من مصر إلى إيطاليا: البحر من أمامنا والموت أيضاً 2/2
العدد 159 | 06 تشرين الأول 2014
نجيب مظلوم


المركب التائه

لم تخطر لي إلا رباعية صلاح جاهين:

“نوح راح لحاله والطوفان استمر… مركبنا لسه تايهه مش لاقيه بر

آه من الطوفان وآهين يا بر الامان… ازاي تبان، والدنيا مليانه شر

وعجبي”

 

عملية الإنزال من المركب الحديدي إلى المركب الخشبي كانت مخيفة بسبب تقلب أمواج البحر. كان البحارة بعد أن أنزلوا الشباب يرمون الأطفال إليهم والنساء، حيث كان علي وأبو كاسم وأبو نادر وأبو خالد أن نتولى هذه المهمة.

تجمعنا في المركب الصغير كيوم الحشر. العنابر التي من المفترض أن تتسع للمراهقين المصريين لم يكن بإمكانها أن تتسع لثلثهم. حاولنا الاتصال بالصليب الأحمر فقالوا أنتم بعيدون جداً عن أي بوارج، ويجب أن نبحر مسافة يوم على الأقل قبل أن تصل الينا أي وسيلة إنقاذ. أفرغت ما بجوفي للمرة الأولى، ربما بسبب نوعية المياه التي كنا نشربها في اليوم الفائت على المركب الحديدي مترافقة مع العاصفة.

وكالعادة ترافق الحظ السيء مع رفيقه “خائب الرجاء”، وبدأت المياه في التدفق الى المركب من أحد العنابر، فتعاون الشباب على تفريغ المياه، لكن مياه الشرب كانت بدأت بالنفاد بعد أقل من 10 ساعات من صعودنا المركب الخشبي، فبدأنا بشرب مياه تصفية المحرك المشبعة بالمازوت، إلا أن هذا الوضع ازداد خطورة في اليوم التالي، وبدأت الناس تتذمر من شدة الحر ونقص المياه الشديد والازدحام في المركب وهزال الأجسام، فكثرت المشادات لأتفه الأسباب، وأصبح من الاستحالة بمكان السيطرة على اليافعين المصريين الذين تطور النزاع بينهم إلى اشتباك بالأيدي، وبدأت معنويات المسافرين بالهبوط.

 

كبش “الدكتور”

اتصلنا آخر النهار بالصليب الأحمر مجدداً، وقدمنا لهم إحداثيات المكان ووعدونا خلال بضع ساعات بالنجدة، وما أن حل الليل حتى ظهر ضوء بعيد في الأفق ظنه البعض بارجة وصاحوا بتكهناتهم عالياً -خاصة “الشيخ سامي”- الأمر الذي أخاف القبطان الشاب وجعله يرمي جهاز الثريا وسيلة الاتصال الوحيدة على متن المركب، لكن سرعان ما خبت الأضواء وانقطعنا تماماً عن العالم مع عجز أجهزة الخليوي عن التقاط أي إشارة ونحن وسط المياه الدولية، جنوبنا بنغازي، وشمالنا اليونان، وغربنا إيطاليا وكل منها تبعد مسافة لا تقل عن 400 كيلومتر. تبين لنا فيما بعد أن رمي جهاز الثريا من القبطان الشاب كان بناء على تعليمات المهربين عند وصول البارجة او الطيران وذلك حتى لا يتم تعقب اتصالات المهربين بالمركب وتنفضح شخوصهم. 

طبعاً فهذا البحار اليافع في الوقت الذي يسلم نفسه للبحرية الإيطالية -فداء للـــ “الدكتور”- سيمضي 7 سنوات من زهرة عمره، في السجون الإيطالية اذا ما تم اكتشاف أمره (وعلى الغالب يتم ذلك) مقابل مبلغ لا يتعدى 5000 دولار، في لعبة متكاملة تتورط فيه الحكومة الإيطالية أيضاً، وذلك لعلمهم بأن هذا البحار هو مجرد كبش فداء لمهربين كبار، وقبولهم بإنهاء القصة على الشكل المرسوم.

 

اليوم اليائس

لا ماء حتى للأطفال!

نخلط بقايا مياه تصفية المحرك مع الحليب ليشرب الرضع. التجفاف بلغ أشده. كذا الإعياء والعصبية والإغماء المتكرر لمن تحت لهيب الشمس.

