكر ما قالته الشخصية عن أنّ العمل ” مُتكلس ولكنه حيوي بالنسبة لآخرين”. وهذا صحيح بالمطلق. فهناك شيء مُتكلس في الأعمال القديمة بمعنى عدم قدرتك على تغييرها أبداً.  في أحد الأيام حاولت أن أعيد تحرير بعضاً من مسرحياتي القديمة، كنت وقتها أبدل الناشرين، وأردت أن أغير بضع أشياء لم أحبها، ولكنني أدركت أنني لا أستطيع لأنه يتوجب علي أن أعيد كتابة العمل بالكامل! وبدا العمل كشيء غير قابل للنفاذ. لو توجب عليّ كتابة نص “الرجل الطارئ” اليوم لكتبته بطريقة مختلفة. ولكن في الوقت عينه أرى في أعمالي السابقة استمرارية قوية جداً. فهي تملك نفس الروح والكينونة ورؤية العالم، لذلك فالأمر شائك. قد يكون العمل مُتكلساً ولكن الفكر الذي أنجبه مُستمرٌ.

 س: والكتابة المسرحية تسمح للعمل بالبقاء فعّالاً بطريقة واضحة أيضاً. كيف تشعرين حيال رؤية أعمالك مُنفذة؟

ج: هذا يعتمد، وتختلف ردة فعلي باختلاف التنفيذ. فالمسرحية الجيدة أو الجيدة بما يكفي لتنجو من كاتبها وزمنها وثقافتها المحلية مُقدر لها بالضرورة وبشكل أساسي أن تُقرأ قراءة ثانية. وكلما ازداد عدد القراءات كلما كان الأمر أفضل. هذا هو الحال في أعمال تشيخوف و شكسبير وكل كُتّاب المسرح الكبار. وفي مجالي المعاصر يسعدني أن أرى تنفيذاً جديداً بقراراتٍ مختلفةٍ تماماً، بشرط أن تكون هذه القرارات سليمة، لكن إن كانت قرارات سيئة فكل شيء سيتداعى وقد يصبح الأمر مشيناً. كنت قد خجلت من رؤية أعمالي على المسرح، ولكنني الآن أكثر انتقائية رغم أنني في البداية سررت لرؤية أعمالي تُنتج وكنت أرضى بكل شيء. لقد جلست بين الجمهور محرجةً مما كتبته لأنّه وبشكل مفاجئ تتداعى اللغة. الممثلون كانوا سيئين ولم يكن هناك أي انسجام وفهم دقيق للكلمات وغابت الرؤية.

س: عند قراءتي “السعداء هم السعداء” ذهلت بالسرعة التي تتضح فيها شخصياتك، ففي اللحظة التي يظهرون فيها على الصفحة تعلم كل شيء عنهم. أوديل تذهب إلى السرير وتلتقط كتابها و بايولا تقابل حبيبتها في بيته للمرة الأولى….

ج: كتبت مسرحية (3Life x) عُرضت هنا في نيويورك من بطولة جون تورتورو (John Turturro). بدأت المسرحية بمشهد امرأة في السرير ورجل يدخل قائلاً: “يريد حلوى!” تجيب المرأة ” تعلم أنه لا يجب أن يتناول الحلوى بعد تنظيف أسنانه،” يتابع الرجل، ” أجل، ولكنه يريد الحلوى على أي حال.” ثمّ يخرج الرجل مجدداً. هكذا بدأت المسرحية وسيطر الطفل على بقية الليلة. أتى مخرج مشهور في فرنسا يُدعى روجر بلانكون (Roger Planchon)، توفي من فترة، لحضور المسرحية وسألني بعد انتهاء العرض :” كيف تتمكين من توضيح كل شيء وتخبرينا بدقة ما نحتاج معرفته وكل التفاصيل.” اعتقد أن السبب يعود إلى قلة صبري، لا يوجد شيء يضجرني في الكتابة أكثر من المقدمات الطويلة التي تتكلم بالتفصيل عن مرحلة الطفولة وكأنها حقيبة المليئة بالتفاصيل. لا يهمني حقاً أي من هذا. في الحقيقة أشعر بأنني أصل إلى المعنى بشكل مباشر من خلال دلالات واضحة يتفق عليها الجميع. لا أبحث بالضرورة عن الفاعلية ولكنني أحاول أن أبقى صادقة مع نفسي ومع كل ما أهتم به. أعتقد أنّني أملك موهبة سردية صغيرة أيضاً إلى جانب كل هذا.

من الصعب حقاً أن يُقيّم المرء عمله فهناك شيء من الإدعاء والإزعاج في ذلك. ولكن الأمر الوحيد الذي يسعني قوله هو أنني أتماهى حقاً مع عملي. أشعر بقربٍ أكبر إلى الرسام من الكاتب، فالرّسام لا يضيع الوقت. ومع كل نقطة لون يمكنه رسم زهرة. فالفن المعاصر ومنذ صعود الحركة الانطباعية يُبدي تفضيلاً للنقاط ويضحي بالسياق غير الضروري حتى يلتقط تفصيلاً دقيقاً بعينه. أؤمن بهذا كأسلوب أكثر حداثة.

س: السعداء هم السعداء رواية، ورغم هذا فكل شخصية تنخرط في حوار داخلي يمكن بسهولة أنّ يكون مسرحياً.

ج. تنبع كتابتي بشكل أساسي من الوضوح المسرحي. في كتابي كل شيء يجري في الزمن الحاضر. هناك نوع من الصبغة المسرحية  فيما أكتب. 

س: بعد قراءتي لروايتك لم أعد أميز ما إذ كنت أقلدك أو أنني سمعت نفسي بشكل مختلف بسبب ما كتبته. كيف تستطيع بدقة محاكاة أصوات الناس الداخلية؟ 

ج. بالنسبة لي فهم الشخصية يأتي من فهم صوتها الداخلي. هناك مؤلفون يفهمون شخصياتهم من خلال مصائرهم، ومن خلال سلسلة من العلامات التي تحدد حيواتهم وهذا يشبه بالملحمة. هذا ما يجعل الروايات التي تعمل على خط زمني عريض مختلفة بالضرورة عمّا أكتبه والذي يحدث في الزمن الحاضر، في اللحظة. رغم هذا فالزمن الحاضر يتطلب استخدام المونولوج الداخلي. لا يمكنك أن تكتب ” أخذت فنجان الشاي”  عليك أن تضيف شيئاً إلى ذلك حتى تعطيه عمقاً…الزمن الحاضر هو “آنية الفِكر”. 

س: أنت لا تكتبين الملاحم، وهذا واضح من محتوى كتبتك أيضاً. وما تكتبينه دوماً يتناول الأمور البسيطة، أمور الحياة اليومية، ومن خلال النثر تحولين الأمر التافه إلى أمرٍ عظيم.

ج. أجل هذا صحيح. أجد التفاهة عميقةً جداً. فالتفاهة هي الرغوة التي تطفو فوق الأعماق، والدراما البشرية لا تحتوي على حوادث تراجيدية كبيرة، فالتراجيديا تحدث بشكل طبيعي و تأخذ مدى الحياة. وهذه الدراما تحوي في الغالب على تفاصيل دقيقة وقصاصات وتجعيدات وأحداث صغيرة ثانوية وهي بمجملها تؤسس صراع الوجود وتدوم أكثر من خسارة الأم بعمر الثامنة. هذا ما أهتم به غالباً. فما أهتم به هو الكيفية التي يبلى بها نسيج الحياة و كم هو مؤلم وغير منطقي. من خلال التفاصيل الصغيرة التي قد تبدو تافهة أختار ما هو خارج عن الموضوع وسطحي وغير مناسب لسبر غوره وأبدأ البحث فيه، هكذا أكتب. 

س: يبدو أنّ الأزياء مثال قوي على هذا، ففي رواية ” السعداء هم السعداء” تقول إحدى الشخصيات أنها لم تعد تستطيع “اخفاء نفسها بالثوب” هل من الممكن أن تكون الأزياء أمراً تجريدياً؟

ج. بالطبع فالمرء يأخذ قراراً جاداً جداً بالظهور أمام العالم. ومع هذا القرار تأتي الشجاعة والرغبة بأن نكون جذابين والخوف من أن لا نكون كذلك ونشك بذواتنا. هناك على الدوام مساحة للخطأ، فالمرء بالكاد يشعر أنه كامل بما يكفي حتى يُظهر هذا للعالم. الأمر مجرّد محاولة. وبهذا المعنى يصبح ارتداء الملابس أمراً تجريدياً لأنه يشبه المحاولة  التي يواجهها المرء كل يوم مع فرص نجاح قليلة. إنه الجانب المادي لما يمر به المرء أخلاقياً. وأجده أمراً مهماً.

في رواية (Desolation ) شخصية امرأة في السبعين تجول طوال الوقت عبر المدينة باحثة عن قلم تجميلي معين وهي تعرف حق المعرفة أن ايجاده لن يغير شيئاً، ولكن يتوجب عليها ايجاده على أي حال. الأمر على قدر عظيم من الأهمية. بالنسبة لي لا يوجد شيء أكثر تجريدية وأعظم بطريقة لا عقلانية من هذا، هذا ما يمثل المعركة مع تفاهة الحياة.

س: سأقتبس من شخصية أخرى من شخصياتك،” بعد فترة من الزمن حتى الحياة تكتسب قيمة حمقاء.” هل من منطلق الأشياء لا تملك الحياة قيمة أكبر من قيمة الأزياء؟

ج. من منطلق الكتابة لا يمكني القول بوجود أمر أكثر قيمة من أمر آخر. فالثياب مهمة بقدر مواضيع أخرى كالموت أو الوحدة. ربما هذا ما يجعل كتاباتي مباشرة لمن يحب هذا النوع ومضجرة لمن لا يحبه. كل شيء متوازن.

س:دفعتني العبارة إلى التفكير بتوماس بيرنهارد (Thomas Bernhard). فأنتما تملكان النظرة عينها للحياة و لكن تعبران عنها بطرق مختلفة بشكل جذري. 

ج. توماس بيرنهارد هو أكثر من أشعر بالقرب منه في النظرة للعالم. أجده ظريفاً بأسلوبه الحماسي خاصته. الفارق الأكبر بيننا هو غياب النساء في أعماله، بينما عالمي أنثوي جداً، وهذا اختلاف جذري لأن ما هو أنثوي يعطي الازدواجية. النساء أيضاً يقدن إلى الهذر و التفاهة  كعصفة ريح قوية. ومع النساء يأتي الأطفال وهم أيضاً غير موجودين في عالم بيرنهارد. تُبرز النساء العناصر التافهة في الحياة اليومية، وهذا ما يغيب في مسرحياته أيضاً. وبغض النظر عن هذه الاختلافات فالمقارنة مناسبة.

س: أنتِ أحد المسرحيين المعاصرين ممن تسنى لهم رؤية أعمالهم تُنفذ على المسارح الأوربية و الأمريكية. هل توجد اختلافات صريحة بين المسرحين؟

ج. عندما بدأت مسيرتي منذ ثلاثين عام كان هناك العديد من المخرجين الكبار في فرنسا ولكن المشهد المسرحي انتهى  بالكامل. كانت لدينا شخصيات عظيمة من أمثال أنتوني فيتز (Antoine Vitez) وروجر بلانكون (Roger Planchon) وباتريك شيرو (Patrice Chéreau) وكلود ريجي (Claude Régy). بينما اليوم وعندما أكتب بالفرنسية لا يحضر ذهني أي مخرج مسرحي أرغب بالعمل معه بلغتي. ومسرحيتي التالية ستُنفذ بالألمانية من قبل توماس أوسترمير (Ostermeier) على مسرح شاوبون (Schaubühne) في برلين لأنه لا يوجد أحد في فرنسا لينتجها. 

أشعر أنّ المسرح الأمريكي والانكليزي دقيق ومتقن جداً، قوي البنيان وتكتسحه رغبة كبيرة للترفيه، ولكن هناك على الدوام غمز للجمهور، وهذا ما أجده مشتتاً للانتباه ومزعجاً. هذا تعميم سخيف بالطبع، وتوجد العديد من الأمثلة التي تثبت العكس، هناك بوب ويلسون (Bob Wilson) على سبيل المثال وليس الحصر. وأنا هنا أتكلم عن الإنتاج المسرحي العام في العالم الناطق بالإنكليزية.

عندما أنتجوا أول مسرحية لي في برودوي ووست اند (المنطقة الغربية من مركز لندن ومشهورة بالمسارح والموضة- المترجمة) كنت سعيدة جداً. أعتقد أن الممثلين كباراً ومشهورين، ولكن عليّ الاعتراف بأنني لم أشعر بأي رابط مع أسلوب المسرح فيها، فالممثلون الانكليز يبالغون حقاً. هذا ما فكرت به عندما كنت أشاهدهم يمثلون. لكن انتظر قليلاً! فالأمر ليس سوى اختلافات ثقافية لم أتمكن من الاعتياد عليها ولم أجد جماليتها رائعة. لدينا في أوربا تقليد المنمنات (minimalism) الذي أحبه وهناك نقيضه، النقيض الهيستيري والأهوج ولكن المختلف تماماً عن التقليد الانغلوساكسوني، وهو لا يتعامل مع الجمهور بالطريقة نفسها. 

س: هل تعطين رأيك بالإنتاج؟ هل تحاولين دفعهم لتغيير أي شيء؟

ج: إن كنت سأشارك فسأفعل ذلك مُقدماً، سأفعل ذلك باكراً. لا أتدخل معظم الوقت. تعرض مسرحياتي في كل أرجاء العالم، و لكن أحياناً وفي انتاجات وعلى  مسارح مهمة أدقق وأتابع الترجمة وشخصية المخرج والممثلين. و إن كان العرض في لندن أو برلين أو باريس فسأعيره انتباهي من كل بد. في بعض الأحيان يدعوني المخرجون لرؤية التدريبات ولكن هذا أمر نادر،وغالباً ما تكون جلسة قراءة. أقول وقتها ما أريد قوله وهنا تحصل المفاجئة. أن تتدخل ليس بالفكرة الصائبة، عليك أن تترك الأمور تأخذ مجراها. 

س: أنتِ من بين الكُتاب المسرحيين الفرنسيين المعروفين في الولايات المتحدة الأمريكية. قد يقول البعض بأنك تقدمين فكرة معينة عن فرنسا. وبما أني عشت في نيويورك لفترة طويلة فقد كنت أسمع الكثير أيضاً من “أنتِ فرنسية جداً”. هل لديك فكرة عمّا يعينه هذا؟

ج. أعتقد أنّ هذا وثيق الصلة بفكرة الموضة. أتذكر عندما نشرت في العالم الناطق باللغة الانكليزية للمرة الأولى وظهرت مسرحية (Art) في بريطانيا أجريتُ مقابلة و في منتصفها قمت بتفقد و تصحيح أحمر الشفاه. حدّقت الصحفيّة و تسمرت ثمّ قالت بارتباك شديد ” هل تضعين أحمر الشفاه؟” و أجبتها ” أجل. لمَ؟” و لاحظت أنها كتبت هذا، نظرت نحوي وقالت ” هذا فرنسي جداً!” أدركت وقتها أنّ الكاتبات عليهن أن يكن سمينات بعض الشيء يلبسن الخرق و ذوات شعر شائب، وبما أنني كنت أصحح أحمر الشفاه في منتصف المقابلة، كنت شابة تماماً وقتها، لم ينسجم هذا مع صورة الكاتبة الكبيرة. لم يكن الأمر جيداً بالنسبة لي فقد توجب علي أن أصارع تلك الصورة لفترة. 

س: أخبرتني صديقة عزيزة لي وهي فرنسية أيضاً، أنها كانت تضع أحمر الشفاه في كل مرة تجري فيها مكالمة هاتفية مهمة.

ج. أتفهم هذا جداً. وهذا منطقي تماماً.

س: ربما هذا هو التعريف النسوي لما هو فرنسي آنذاك. ماذا عن الرجال؟ بالنسبة للأمريكيين يبدو ميشيل هوليبك (Houellebecq Michel) كممثل للكاتب الفرنسي الرجل.

ج. أجل. ميشيل هوليبك يمثل حالة الذهن الفرنسية تماماً! لاشي أكثر فرنسية من ميشيل هوليبك. 

س: حقاً. مالذي تعنيه؟

 ج. من الصعب شرح الأمر، ولكن الأمر الأهم هو أن المرء عندما يقرأ ميشيل هوليبيك لا يجد تلك الحالة الكوزموبوليتية. 

(هنا تتدخل جوديث غرويش- ناشرة ياسمينا- التي انضمت في منتصف المقابلة. ” ليس يهودياً!”)

 ليس يهودياً أبداً! دون أن ننسى ذكاءه ومرحه! احترمه بشدة ولكن عقله ديكارتي جداً، مُنّظم بدقة، فرنسي جداً. رغم أنّ تفكيره ليس فرنسياً بالضرورة ولكن شخصه فرنسي. إنّه فرنسي جداً وهو منتج حقيقي للتربة الفرنسية.

