أنعي إليكم رجلا لم يكن ليتذكر اسمي إلا لماما.
رجل لم أكن أره في السنة إلا مرة أو مرتين، ولكنه توفي أمس. وللموت فوائد كثيرة؛ أهمها أنه يمركز ويبئر أشخاصا ما كنا لنتذكر الجدوى من تذكرهم لولا موتهم. الموت وحده يشعل الذكرى؛ حتى المرض ليس بالسبب الكافي لتذكر جد أو خالة هذه الأيام، فالكل يمرض ببلداننا، ومن الذي ليس مريضا في بلد يُرضعه الذل، يسقيه العبث، وينيمه على الأكاذيب.
لسبب ما شعرت أن من واجبي أن أبكي وأحزن. ولكن كل ما فكرت في الأمر وجدته عبثيا. حينما قرأت رواية “الغريب” منذ سنوات كثيرة، كان الجميع يتوقف عند جملته الأولى “أمي ماتت اليوم أو ربما أمس”. يتفكرون في العبارة ثم يرفعون رؤوسهم: “هنا تتبدى معالم العبثية التي كان يؤمن بها كامي، قمة العبث أن يلقي بخبر بهذا الثقل بهذه البساطة”. لم يعلموا أن أثقل المشاعر يجب أن تقال بأبسط الكلمات، لا عمق في اللغة وليس لك إلا أن تنهل من سطحها ما استطعت.
أنا أيضا جدي مات اليوم أو ربما أمس. لا هو فعليا توفي أمس لأنهم اتصلوا أمس ليخبروني. يوثق الهاتف أن كل المكالمات كانت بالأمس، وأنا التي لا تكاد تضع هاتفها من ملل وتكرار اليومي رأيت الخبر متأخرا لأسباب كيفية، ليس الكيف بمعنى الجودة، وإنما الكيف بكسر الكاف، أي مزاجية.
حينما سمعت الخبر، شعرت بتأنيب ضمير، ففي اللحظة التي كان هو يحتضر، كنت أنا أدخن سيجارة حشيش وأتمدد في الحديقة قرب ولد قابلته للتو في “تيندر”. فكرت: ترى ماذا كان بقية أحفاده وأبنائه يصنعون في تلك اللحظة، علما أننا جميعا عائلة “كييفة”، وإن كنا لا نصارح بعضنا بذلك.
المضحك أو المزعج أن جدي مات في الحج، ميتة عظيمة لرجل لم يفلح في أن يجعل ولا واحد من أبنائه مؤمنا. أبي كان أعظم ضحاياه، لأنه اصطفاه دون غيره من أبنائه الذين دخلوا المدرسة (وفشلوا فيها فشلا عظيما) ليدخل الكتّاب حتى يحفظ كتاب الله، ولكنه هرب منه وانتهى مكانيكيا في الثالثة عشرة من عمره.
اليوم، في جنازته أعرف أن لا أحد منهم سيأتي على ذكره سوءاته، سيحتفظون بها لأنفسهم، أو لأبنائهم إذ إنهم جميعا ماهرون في اقتسام الخيبات. لن يفتحوا ملف الخزي إلا بعد انتهاء العزاء. وسيحتفظون للمعزين بألمع وأحزن الوجوه. سيطأطئون رؤوسهم وسيقولون بفخر (وربما بصدق كذلك) لقد كان رجلا ليس كغيره من الرجال. ولكنه في الحقيقة كان ككل بني جلدته، رُبي على القهر ومات من القهر. ومن لم يمت في أوطاننا من القهر والجهل مات من الحزن والفقر والروتين. هم يريدونه عظيما في موته لأنه لم يكن كذلك في حياتهم ولا في حياته. سيأخرون حكاياته القاسية التي نعرف منها الكثير، إلى أن يرحل الجميع. فللموت قدسية. والمعزون ولو حسنت نواياهم يظلون أغرابا، وليس للفضائح أن تخرج من بيننا، حتى لو خرجنا نحن فلتبق فضائحنا.
ولكنه لم يمت هنا، هو نفسه لم يستطع البقاء. أبى إلا أن يموت بين جموع غفيرة من الغرباء، تركت بدورها كل شيء لتلف حول حجارة، ولتموت بأرض صدُف أن أحدا ما منذ قرون غفيرة سمع صوتا من السماء فيها.
أغرب اللحظات هي تلك التي ترى في عيون الآخرين الحزن الذي كان من المفترض أن تشعر به أنت. حينما يلتفتون إليك كمرآة يوتوبيّة ويواجهونك هذا ما كان يجب أن تكون عليه، هذه العيون الحمراء كان من المفترض أن تكون عينيك أنت. هذه الابتسامة الحزينة كان يجب أن تكون على وجهك أنت.
ولكنني بدوري حزينة، حزينة بطريقتي.
حزينة على الحياة التي لم يعشها جدي لأنه كان مشغولا بتكديس بضع ملاليم لن تنفع أكداس البشر التي تركها وراءه. لو أنه كان أسعدهم. لو أنه كان أبا لهم. لو أنه لم يطرد أبي من بيته. لا يهم الآن. لا أحد يعود. ولنحتفظ بالبقية البقية من الوصية الجماعية “اذكروا محاسن موتاكم”. وحدها مجتمعاتنا تخترع أشباه هذه التوصيات، لأنهم يعلمون أن محاسننا استثناء لذا وجب التنصيص عليها. عموما، على حقارة المبلغ الذي قد يكون قد تركه، وعلى عفانة البيت الذي كان يسكنه، أعلم أن أعمامي يتقاسمونها الآن. كل ما آمل به أن يكون التقسيم قد انتظر كما انتظرت الحكايات المخجلة رحيل الأغراب. كان جدي دائما يقول قد لا تمشون في جنازتي لأنكم ستكونون مشغولين بتقسيم ما تركت (يا لحقارة ما تركت ومن تركت)، وفعلا لم يمش أحد منا في جنازته لأنه مات في أرض بعيدة؛ قد تكون الأقدس ولكنها بالتأكيد أكثر تكلفة من أن نستطيع قصدها جميعا من أجله؛ هو الذي لم يبق هنا.
حزينة على الخمسة أعمام الذين ماتوا في ما يشبه الطفولة لعدم توفر الدواء، حزينة على أعمامي الثمانية الذين عاشوا ما يشبه الحياة في انتظار الحياة، حزينة على أبي الذي تمرّس في النط على السطوح حتى يرى أمه بعد طرده.
حزينة على جدي الذي عاش حياته جبارا، ومات من ضربة شمس.
*****
خاص بأوكسجين