هتلر في مرسيليا
العدد 246 | 01 آب 2019
توفيق مقطوف


كان ادولف هتلر في المطبخ يعد حساء الدجاج لضيوف لا يعرفهم. ورغم أوجاع الظهر التي لم يجد لها حلا لا بالأدوية التي وصفها له طبيب العمل ولا بالأعشاب الطبيعية التي نصحته بها صاحبة الشقة، إلا أنه إستقبل ضيوفه الذين لا يعرفهم، دون مشاكل، حد أنه لم يلتجىء إلى إخراج مسدسه من دولاب الملابس كما كان يفعل سابقا، ولم يتفقد مظهره في مرآة الحمام قبل فتح الباب لهم. لقد مر َّزمن طويل على هروبه من ألمانيا، ثم أنه دفع مالا كثيرا للجراح الإيطالي كي يغير في شكله الخارجي و دفع مالا أكثر لمدرس اللغات كي يعلمه الفرنسية. ظل مختبئا ثلاث سنوات في الحدود وسنة في مقبرة يهودية وسنة في كنيسة فرنسية.فكر مراراً في الإنتحار. فكر في فتح النار على دماغه. فكر في وسائل الإعلام الكثيرة التي ستسجل لحظة القبض عليه.فكر في جثته التي ستتجول من متحف إلى آخر. فكر في كل ذلك،وكاد يضع حدا لحركة دماغه لولا عيون جارته ليزا التي أوقعت بقلبه

و أخيرا،هو يعمل الآن في مطعم صغير وسط مرسيليا و يقيم في منزل بسيط. بلا أصدقاء، بلا ضباط أوفياء، بلا أعداء أيضاً.يمضي 8 ساعات في العمل ثم يعود إلى شقته كي يعتني بقطته اللطيفة و حديقته المشهورة هنالك في أحد أحياء مرسيليا .العشاء جاهز، هيا تفضلوا،قال هتلر، وهو يضع الصحون، الملاعق، الخبز و المناديل فوق طاولة المطبخ، فتقدم الضيوف، وكانوا ثلاثة رجال و امرأة. جلس هتلر على رأس المأدبة مخاطبا ضيوفه “البيت بيتكم “. أما المرأة فكانت تراقب كل حركاته، غير أنها لم تلحظ شيئا. كان هتلر متمكنا من الفرنسية. موليير نفسه لا يستطيع تسجيل خطأ واحد في كلام الرايخ. وأما البقية..وكانوا ضابطا في المخابرات الفرنسية و قاتلا مأجوراً روسياً و مستشاراً للأمن القومي الأمريكي. لم يتناولوا شيئا من الحساء، واكتفوا ببعض الخبز، غير أن مهمتهم لم تقتصر على مراقبة مخارج حروف هتلر بالنسبة للمرأة ولا بالإكتفاء بالخبز و رفض الحساء بالنسبة للرجال الثلاثة، طبعا.لذلك كانت مسدساتهم محشوة بالرصاص و عيونهم مثل عيون صقور الجبال ،تراقب أدق التفاصيل و تنتظر لحظة الهجوم.

بعد 25 دقيقة من الصمت المدقع.خاطب هتلر ضيوفه ” هناك حليب و جبن في الثلاجة إذا لم يعجبكم الحساء”..ثم أضاف ” ونبيذ أيضا لمن يشعر بالتوتر “.

كان كل شيء يمضي بلا مشاكل إلى أن نطق هتلر ” توتر ” !

لقد أخطأ خطأ فادحاً.الرجال لم يلحظوا شيئا، لكن المرأة التي كانت تجلس على يمينه قبضت على الخيط أخيرا. غير أنها لم تشر إلى الرجال بالتحرك، بل إكتفت بتدخين سيجارة ،قائلة ” الفرنسيون بارعون في إعداد حساء الدجاج، لكن هذا الحساء يشبه جثة متعفنة في بحيرة دم”..”أليس كذلك أيها السادة ” ؟!.

قال ضابط المخابرات الفرنسية “حساء قذر، أريد تقيء حياتي “. وأضاف القاتل المأجور ” لماذا لا تقدم لنا شرائح لحم من مؤخرتك اللعينة بدل الحليب و الجبن “.أما المستشار الأمريكي فلم ينبس ببنت شفة. بعد ذلك سمع الجميع جلبة في الشارع.كان هناك أطفال ونساء يهربون مذعورين، ورجال شرطة يأمرون الناس بالدخول إلى مساكنهم، بينما مسلحون – فهم هتلر أنهم قناصة – يصعدون سطوح المنازل.نهض هتلر، ونهض الضيوف.دفعه ضابط المخابرات إلى الخلف، و تقدم القاتل الروسي محاولا تقييد يديه. وكادوا يسيطرون عليه، لو أن قتبلة يدوية لم تسقط في المطبخ و يهرب هتلر من الشرفة.

