هواجس ثلج الربيع
العدد 216 | 19 تموز 2017
محمد حسين


 (١)

تذكرت أثناء قراءة رواية”ثلج الربيع”* ما أخبرتني به ذات مرة أختي التى تكبرني بعامين، بأن الفتاة لا تقع في حب فتى يصغرها… هي فقط تكتفي بنظرة استهانة تتشرب شيئاً من شفقة أم على وليدها،  الشيء الذى دفعني دوما للوقوع فى حب فتيات أكبر مني لم يبادلنني أبداً الحب…

لكن “كيو” محظوظ فهو لم يقابل أختي بل ارتبط  و”ساتوكو” التى تكبره بعامين برباط هش متردد من العاطفة، صحيح أن ساتوكو كانت تضجره بخبثها الذي يجرح حساسيته المفرطة، وتثيره وجنتاها وشعرها حتى عجيزتها وهى تنحني لالتقاط الزهور .. ينتشي بتفاخره بجمالها أمام الأميرين السياميين فى حين تمارس هي دلالها عليه بخوضها أحياناً لعبة الأم المشفقة فى حين يرفض هو لعب دور الطفل بين يدي العذراء.

حلمت أثناء القراءة بروح كيو تمتد بامتداد الشاطىء في حين تهيمن روح خادمه اينوما على المحيط، يتلاقيان فى تجسيد لحرب أشبه بالحرب اليابانية الروسية.. اينوما الغبي المتحمس يتمسك بأمجاد عهد ميجي وجد كيو بينما كيو يقود ثورة العاطفة مستعداً للتضحية من أجلها، اتفقت مع رأي صديقه هوندا الذي طرحه علي في المنام والقائل أن عهد المجد الحربي قد ولى، وآن أوان سيطرة الصراع العاطفي على المشهد مقدماً شهداءه المغتبطين على حد وصفه ..

أنا وهوندا متشابهان، كلانا يستمع إلى التنهيدات الحارة، محاولات الفضفضة عن قصص الحب الدفينة من دون أن نخوض التجربة، من دون أن نهب القلب لأحد.. فقط ننقل الرسائل والأحبة ونؤدي ما تمليه علينا واجبات الصداقة ..

(٢)

كثيراً ما أحس أن روايات ميشيما تحتاج دوماً لنوع من النساء أشبه بـ تاديشينا خادمة ساتوكو، هؤلاء العجائز الجميلات اللائي يغمرن وجوههن بالذرور البيضاء لإخفاء تجاعيد وجوههن، الفخورات بخبرتهن فى الهوى .. اللائي يمارسن خبثهن سرا، يرسمهن ميشيما متفاخرات سرا بعهرهن لا يكففن عن توقيرك حتى وهن يحملن لك السباب فى قلوبهن أو يدبرن لك مكيدة، كأنك تحس أنهن  جزء سيء من حياة ميشيما وكأنك تحس أن ميشيما يستمني على أرواحهن كل يوم مع كل فكرة تطرأ على ذهنه.

ذكرتني تاديشينا بتلك المرأة التى ابتزت شينسوكي هينوكي (من رواية حب محرم) والتي كانت تغمر وجهها أيضا بالذرور، انتقم منها ميشيما بواسطة شينسوكي …. كانت تصيبني بدفقات من الشهوة عندما ترد إلى ذهني أثناء ذهابي إلى الجامعة.

(٣)

كان عنق الأميرة كاسوجا الأبيض وجدائلها المنسدلة على قفاها قد أوقدا عاطفتي كما أوقدا عاطفة كيو، كنت أرى وهج البسمة في عينيها وكأنه لي، وكأني أنا من يحمل طرف رداءها. شممت العبق الحار للحم الأنثوي منبعثاً من جيدها مختلطاً بعطرها الفرنسي حين كان يشمه كيو في جسد ساتوكو عندما امتزج جسداهما للمرة الأولى ليكونا كتلة من الجمال الخالص على حصير رخيص في غرفة ضيقة لنزل الجنود. كيو متأكد من عاطفته، ينتشي بخرق الإيمان الامبراطوري وساتوكو كفت عن التخفي ولعب دور الوصاية، ترى في الخطيئة تطهراً، وتجازف بالعائلة والزواج من أجل امتزاج جمال جسديهما تحت ضوء القمر فى المنزل الصيفي.. يحلقون فى ثالوث الجمال والإعجاب والجنس.

(٤)

لم أكن أعلم ما كان يدور فى ذهن ساتوكو حين نهضت فى الفجر وقصت جدائلها ووقفت بين يدي بوذا، كما لو أن ميشيما نفسه لم يكن يعلم، أو كان نائماً ساعتها. بقيتُ حائراً متخبطاً طوال فصل أو ما يزيد! لم تتسرب ساتوكو إلى أحلامي، لم تخبرني عن سرها، لعلها شعرت بالحزن على ثمرة الحب الضائعة، لعلها وقعت فى حب بوذا…

أصبحت راهبة مبتدئة، أدت مراسم جز الشعر، لم تبك، لم يخالجها شعور بالأسى نحو كيو، توقفت فقط عن رؤيته، أحست بالتحرر في كل خصلة من شعرها تسقط أرضا، بدأت تندمج في عالم بوذا.

بينما الخمول والحزن يغمران كيو، وما عاد ينام إلا قليلاً ولا يتوقف عن التفكير فيها وترديد اسمها، يذوي جماله، يضطجع على العشب بجوار زميل له شبه مجزوم يجد كيف أصبحا متشابهين، نفس قماءة الوجه، نفس صوت تردد المخاط،  لعله خاف على جسده أن يقترب من القبح أكثر من هذا أو لعل ساتوكو لم تتركه وشأنه. يستلف نقوداً من هوندا ويهرب إلى المعبد لعل ساتوكو تعطف عليه بالتفاتة،  لعل حياد هوندا يسمح له برؤيتها مرة أخيرة، حتى الحمى لا تعيقه من الذهاب كل يوم من النزل إلى المعبد لعلهم يسمحون .. ساتوكو انتحبت لما علمت بما ألم به لكن ماذا ينفع البكاء؟!

 أخبر هوندا أنه قد رآه في منامه، وأنهما سيلتقيان مرة أخرى في دار أبيه تحت الشلالات. حلمت بعدها بطائر تم يسقط ريشة ذهبية على كتف هوندا كما كان يفعل بوذا مع بناته وتذكرت الكلب النافق الذي سد مجرى الشلال في دار أبيه الأمير ماتسوجاى..

بعد يومين من عودة كيواكي إلى طوكيو، مات، فى العشرين من عمره، في حين لم أكن أدرك أن اختبارات الجامعة ستبدأ بعد يومين من قراءتي للرواية.

________________________________

* إحدى روايات رباعية  يوكيو ميشيما “بحر الخصب” وهي آخر ما كتبه ميشيما ووضع به كل معارفه ومن أفضل الأعمال الأدبية والتي أقدم بعدها على الانتحار معللا ً أنه “ما من شيء يحيا بعد ذلك لأجله”.

*****

خاص بأوكسجين