هيَ أشياءٌ عاديّةٌ، ليس إلاّ!
العدد 186 | 12 كانون الثاني 2016
يحيى علوان


(1)

برميل

لمّا انتقلنا إلى شقّةٍ جديدة، كان ثمة برميل خشبيّ حائل اللون ينتصبُ في ركنٍ مما يسمى مجازاً حديقة، على صغر مساحتها، يستقبلُ ماء المطر المنسرب من المزريب. كان المستأجرون قبلنا يستخدمون ماءه لسقي الزهر والأعشاب. 

جارتنا الجديدة، التي تسكن فوقنا، قالت من شُرفتها المُطلّة علينا مُنبهةً :”أتمنى عليكم ألاّ تُبدّلوا البرميلَ، وإنْ بدا قديماً متهالكاً… فهو من الخشب الطبيعي، وهذا أمرٌ نادرٌ في عالمٍ يمتلىءُ بمواد مصنعة تضرُّ بالطبيعة !”

كان في البرميل ماء، يزداد منسوبه كلما هطلَ مطرٌ، ويقلُّ في الصيف، ويغدو مرتعاً لتفقيس بيوض البعوض، الذي تُصرُّ جارتنا على أنه (البعوض) جزءٌ من توازن الطبيعة!

هرمَ البرميل، فقد أكلَ الدهرُ عليه وشرِبَ – على ما يُقال! – ولم يعد يقوى على حِفظِ ما به من ماء، فراحَ يُسرِّبُ ما لا يقوى على حِفظه، عبرَ شقوقٍ في ألواح الخشب، مما أحال التربة حوله إلى بُركةٍ من الطين، ما كانت تزعجُ أحداً… 

ذاتَ يومٍ لم يصمد أحد الألواح أمامَ ثقل الماء وضغطه، فانكسرَ واندلقَ ماءٌ كثيرٌ في الطريق.

كانت بي رغبةٌ أن أستبدلَ البرميل المتهالكَ بحاويةٍ معدنيةٍ أو من البلاستيك المتين، لكن “تحذيرَ” جارتنا انتصبَ أمامي… أصلحتُ اللوحَ ورتقته بقطعة خشب، غير أنَّ المساميرَ لم تجد ما تتشبَّثُ به بقوّة.. فحزّمتُ بطنَ البرميلِ بسلكٍ، كي أُحكِمَ سَداد الفتحة.

بعدَ فترةٍ غيرِ طويلةٍ، تداعى لوحٌ آخر… أصلحته وحزمته برباطٍ جديدٍ من السلكِ أيضاً. تباعاً تداعت بقيةُ الألواح، وتسرّبَ ماءٌ كثيرٌ في الممررِّ الجانبي من الطريق… فيما كانَ المارةُ يرموننا بنظراتٍ خاصة تشي بـ “لماذا لا تستبدلون البرميلَ العجوز ؟!”

مع مرور الوقت و”عمليات الترقيع” فقدَ البرميلُ شكله الدائري، وظلَّ الماءُ ينسرب. ذاتَ

 يومٍ انهارَ، تداعت ألواحه على الأرض مثلَ خَرِبَةٍ هَدَّها زلزالٌ عنيف…!

شيّعناه إلى حاوية النفايات الطبيعية ! 

على مدى سنوات عمره، كان يحتضنُ ملايينَ من قطرات المطر… يحفظها للصيفِ، نسقي بها الزرعَ والزهرَ.. حتى صارَ كئيباً يستدعي الشفقة، مُفرَّقَ الألواح..!

استبدلناه بآخرَ معافىً.. لكنه بقيَ مستوحداً هناك في الزاوية، فاغِرَ الفاه يحلمُ بقطرٍ يبُلُّ به جوفه اليابس…!! 

 

(2)

كائن صوتي

 

هلْ مرَرتم بحالةٍ من “القَرَف” لا تستطيعون فيها فِعلَ شيءٍ أو قولَ شيء ؟!

سأحكي لكم عن “كائنِ صوتيٍّ” بامتياز ! لا هو صينيٌّ ولا فيتناميٌّ * إنه “بَلَدياتنا” 

على ما يقولُ إخوتنا الفلسطينيون!

تجلسُ معه لتناولِ وجبةٍ.. يأكلُ بنَهَمٍ حيوانيٍّ، ملءَ فمه… يُصدِرُ أصواتاً مُقرِفة لمّا يمضغ، فتضيعُ شهيَّتك، يُقرقِرُ لمّا يشرب أو يبتلع شيئاً، يتمطَّقُ، حتى بالحساء..

وحينَ ينتهي من الوجبةِ، يمسحُ فمَه بظاهرِ كفِّه، يتنفَّسُ بقوة، ينفخُ ويضربه بكفٍّ مضمومةٍ

فيتجشّأُ عالياً، ثم يُتبعها بـ “الحمدُ لله”، يُرسِلُ بعدها بزفيرٍ حادٍّ… كأنه انتهى من مهمة شاقّة!