قرر البعض استعمال مياه البحر للشرب بعد تحليتها بالسكر، وشرب بعضهم بضع جرعات ولكني مع بعض الشباب ردعناهم، وأقنعناهم بان هذه المياه تزيد العطش وتؤدي الى الفشل الكلوي.

لا غيارات كافية للأطفال، وبعض الأكبر سناً منهم لا يتوقف عن التقيؤ كلما حاول أهلهم إطعامهم شيئاً.

فيما يحاول الطبيب عبد الجليل معالجة حالات الدوار وفقدان الوعي بالكولونيا ورفع أقدام الشخص الدائخ، ولكن ما أسقط بيد ذلك الطبيب المجتهد حالة امرأة حامل لم تتوقف عن النزيف منذ يوم مضى، ورغم أنه يرعى ثلاث حوامل أخريات كانت حالتهن أكثر استقراراً إلا أنه كان يخشى عليها من الإجهاض ويبذل قصارى جهده. 

بعض الأشخاص طالب بالعودة الى مصر وبعضهم طالب بالتوجه شمالاً إلى اليونان، فيما تساءل أحدهم لم لا نبحر جنوباً الى بنغازي، خاصة بعد أن استلمنا دفة المركب لأننا وجدنا على الجي بي آس أن البحار لا يبحر بطريقة صحيحة، فاختارنا عدة أشخاص لننقذ الموقف، واعتمدوا على أجهزتنا الخلوية في التواصل مع الأقمار الصناعية لتحديد الموقع بلا إنترنيت أو اتصال طبعاً، وتناوبت على قيادة القارب أنا وطبيب الأسنان الشاب فراس وآخر اسمه نورس من درعا، متجهين مباشرة نحو الشمال الغربي إلى إيطاليا، والناس تصرخ وتضج وتقاتل بعضها بكل أنانية، مما دفعني مع صديق الرحلة أبو بحر إلى ترديد أغنية سميح شقير بصوت منخفض:

لهفي عا سفينة بين رياح وموج

مكسورة الصواري من رياح الهوج

ورجال السفينة اختلفوا.. ضيعانك يا سفينة..

 

ليماصول الأمل

لاحت في الأفق الشمالي ناقلة نفط اسمها ليماصول -قبرصية على الأرجح. غيرنا الاتجاه ولحقنا بها، ملوحين بسترات النجاة. بعد عدة مناورات نجحت محاولاتنا وتوقفت على بعد مسافة قريبة، وبان قبطانها أو مساعده مع منظاره المكبر، وطلب منا الابتعاد بعد ربع ساعة من الانتظار.

هبطت الآمال مجدداً، وأعدنا الدفة صوب الأراضي الإيطالية، ولكننا لاحظنا أن الناقلة، لم تكمل الإبحار باتجاه خط سيرها بل أصبحت تتابعنا من بعيد، فعرفت أنها ووفقا للقوانين البحرية ستتصل بفرق الإنقاذ.

بعد إبحار استمر أربع ساعات ضجّت الناس كثيراً، فقررنا المحاولة ثانية مع الناقلة ولكن هذه المرة من أجل أن تزودنا بالمياه فقط. وفعلا حولنا المسار باتجاهها ولوحنا لها بقناني المياه، وبعد ربع ساعة ألقوا لنا بشيء في المياه، وفي اللحظة نفسها ظهرت طائرة استطلاع.

ظن البعض أن ما أنزلوه في الماء مجرد إشارة كي ترشدنا إلى الاتجاه الذي يتوجب علينا سلوكه، فتوجهنا الى المكان ليتبن أنها عبوات مياه مربوطة بسترة نجاة كي تعوم.

تهيأت للنزول ولكن سبقني علي أحد الشباب الدمشقيين للنزول بينما كنت وراء الدفة، وفي دقائق طارت ثلاث عبوات من المياه النظيفة حاولت عبثاً اقناع من يوزعون المياه  بتخصيصها للأطفال.

بعد ساعة ظهرت بارجة حربية قادمة من الشمال: من جهة اليونان. فما كان من الناقلة إلا أن حاولت قطع طريقنا كي نتجه نحو البارجة اليونانية، ولكننا قررنا عدم تسليم أنفسنا بعد هذه المشقة للسلطات اليونانية، لأن الهرب مجدداً من اليونان الى أوروبا الغربية سيتطلب انتظاراً ومالاً إضافيين، ومما عزز قرارنا بعدم التسليم لليونان هو أن ناقلة النفط بقيت قريبة منا في حال حصول أي طارئ.