أخبره عجوز من شمال إفريقيا أن معركة دامية تدور في مرسيليا بين رجال الشرطة و ضباط ألمان. كانت هناك بالفعل أخبار تقول أن المخابرات الفرنسية تشك في وجود ضباط ألمان في مرسيليا و تحقق مع جميع المتساكنين. أدولف هتلر نفسه كان يختبىء في مرسيليا منذ فترة.لكنه لم يلحظ شيئا.

طلب منه العجوز أن يعود إلى شقته، لأن رجال الشرطة لن يترددوا في إطلاق النار على كل من لا يلتزم بأوامرهم. ثم أضاف مازحا “لقد وضع الرئيس مكافأة مغرية لمن يدلهم على مكان هتلر و ضباطه.ملامحك تشبه الألماني العنيد يا صديقي، هل أدلهم عليك و نتقاسم الجائزة ” .

لم يكترث هتلر لحديث العجوز. كان يفكر في قطته التي تخاف من أصوات الرصاص، وفي حديقته التي ستؤذي القنابل ورودها اللطيفة.

وحين ابتعد خطواتٍ عن العجوز، وجد نفسه وجها لوجه مع شرطي فرنسي يقف مستعداً لإطلاق النار.

كان حارسه الشخصي. الرجل الذي ساعده على الهروب ولم يطعنه في الظهر كما فعل بقية الضباط.

لم يكن يشبهه. حارسه لم يكن يتكلم الفرنسية، وهذا الرجل يتكلمها بطلاقة. حارسه شاب صغير، وهذا الرجل تقول ملامحه أنه تجاوز الأربعين.

لكن هتلر كان متأكدا أنه حارسه الشخصي.

تقدم الشرطي منه و أمره أن يضع يديه على رأسه دون أي حركة وإلا فتح النار في دماغه. ثم فتشه بحذر.ووجد في جيب معطفه خطابا مكتوبا بخط اليد و مذيلا بتوقيع أدولف هتلر.

شعر الشرطي ببعض التوتر. لم يكن يجيد الألمانية. ثم طلب من هتلر أن يقرأ محتوى الورقة.وقرأ هتلر النص دون إرتباك ” إلى العزيز طوني من جارتك ليزا ؛

سأسافر إلى الجنوب و قد أغيب أسبوعين.أخبروني أن زوجي قتل و علي الإهتمام بمصاريف الدفن. لقد أوصى بدفنه هناك كما تعلم.اهتم بالقطة المسكينة و الحديقة لو سمحت.

 

إلى اللقاء.

 

ليزا.”

 

كان هتلر يقرأ الرسالة بتأثر بالغ، و الشرطي يستمع إليه دون أن يسجل ملاحظة واحدة ضده.

لكن تأثر هتلر لم ينقذه من الورطة،فالرجل زاد توتره، وسدد مسدسه نحوه ثم أمره بالتقدم أمامه دون إعتراض. فتقدم هتلر،وتبعه الشرطي .

بعد دقائق،سأل هتلر الشرطي أين يأخذه. فلم يجبه.فجأة توقفا وكانت جثث كثيرة تمنع تقدمهما.تعرف هتلر على بعض الجثث رغم أنها كانت مشوهة تماما، ثم خاطب الشرطي من دون أن يلتفت خلفه “إنتبه.هذا فخ.”

غير أن الشرطي لم يهتم لكلامه.بل قرَّب المسدس إلى رأسه ،قائلا ” جرّب أن تتحرك و سأفجر دماغك “.

قال هتلر ” أقول لك هذا فخ.ستخرج شياطين من هذه الجثث ولن تجد وقتا لحماية دماغك .”

وما أن أتم هتلر كلامه،حتى خرج من الجثث ثلاثة رجال و إمرأة.لم يجد مشكلة في التعرف عليهم.كانوا الضيوف الذين إستقبلهم منذ ساعات في شقته.أخرج القاتل المأجور مسدسه على طريقة رعاة البقر متحفزا لإطلاق النار على هتلر. أما المرأة فكانت متأكدة أن الطباخ الفرنسي هو هتلر. حسنا،هو ليس هتلر. لكنها متأكدة أنه هو.

في تلك اللحظة،كانت الرصاصة في مسدس القاتل الروسي تتجهز لتفجير دماغ هتلر.لو لم تحاصر المكان فرقة خاصة من الأمن الفرنسي و تطلب من الجميع إنزال أسلحتهم و إلتزام الهدوء.و من مكبرات الصوت سمع الجميع خبر انتحار أدولف هتلر صحبة عشيقته منذ قليل في ألمانيا.في تلك الليلة،لم تنم فرنسا أبدا.خرج الجميع إلى الشارع إحتفالا بالنصر وهزيمة ألمانيا.

هتلر خرج أيضا.و صلى في الكنيسة شاكرا الرب لأنه ساعد قطة جارته على النجاة من الرصاص و وورود الحديقة من القنابل اليدوية. الرجل العجوز أيضا كان في الكنيسة و خاطب هتلر مازحا “من اللعين الذي فاز بالمكافأة بينما أنت الآن في مرسيليا تحتفل بالنصر ؟”


شاعر من تونس.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: