عولمة شعرية مضادة
العدد 281 | 29 كانون الأول 2023
خلدون الشمعة


في شهادتي عن نتاج الشاعر الكبير نوري الجراح يكاد مصطلح العولمة Globalization ينسحب على القدر الأعظم من قصائده إذا لم نقل كلها. ومن المعروف أن العولمة يمكن ردها بصيغتها المنتمية إلى المركزية الأوروبية إلى المناقشات احتدمت حول الإنسانية في فكرة التنوير التي تقود إلى القرن الثامن عشر.

ويمكن استخلاص العولمة من أفكار القرن التاسع عشر لدى ماركس الذي رأى أنها تتصل بتوسع الرأسمالية، ولدى دوركهايم الذي لاحظ علاقتها بتقسيم العمل. عولمة شاعرنا لا علاقة لها بهذا الضرب من التفسير، ومن الأصوب الحديث هنا عن عولمة ثقافية مختلفة تتصل باكتشافه للدور الذي لعبته بلادنا (سورية ومصر وآسيا الصغرى) بإغناء الحضارة اليونانية (الهيلينية) وأقصد بذلك بروز ما دعي بـ “الهيلينستية”، أي تأثير حضارة بلاد الشام على الحضارة الهيلينية. واكتفي هنا بذكر: دامسكوس الدمشقي، وفيلونايدوس اللاوديسي اللاذقي، وبوسيدونيوس الآفامي، ولنجينيوس الحمصي (مستشار الملكة زنوبيا) وميليا غروس الجداري، وآخرين كثر. ولعل الاسم البارز الذي تحفظه السجلات الإغريقية للمؤثر الهيلينيستي هو قدموس ابن الملك أغينور الصوري الذي علم شقيقته يوروبا الكتابة، واختطفها زيوس حسب الأسطورة الإغريقية وتحولت رحلة البحث عنها إلى ترميز أسطوري لرحلة نقل الحضارة من شرق المتوسط إلى غربه، وقد وسمت القارة باسمها.

أهمية تركيز نوري الجراح على الهيلنيستية في شعره وفكره يمكن إيضاحها بالعودة على كتاب مهم صدر في بريطانيا في ثلاثة أجزاء لمارتن برنال تحت عنوان “أثينا السوداء”. والمقصود بهذه الصفة “السوداء” ليس اللون، بل مغايرة اللون السائد أي لون المركزية الأوروبية.  وحسب هذه المركزية برزت الحضارة الهيلينية (اليونانية) كنتيجة لاجتياح الآريين الذين يتحدثون بالأوروبية لليونان آتين من الشمال.  لكن اليونانيين حملة الحضارة الكلاسيكية لا يذكرون شيئاً على ما يدعى بـ”الموديل الآري” للحضارة. ويبرهن برنال في كتابه المهم على أن اليونانيين القدماء على الرغم من اعتزازهم بما أنجزوه لم يشيروا في مدوناتهم المتعلقة بالمؤسسات السياسية والعلم والفلسفة والدين والفن إلى كون ما حققوه أصيلاً أو خلق نفسه بنفسه. وقد استمدوا حضارتهم من الشرق عموماً ومن بلاد الشام ومصر على وجه الخصوص. وقد كان مارتن برنال (قبل وفاته بطبيعة الحال) علماً من أعلام الصينيات بجامعة كيمبردج. وقد خصص من حياته ما ينوف على عشر سنوات لتأليف كتابه “أثينا السوداء” الذي تعقب فيه جذور ما يدعى بالحضارة الكلاسيكية. وفي هذا الكتاب برهن على أن أكثر من نصف الأبجدية اليونانية القديمة مستمد مما يدعى الآن بالشرق الأوسط.

وقبل زمن غير بعيد كتبتُ دراسة مشفوعة بمختارات من شعر نوري الجراح نشرت تحت عنوان “رسائل أوديسيوس” في طبعتين متعاقبتين قاهرية وبيروتية، أشرت فيها إلى أن هذه التجربة الشعرية الرائدة تحملني على استعادة كلام هوميروس في الأوديسة، وهو كلام يجد صداه في قصائد الشاعر الذي يستعيد فيه أصوات مقتلة دمشق التي يتقاطب فيها اليومي السوري والأسطوري الإغريقي:

“ادفنونا في الزوارق وادفنوا الزوارق في البحر

لا قبر في الأرض يسع صوت الناي”.

في هذه التغريبة السورية أكاد أسمع كلام هوميروس في الأوديسة عن المهاجرين السوريين إلى اليونان، عن صناع الهيلينيستية الآنفة الذكر، وهو يقول إنهم “عمال عموميون”. وقد قصد بهم الحرفيين المهرة الذين دشنوا دوراً مركزياً في صناعة الثقافة الهيلينية (اليونانية القديمة) وهؤلاء العمال العموميون يجمعون حسب هوميروس بين “العراف والطبيب ومضمد الجراح وبين النجار والبنّاء والمغني الإلهي”، والأخير بلغة هوميروس هو الرائي قطب علاقة الاتصال، المد والجزر، التأثر والتأثير بين الثقافة الإغريقية ومصادرها السورية القديمة.

في استعادته البديعة لتراث حضاري مشترك يفتح نوري الجراح الهامش على المركز والمركز على الهامش، في سيرورة إرث ميثولوجي متوسطي متصل ومتواصل. والحال أنني لا أتلعثم إذ أقول إن أيقونية تجربة نوري الجراح لا تكمن في أنه أدخل تأويله الشخصي على الشعر الملحمي فحسب، بل في أنه تمكن في شعره، وفي “لا حرب في طروادة: كلمات هوميروس الأخيرة” على وجه التحديد، وفقاً للموهبة الأكثر إفصاحاً، من أن يدخل جنساً أدبياً جديداً كل الجدة على الشعر العربي، وأعني به “الملحمة النقيض” Mock – epic  وهو جنس أدبي معروف في الأدب الإنكليزي لا يقلد ولا يحاكي، بل يسخر من البطولة نفسها في مواجهة المأساة.

وعلى مقلب آخر متصل بالجنس الملحمي، في ملحمة عنوانها “الأفعوان الحجري: مرثية برعتا التدمري لمحبوبته ريجينا”، أحدث أعمال الشاعر، استثمار بارع لاكتشاف أثر بريطاني بالقرب من “جدار هادريان” في شمال الجزيرة، يتعلق بفتى لوحته شمس تدمر، مقاتل، أو ربما تاجر، يصل إلى حصن روماني في جوار الجدار ويقيم هناك ضريحا لفتاة سلتية مستعبدة، هام بها حبا قبل ألفي عام، فيحررها من الأسر الروماني، ويدون على النصب الجنائزي بلغته الآرامية التدمرية اسمه واسمها وعبارات الحزن على موتها شابة. ذلك السطر المنقوش باللغة الأم لمهاجر تدمري على حجر روماني في حصن لحامية رومانية بالقرب من “جدار هادريان” أشعل مخيلة شاعرنا وله -كما عبَّر- تدين هذه القصيدة الملحمية المفاجئة، والتي تضيف، وللمرة الأولى، إلى ثقافة اللغتين العربية والإنكليزية بلغة ملحمية زاخرة، أيقونة عولمة للحب العابر للجغرافيا والثقافة أقدم من كل ما عرفنا من أيقونات الحب المرتبط بالمأساة.

“الأفعوان الحجري” عمل شعري أخاذ يفتتح في رأيي وجوداً فاتنا لقصة مذهلة الجمال وعميقة المعنى، سيبقى طويلا في ذاكرة الثقافة العربية وقراء الشعر. ففي هذه الملحمة الجسور رحلة شعرية مبتكرة لملمح مقموع عادة، ملمح مسكوت عنه، أو ربما منسي كلياً في التراثين الأدبي الأنكليزي والعربي.

والحال أن كلا التراثين لا يمكن أن يقيّما نقدياً أو ينظر إليهما على النحو نفسه بعد الآن، في ضوء هذا الأثر الشعري. رحلة الشاعر السوري هنا، هي في تقديري سيرنادا شرقية الطرازEastern Serenade لحن يعزف في الهواء الطلق من قبل فارس تدمري قادم من الشرق ليحرر ريجينا السلتية القادمة من الشمال، عاشق يطل على شرفة محبوبته مسطراً شهادة اخاذة على القدرة على الإبداع الشعري.

ولعلها في المآل الأخير مقاربة حداثية تجعل القدامة (الملحمة) جنساً أدبياً ناطقاً بالكشف والإضاءة.

لندن في 19-9-2023

*****

خاص بأوكسجين


ناقد من سورية. من إصداراته: "النقد والحرية"، و"المنهج والمصطلح"، و"شعرية الحقيقة"، و"كعبُ أخيل: النقد الثقافي والنقض المعرفي"، والمختلف والمؤتلف".