رمت الناقلة مجدداً مياه الشرب، فنزلنا أنا وشاب من الساحل السوري لإحضارها على اعتبار أن الكمية أكبر، وفعلا رغم الاقتتال على المياه الا أن الجميع استعاد الحياة بعدما شرب، فيما كنت أنتظر أسفل المركب ريثما ينتهون من التنازع على المياه كي يسحبوا الحبل وأصعد، بعد أن عجزت عن تسلق الحبل لشد عضلي في ظهري، وتم الأمر.

وتابعنا مسيرنا بضعة ساعات حتى وجدتنا بارجة بحرية إيطالية بعيداً عن المياه الإقليمية الإيطالية مسافة 200 ميل بحري.

 

رحلة الإنقاذ

يوم 24/6/2014 نزلت المراكب المطاطية السريعة من البارجة، ووزعت بعض المياه وستر الإنقاذ علينا، وبدأت في عملية التحميل على دفعات الأطفال والنساء أولا ثم الرجال.

على البارجة بدونا كالجراثيم أمام بدلات التعقيم التي يلبسها الطاقم ابتداء من الكمامات على الأنف إلى السترات النظيفة الواقية.

وعند الساعة الخامسة عصراً، وضعوا الرجال على سطح البارجة في مدرج طائرات الهليكوبتر، والنساء داخل حظيرة الطائرات، وبعد التفتيش وزعوا علينا الكثير من المياه وبعض الطعام، ثم وزعوا علينا أرقاماً بعد السؤال عن العمر والجنسية، وقدموا سوائل منع التجفاف للأطفال والنساء.

بقينا على ظهر الناقلة التي أبحرت بنا يوماً كاملا، لنصل عصر يوم 25/6/2014  إلى ميناء Taranto جنوب إيطاليا حيث كان باستقبالنا مجموعة من الصحفيين وسيارات الإسعاف، والشرطة، وتم وضع الشباب في مخيم مخصص للاجئين السياسيين قرب مدينة Bari على بعد ساعة شمال مدينة Taranto، حيث تمكنا أخيراً من الاستحمام ودخول المرحاض، والتهام الطعام، والأهم من كل ذلك التفاح الأخضر.

وفي اليوم الثاني عرضونا على الطبيب لمعالجة آثار الرحلة، ثم هربنا من المخيم في عصر ذلك اليوم كي لا نضطر إلى الخضوع لبصمة إيطاليا.

توجهنا شمالاً إلى ميلانو، كي ينطلق كل منا في رحلته الجديدة إلى البلد الذي اختاره بعد طول تردد، لكن الأكيد أن في نفس كل شخص شرخ اسمه رحلة قارب الموت وعبئاً على ضميره عند تذكر لحظات الأنانية التي عاشها، ومدى هشاشة الحياة.

 

ميلانو: محطة الرحيل

تخرج من محطة قطارات ميلانو الرئيسية، إلى البهو الكبير حيث شاشتا سامسونغ كبيرتان. تحت واحدة منهما هنالك مجموعة تابعة لبلدية ميلانو تلبس ثياباً تشبه ثياب الشرطة هناك، لا تخف منهم !!. إن مهمتهم تأمين ملجأ مؤقت لك من خلال فرزك إلى أحد مخيمات اللجوء الرئيسية في ميلانو فور كشفك عن جنسيتك السورية. هناك يمكنك أن ترتاح بضعة أيام مع المأكل والمنامة والملابس النظيفة، ويمكنك من هناك وعبر المقيمين الآخرين من التعرف على مهربين سياراتهم بانتظارك لتقلك إلى وجهتك الأوروبية. ولكل بلد تسعيرته تبدأ بــ 400 يورو، وتنتهي في حال توجهك الى السويد بــ 700 يورو، أو يمكنك اتخاذ القطار سبيلا في سفرك -خاصة إن كنت وحيداً- عندها ستنجو من شتى أنواع الحدود.

 

ما بعد الرحلة

بعد الوصول إلى دول اللجوء كان لي تواصل مع عدد من رفاق الرحلة كان منهم:

جودة أبو خميس (لقب أطلقته على أبو عبدو الذي يشبه جودة في أنانيته). 

