مراوغات
الأعصابُ والجِلْدُ، فقط، هما أحزمةُ جسدي .. الأمرُ الذي لا يحتاجُ إلا إلى العبثِ الليِّنِ بأي آلةٍ حادةٍ عند المداخلِ، لتنفكَّ، وينفلتَ ويصيرَ طرياً تلوحُ للممرِّ خيوطهُ … مجردَ خرقةٍ يمسكها الولدُ الشقيُّ ويفردها مع خوفِ الصباحِ ويصنع شبكته الملونة، أو يرتاح الطيِّبُ بألا ينسى أن يثقبها، أو ينيمها عاشقان على الأعشاب فلا تتسخ المشاعر … حتى أن يبرمها المخاطرونَ ثم ينفخونَ بكلِ حماسٍ
ليُطِلَّ المنطادُ الذي سيكشف عن أذرعِ السماءِ،
الطويلةِ …..
جسدي قابلٌ للطَيِّ في علبة ولتقطيع أجزاءَ بعينها كمناديل بعد القتلِ وللشنقِ على الحبالِ بعد أن يرقصَ الدمُ في عيني … وعندما يكشطونَ بشدة، يمكن استخدامي للكتابةِ أو للشدِّ بين مهووسينَ
قبل سقوطِ المنتحرِ
الأخير ..
جسدي نافعٌ حقاً وقادرٌ على شَدِّ الألفةِ ونَحْتِها ..
لكنَّ هذا لا يعني ألا أَحِنَّ لحياتي القديمةِ .. وقتها ما عليَّ إلا أن أختار خرابةً بعيدةً وأحشوني بالتواريخ والحوادثِ المنتقاةِ بالرعشةِ واللهاثِ .. فأعوضَ ما فقدتهُ بكثرةِ الاستخدامِ وأربِّتَ على عظامي لتشتدَّ عزيمتها وتتمكن من لفقِ وتخييط الأنهارِ والساعاتِ وأعود أعدو لتقبيلِ زوجةِ جاري الميتةِ
وأنا أكثر ثقةٍ
وأحفرُ جَناحَاتٍ ..
وأحتملُ العالمَ ….
لحيتي
لحيتي كَثَّةٌ وعشوائيةٌ وعجوز، منذ أعوامٍ أحملها معي في كلِ مكانٍ، وهي في غالب الأحوال لا تفرج عن ثقلها، حتى لو اقتَنَصت الماءَ أو العَرَقَ أو القبلاتِ .. أُحسُّ بوطأتها فقط عندما أفرح من القلبِ أو أفتحَ عينيَّ فجأةً : أَجري للمرآةِ وأبتهل للدغلِ الصديقِ كيلا تصحو الرائحةُ .. مذاقُ القسوةِ في الأعطافِ .. وقتها أنكمش وأشوفها هائلةً وتشبهُ أظافرَ جَدِّي .. عندما نصحتني المَلاكةُ أن أُخَبِّيها انكسر الموسَى وأخفى البخارُ السماءَ وبعدها امتلأ الحوضُ بالدماءِ الغامقةِ: كلُ قطرةٍ تجري على أختها ويصيرانِ بحيرةً، والبحيرةُ تطيرُ وتسحبُ الحدقاتِ بعيداً بعيداً … تَوحَّشَت لحيتي بعد هذا اليوم وكلَ مساءٍ تُخرِجُ ذراعَيْنِ يقبضانِ على رقبتي فلا أتنفسُ إلا إذا رَكَلت الظِلالُ البابَ وخَلَّصتني …..
سَأعجِنُ الأسوَدَ بالسُمِّ بالأحمرِ القاني، وأدهنها برفقٍ فتنشغل عني بالدراما … والشياطين التي تقفزُ
في كلِ الأرجاءِ …
الخوفُ كلُ الخوفِ، أن تغافلني لَمَّا أُغمِضُ رعشتي وتستطيلُ وتغطيني فأُدفَنَ في شرنقةٍ لزجةٍ، مجدولةٍ من الضحكاتِ السحيقةِ ساعةَ يلهو صداها في جدرانِ روحي ….
هذا فقط ما أخشاهُ من لحيتي ..
التي تحبني ..
ولهذا تَقْصِرُ حياتها عَليَّ …..
أَبسُط الخوفَ وأقبِضُ الكلام
اعترفتُ لنفسي أخيراً وأنا في النافذةِ، أن جِلْدَ كفي قليلٌ جداً، لا يكفي لاستدراجِ يدٍ صغيرةٍ، أو مداعبةِ طيرانٍ يختبئ في رَفَّةِ الرعشةِ. لم أستطع أبداً فردَ أصابعي لمنابعها أو جَرَّها للخلفِ تمهيداً لركلِ هواءٍ أو صنعِ حربٍ .. هكذا حَفَرني أبي وكان في أيامهِ الأخيرةِ لا ينظر تجاهي خوفاً من أن يُضَّطَرَ للتساندِ عَلَيَّ وينزلق،
ويغرق في الحفرةِ ..
ظلالي كلها مَرَّت، ثم بانَ الأمرُ وأنا في فخِ نظراتي وأشبِهُ روحاً تائهةً في معطف .. لكني، كذلكَ، سأغيبُ وأنا خفيفٌ .. ربما تعطيني الأيامُ قوساً طرياً أستعيرُ به المخالبَ وأُسَتِّفَها خارجَ النوافذِ وأصطادُ بثقةٍ، من الخلفِ ومن الأمامِ ..
وربما، أفترشُ النهرَ وتَستشيرُنِي الطيورُ في خنقِ نغمتِكِ،
وربما لا أعود أصدقني ..
فأنكمشُ تحتكِ،
وأبتهلُ فيكِ ……..
عندي حَفَّارُ قبورٍ يحبني وأحبهُ
أمتلكُ مقابرَ كثيرةً ترعى حولي، وتحبُّ أن أسقيها لتزدهرَ وتغني في المواسمِ .. ومع الأيام صارت عشيرتي، التي أحسُّ أنني لا أتنفسُ إذا غابت ولا تبتسمُ إذا اختفيتُ .. الكتبُ التي أحب أشباحها، أكلمها بحرصٍ ثم أدفنها في درجٍ بعيدٍ، أراعي ألا ينغلقَ جيداً .. فيتسلل التراب ويغطي بصماتي، الرسائلُ أدسها تحتَ الملابسِ والضحكاتُ تنام تحتَ المقعدِ ويجلس فوقها العابرونَ بذكرياتِهِم الثقيلةِ ..
أُخفي كلَ شئٍ وألهثُ آخرَ النهار ..
أبي مرتاحٌ تحتَ بلاطِ الصالةِ ويكلمني بعد أن يناموا وحبيبتي سِبْتُ لمستها الصادقة التي وقعت منها فجأة، كي تتجمد وتظل تقول أحبك حتى تكبر وهي تظن أن الزمن هو الذي أرشدها في البحيْرةِ .. أصواتي التي تركضُ كلَ بَرْقٍ، أَلُمُّهُم في علبةٍ أخبَط على قلبها فتخبرني بالوقتِ .. كأنني ثَبَّتُّ عقاربَ الساعةِ على الخوف،
الخوفُ حبيبي ..
الذي دفنتهُ في قلبي
… وأغمضتُ عيني
واسترحتُ …
_________________________
القصائد من مجموعة شعرية بعنوان “بلا خبر ولا نبيذ” صدرت أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة.
*****
خاص بأوكسجين