س: ميشيل هوليبك، مُنتج التربة وليس يهودياً. هناك شخصية يهودية في روايته الأخيرة وهي لا تبدو يهودية جداً أيضاً.

ج. من المريح أنّها ليست يهودية جداً ( الشخصية في رواية هوليبك) فهو يرسلها إلى اسرائيل في بداية الكتاب، ولكن من الواضح أنّه لم يفهم الأمر.

س: كممثلين للأدب الفرنسي المعاصر هل تجدين أي قواسم مشتركة بينك و بين هوليبك؟

ج. أجل. أعتقد أننا من الكُتاب الأوائل في فرنسا ممن قدموا العلامات التجارية في أعمالهم. ذكرنا كيندر(Kinder) و كروسلي (Cruesli) وأبركيوبس (Apéricubes) وصور رأيناها في لوحات الاعلان، و كل أنواع العلامات التجارية. هذا ما كان غائباً في الأدب الفرنسي. فالأدب الفرنسي حاول توصيف العالم وفق مصطلحات أكثر شمولية. بدأنا أنا و هوليبك بالكتابة حول الأمور المقززة والتافهة والنقيضة لما هو مثير. لم يكن الغرض توجيه رسالة أو حتى إشارة ولكن في حقيقة الأمر كان الأمر جزءاً من الحياة. يهتم هوليبك أيضاً بالأمور التافهة التي لا يعيرها أحد أي انتباه. أعتقد أنّ هذا القاسم المشترك بيننا.

س: هذا أمر عصري جداً.

أجل. أمر عصري جداً. عندما قرأت “مهما يكن” (Whatever) صُدمت، كنت منذهلة جداً. لقد وجدتها، قلت لنفسي، وجدت التحفة الأدبية. هذا الكتاب عصري جداً، وهذا بالتحديد ما يحتاج المرء كتابته في يومنا هذا. لقد أجفلني لأنه كان قريباً مما أحاول القيام به. ليس من حيث الموضوع، الرائع والذي لن أكتبه كما فعل هو، ولكن كان فهم العالم حقيقياً وواضحاً جداً. لم يبدو مكتوباً أو معروضاً بل كان صرفاً بالكامل. وبدا أنه لم يكن هناك أي مصفاة بينه وبين الواقع الدنيء. كنت مبهورة حقا. هو الآن نجم مشهور في فرنسا.

 بالحديث عن أحمر الشفاه أتذكر حادثة عن هوليبك. فقد دعينا مرة لنكون حكاماً في مرسيليا. كنا نقف بجانب بعضنا البعض، وقبل أن نصعد المسرح قمت بوضع أحمر الشفاه. قال لي: “أنتِ محظوظة لأنك تستطيعين وضع أحمر الشفاه! أحسدك بحق. أنا لا أملك  أي شيء لأضعه.” كان مشهوراً وقتها. إنه مرحٌ جداً لقد جعل الجميع يضحك وقتها.

__________________________

*ياسمينا رضا (Yasmina Reza) كاتبة وممثلة مسرحية فرنسية من أصول إيرانية. كتبت العديد من الأعمال المهمة من بينها “Art” و “God of Carnage” (إله المجزرة) التي حولها المخرج السينمائي الاشكالي رومان بولانسكي إلى فيلم عام 2011. ترشحت ونالت أعمالها العديد من الجوائز من بينها جائزة توني لأفضل مسرحية وجائزة لورنس أوليفييه لأفضل مسرحية كوميدية. 

**أجرى الحوار فيولين هوسمان(Violaine Huisman) مديرة قسم الإنسانيات في أكاديمية بروكلين للموسيقى. 

الحوار مأخوذ عن مجلة “باريس ريفيو” ومنشور بتاريخ 20 شباط/فبراير 2005

يمكنكم الاطلاع على ترجمة شادي خرماشو لقسم مطول من مسرحية رضا “إله المجزرة” ضمن مواد هذا العدد، والقراءة عن الفيلم الذي اقتبسه رومان بولانسكي عن هذه المسرحية في زاوية “سينما”.

 

الصورة للفوتوغرافية التركية ايبرو جيلان Ebru Ceylan

*****

خاص بأوكسجين