“صباح الخير خيي نجيب. ما بعرف من وين بدي بلش. من عيشة زفت. من عدم قدرتي على الوصول لبيتي بحرستا. سافرت وتركت خلفي غرامي وذكرياتي إلى التعتير وقلة الشغل بمصر. اشتغلت بقهوة، واشتغلت على سرفيس حتى قررت هيك قرار -رغم معرفتي بخطورته، بس البحث عن حياة كريمة محترمة وعدم رغبتي بالعودة إلى سوريه نهائيا كان السبب، إضافة لوجود مشكلة صحية عندي وعند زوجتي تتعلق بإنجاب الأطفال، وأملي أن يتحقق هذا الحلم في أوروبا، لأن كل محاولاتنا بسوريا فشلت فكانت هذه القصة من ضمن أسباب كتيرة وراء سفري بهذه الطريقة.

في السفينة كانت المشاعر في قمة الهيجان، وكنت أخفف عن النفس بابتسامة أو أغنية أو أحاول النوم. لكن دوما كان الدمع في عيوني لخوفي على من تركتهم، وخوفي على حلم يأبى أن يبتسم لي، إضافة إلى خوفي على الأطفال من موت بطيء أمام أعين الجميع. كانت ذروة هذه المشاعر في تنقل الركاب من السفينة إلى القارب الخشبي الأخير. هذا المنظر سيبقى في الذاكرة محفور رغم المخاطرة. الناس ترمي نفسها وأولادها إلى القارب الخشب، وصراخ وفوضى أين أولادي؟. أين؟. وكأننا في يوم الحشر. وكأنها قيام الساعة والله أحسست بأنها اقتربت، وأننا سنغرق بهذا العدد لا محالة مع خروج الماء من الأسفل، وباتت النهاية قريبة، وفي كل يوم كنت أتوقع حالة وفاة في القارب، وأخاف من زيادة تعقيد الوضع، ويبث الرعب في القارب، لكن والحمد لله لم يحصل هذا.

أتمنى أني قد وصلت إلى شيء في داخلي، وأتمنى أن نصل لشيء قد حلمنا به يستحق هذه التضحية. بالنسبة لي يكفي أن تكون زوجتي سعيدة، وأن أريها أياماً غير الأيام التي خلت، ولو استطعت أن أحضر أمي ولو زيارة سياحة فهذا سيشفي غليلي وتعبي. 

***

الدكتور عبد الجليل

-من مقتطفات أحاديثنا بعد الوصول-

هذه رحلة الولادة الجديدة. ولادة من رحم البحر. أكثر ما أثر بي هن النساء الحوامل، لقد كن أربعة أو خمسة -لم أعد أذكر لكن أذكر جيداً أن واحدة منهن كان وضعها سيئاً جداً، وأعتقد أن الجنين قد مات في بطنها. لقد كنت في مهنتي ومنزلي بعيدا عن عامة الناس في حياتهم اليومية، فرغبت إضافة لحاجتي للسفر أن أعيش معاناة الناس وجهاً لوجه، لكنني صدمت. صدمت بعدم تعاون الناس مع بعضها، بأنانيتهم في أصعب المواقف. أرغب في أن يفهم الناس مخاطر السفر على الحوامل والأطفال، ويجب على الحامل أن تستشير طبيبها، وعليها أن تأخذ معها إبرة ضد الاجهاض. كما لاحظت أن الأطفال دون سن التاسعة لا يصابون بدوار البحر، لم أتوسع في دراسة أسباب الحالة بعد، ولكنها لفتت نظري. 

***

أبو حمزة

لا تعتب على الناس في هذا الظرف العصيب، فهذه ليست أخلاقها، ولكن عند الذعر الإنسان يتصرف بشكل قطيعي. كنت طوال الرحلة أتأمل في الناس وأسبر معادن الرجال. الحياة تستحق بأن تعاش بشرف، كان يمكن للرحلة أن تصل قبل هذه المدة بكثير، ولكنها كانت امتحاناً للنوايا.

***

أبو نادر

-مقتطفات من مكالمات هاتفية بعد الوصول-

والله يا أخوي الناس ما كانت لبعضا. كان في رجال قليلين نخوة. أنا ما بلوم الناس الدايخة، ولكن كان بعضهم بلا ضمير. هنن ٦ اللي اشتغلوا على هــالمركب. لازم توصل الحقيقة، وتنبه العالم اللي بدها تطلع إذا فينها ما تطلع نسوانها وعيالها !!. اللي عملتو عملتو لوجه الله، وما حابب احكي شي عنو، ولولا هالظروف الصعبة مافي شي بطلعني من اللاذقية.

__________________________

صحفي وكاتب من سورية

 

الصورة من فيلم “كلاب شاردة – Stray Dogs” للمخرج التايواني تساي مينغ ليانغ 

*****

خاص بأوكسجين