عندما تتَطلَّعُ إليه مستغرباً، يتضايقُ فيقولُ لكَ :” مالَكَ تنظرُ إليَّ شَزراً ؟! يا أخي، دعني أستمتعُ بحريتي، فنحنُ ندفع فلوساً، وليس هناك مُتفَضِّلٌ علينا !” 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الصينيون واليابانيون وكذلك الفيتناميون يتمطقون عندما يستذوقون طعاماً أو شراباً، فالتمطُّقُ عندهم عِرفانٌ بمهارةِ الطبخ…إلخ

 

(3)

 

هكذا هو أنا

 

* لا أُحبُّ المشي مسافاتٍ طويلة.. فما عُدتُ أقوى على ذلك، لأنني مشيتُ ما يكفي لعُمرينِ أو  يزيد، حتى أُصيبت ركبتايَ بعطَبٍ لا يمكنُ إصلاحه..،              

* أُحبُّ الجلوسَ فوقَ عشبٍ يانعٍ في حقلٍ فسيحٍ.. على ضفَّةِ نهرٍ أو بحيرة..، 

* لا أُحبُّ المَطَرَ.. يُذكرني بطفولةٍ كانَ المطرُ يحوِّلُ الأزقّةَ والدرابينَ إلى أوحالٍ تمنعنا من  اللعبِ، فنلبثُ في البيوتِ يأكلنا الضجر..، 

* تسحرني زهرةٌ فوّاحة العطرِ، تتَشبَّثُ بصخرةٍ، عاريَة الجذور..،

* أُفكِّرُ بالعبور إلى “الضفة” الأُخرى، وأتركُ خلفي “النقَّ” والفقرَ وكلَّ النَكَد، الذي يُكدِّرُ   العيش..،                             

* أُحبُّ الغناءَ في شوارعَ خاويةٍ ليلاً أو في الغابة، وأضحكُ من قاعِ قلبي، كطفلً، متناسياً 

 الناسَ في القطار لمّا أقرأُ كورت توخولسكي وقفشاته الحلوة، القاطعة كالسيف..،

* لا أُحبُّ أقنعةً مطليَّة بالضحكِ، تستبطنُ الشرَّ، تَتَمترسُ خلفها وجوهٌ مُتجهّمة ! 

* أُحبُّ الرقصَ، لاسيما الفالص والتانغو، حتى إنْ لمْ أجد مَنْ تُراقصني، فأحتضنُ نفسي   وأَضمُّ يدايَ حولَ وسطي، كي لا أقعَ أو أطيرَ بعيداً، بعيداً في المدى..،

 

* أمقُتُ الخنوعَ والخيانةَ، وأحبُّ الحريةَ للآخرينَ ولنفسي..،

* أُحبُّ رائحةَ سريري، تذكرني بعطورِ أسرَّةٍ مرَّتْ بي فأسكرتني.. أدفُنُ وجهي في وسادةٍ

 تنِزُّ برائحةِ الحُب.. فتحضرُ طيوفٌ لم تَتعبْ من النقرِ على باب الذكرى،

* أكره تبريرَ الاستقواءِ بالأجنبي، فالأوطانُ ليست مِلكـاً للحُكّام، 

* أُحبُّ أنْ أُريحَ رأسي على صدرها، يحكي لي قصصاً، تُنسيني نشرةَ الأخبار، التي أُتابعها

 في التاسعة مساءاً..،

* أَتَلذّذُ بما يُصيبني من إنهاكٍ، بعدَ كلِّ إنتصارٍ… على نفسي..!

………………………..

 

هكذا هو أنا.. بكلِّ عِلاّتي! 

أَلمْ أَقُلْ لكم، هي أشياءٌ عادية، تشبه المألوفَ،

لا تحتمل التأويل ولا طَلَب “الفتوى” ؟!

________________________________________

كاتب ومترجم عراقي مقيم في برلين. درس الأدب الانكليزي في “جامعة بغداد”. عمل في الصحافة والترجمة منذ عام 1968، من مؤلفاته: “الجثة لا تسبح عكس التيار”، و”تقاسيم على وطن منفرد”. من ترجماته: ” “أيها القناع الصغير أعرفك جيداً” نصوص أدبية لأوغستو مونتيروسو، و”المشط العاج” (رواية فيتنامية)، و”حوارات المنفيين”. 

 

الصورة للفوتوغرافي الأمريكي Mitch Dobrowner

*****

خاص بأوكسجين


كاتب ومترجم عراقي مقيم في برلين. درس الأدب الانكليزي في "جامعة بغداد"". عمل في الصحافة والترجمة منذ عام 1968، من مؤلفاته: ""الجثة لا تسبح عكس التيار""، و""تقاسيم على وطن منفرد"". من ترجماته: "" ""أيها القناع الصغير أعرفك جيداً"" نصوص أدبية لأوغستو مونتيروسو، و""المشط العاج"" (رواية فيتنامية)، و""حوارات المنفيين""."