الفصل الأول – آمّا
آمّا تسير على الممشى المحاذي للقناة المائية التي تشطر المدينة إلى نصفين، وبضعة زوارق صيد تُبحر على مهلها بعد أن قرر بحاروها بدء اليوم مبكراً.
إلى يسارها جسر المشاة الذي يحمل تصميمه لمسة بحرية تتبدى في ممشاه الشبيه بسطح السفينة وأعمدته التي تُحاكي سارياتها.
إلى يمينها ترى ذلك الأنحناء في مجرى النهر وهو يتجه شرقاً ليجتاز جسر واترلو ويكمل جريانه نحو قبّة كاتدرائية سانت بول.
تشعر بأن الشمس تبدأ بالشروق، وبالهواء لا يزال محملاً بالنسمات قبل أن يأتي ذلك الوقت الذي تختنق فيه المدينة بالحرّ والأدخنة.
عازفة كمان تعزف موسيقى لها أن تعزز من ارتفاع المعنويات بنغمات تنساب على طول الممشى.
الليلة تشهد العرض الافتتاحي لمسرحية آمّا، The Last Amazon of Dahomey “آخر أمازون لداهومي.”
تعود بذاكرتها إلى الفترة التي دخلت فيها دنيا المسرح عندما اكتسبت هي وشريكتها الحالية، دومينيك، سمعة مقاطعة العروض المسرحية التي تسيء إلى أحاسيسهما وميولهما السياسية.
كان صوتاهما المسرحيان المدرّبان القويّان ينبعثان من خلف الحجرات قبل أن يقوما بانسحابهما السريع.
كانتا تؤمنان بالاحتجاج العام والمشوٍّش والمزعج بصورة ضارية لمن يقفون ضد ما ينادي به الطرف المحتج.
تتذكر كيف سكبت “باينت” من البيرة فوق رأس مخرج ظهرت في مسرحيته امرأة سوداء نصف عارية تجري على خشبة المسرح وتتصرف كالبلهاء قبل أن تهرب إلى شوارع هامرسميث الخلفية وهي تعوي.
أمضت آمّا بعد ذلك عقوداً طويلة على الهامش، وعاشت كمتمردة تُكيل الضربات والشتائم إلى الكيان الذي نبذها، هكذا إلى أن بدأت الموجة السائدة تحتضن ما كان يُعتبر في السابق متطرفاً وراديكالياً لتجد الأمل يحدوها إلى ركوبها.
وهذا لم يحدث إلا عندما تولّت أوّل امرأة منصب المدير الفني للمسرح الوطني منذ ثلاث سنوات. وبعد أن سمعت الكثير من اللاءات المهذبة ممن تولّوا هذا المنصب من قبل، وبعد ردح طويل من الزمن، تلقّت آمّا اتصالاً صباح يوم الإثنين بعد أن تناولت فطورها عندما كان الفراغ يستشري في حياتها ويلوح في أفقها لا تلطخه سوى بعض الأعمال التلفزيونية الدرامية التي تتطلع للمشاركة فيها عبر الإنترنت.
أحببت النص، يجب أن ننتجه، هل تتكرمين بإخراجه لنا أيضاً؟ أعلم أن المهلة قصيرة، لكن هل أنتِ متفرغة لنلتقي ونحتسي القهوة معاً في أي وقت خلال هذا الأسبوع؟
تأخذ آمّا رشفة من قهوتها الأميريكانو بشحنتها المضاعفة المعتادة من القهوة القوية لتزيل عنها آثار النوم وتجعلها صاحية لما يخبئه النهار لها وهي تقترب من مجمع الفنون الرمادي بتصمميه الذي يحاكي نمط العمارة القاسية. هم على الأقل يحاولون أن يبثوا شيئاً من الحياة في مظهره الإسمنتي الذي يجعله شبيهاً بالمستودعات بعروض أضواء النيون هذه الأيام ليُبعدوا عنه تهمة التقليدي ويلبسونه عباءة التطور.
منذ سنوات خلت كان تتوقع أن تُركل خارجاً بمجرد أن تطأ قدمها عتبة هذه الأبواب… حدذ هذا خلال تلك الفترة التي كان فيها الناس لا يزالون يرتدون أفضل ما في خزانة ملابسهم للذهاب إلى المسرح وينظرون بازدراء إلى الذين لم يتأنقوا للمناسبة كما يجب.
تريد من الآخرين أن يحملوا فضولهم ويأتوا به إلى مسرحياتها حتى لو كانوا يرتدون خرقاً بالية، أن يتبعوا موضة “سحقاً لما تظنه” التي تعتمدها، والتي تطورت، على أي حال، وهذه حقيقة، بعيداً عن الصورة النمطية التي ترسمها ملابس الجينز، وقلنسوات تشي غيفارا، والأوشحة الفلسطينية، وذلك الشعار الذي يُظهر رمز النوع الاجتماعي الذي يشير إلى الأنثى متداخلاً مع رمز من جنسه نفسه والذي بتنا نراه كيفما يممنا وجهنا… (ارتدي قلبكِ يا فتاة، دعيهم يرون ما خفي وما ظهر).
في هذه الأيام أصبحت ترتدي أحذية رياضية فضية وذهبية في الشتاء، وصنادل آمنة في الصيف.
في الشتاء سروايل سوداء، إما فضفاضة أو ضيقة، وذلك حسب مقاسها في ذلك الأسبوع، إما 12 أو 14 (مع قطعة ثياب علوية أصغر بمقاس واحد).
في الصيف، سروال نسائي حريمي مزيّن بنقوش تصل فردتاه إلى تحت الركبة بقليل.
في الشتاء، قمصان طويلة غير متناسقة الأطراف، وبلوزات، وسترات، ومعاطف زاهية الألوان.
تروّض جدائلها المعالجة بالبروكسيد على مدار العام لتتضافر معاً وتستقيم كما تنغرز الشموع في كعكة عيد ميلاد.
قرطا أذنين فضيان على هيئة إطار، أساور إفريقية مكتنزة، وصباغ شفاه وردي… تلك هي المفردات التي تسم مظهرها دائماً وتمنحه هويته.
منذ وقت ليس بطويل وصفت ياز مظهرها هذا بأنه “مظهر امرأة عجوز مخبولة يا ماما” راجيةً إياها أن تتسوق في محلات ماركس وسبينسر كما تفعل الأمهات العاديات، معبّرة عن رفضها أن تُرى بصحبتها في الشارع عندما تسيران معاً.
تعرف ياز تمام المعرفة أن آمّا يمكن أن تكون أي شيء يخطر في البال، لكنها لن تكون أبداً إنسانة عادية، ومع أنها دخلت سن الخمسين، فهي لم تصبح عجوزاً بعد، لكن فليحاول أحدكم أن يقنع صبية في التاسعة عشر من عمرها بذلك. على أي حال، التقدم في السن ليس عيباً أو نقيصة بما أنه كأس يشرب منه كل الناس.
مع أنها تبدو في بعض الأحيان الوحيدة بين صديقاتها التي تريد أن تحتفل بالتقدم في السن، فهي نعمة أن لا يموت الإنسان في زهرة شبابه، تقول لهن والليل يرخي سدوله وهن جالسات حول طاولة المطبخ في منزلها المريح المزوّد بتراس في بريكستون بينما تغوص كل منهن في أحد الأطباق التي جلبنها… يخنة الحمص، والدجاج الجمايكي بتوابل جيرك، وسلطة يونانية، وعدس بالكاري، وخضروات مشوية، ولحم الخروف المغربي، والأرز بالزعفران، وسلطة اللفت والكرنب، وجولاف الكينوا ومعكرونة خالية من الغلوتين من أجل ثقيلات الظل بينهن اللواتي لا يعجبهن العجب.
ما إن تصب كل واحدة منهن كأساً من النبيذ أو الفودكا (لسعرات حرارية أقل)، أو غيرهما من المشروبات الأكثر رأفة بالكبد، إذا ما كانت تعليمات الطبيب تنص على ذلك، تنتظر منهن أن يباركن قرارها السير ضد تيار النواح والشكوى الذي يسلكه الناس في منتصف العمر… لكنهن بدلاً من ذلك يواجهنها بابتسامات مرتبكة، وماذا عن التهاب المفاصل، وفقدان الذاكرة والعرق الساخن؟
تمّر آمّا قرب العازفة المتجولة.
تبادرها بابتسامة مشجعة فترد عليها الفتاة بإيماءة لطيفة.
تغوص بيدها في جيبها، تخرج بضع قطع نقدية وتضعها في علبة الكمان.
ليست مستعدة بعد للإقلاع عن السجائر، تستند على الجدار القائم عند ضفة النهر وتشعل واحدة وتكره نفسها لفعل ذلك.
الإعلانات أقنعت أبناء جيلها أنها ستجعلهم يبدون ناضجين، ومتألقين، وأقوياء، وأذكياء، وجذابين، وفوق كل هذا “كول”.
لكن لم يقل لهم أحد إنها ستودي بهم إلى الموت.
تنظر إلى النهر وهي تشعر بالدخان الدافئ يعبر مريئها ويريح أعصابها وهي تحاول مقاومة دفقة الأدرينالين التي أطلقها الكافيين.
أربعون عاماً من الليالي الأولى ولا تزال إلى الآن ترتعد خوفاً منها.
ماذا لو قسى عليها النقاد؟ ماذا لو استُبعِدت بمراجعات منحتها بالإجماع نجمة واحدة؟ ما الذي سيفكر فيه القيمون على المسرح الوطني العظيم لأنهم سمحوا لدجالة حثالة مثلها بدخول المبنى؟
تعلم بالطبع أنها ليس دجالة، لقد ألّفت حتى الآن خمس عشرة مسرحية وأخرجت أكثر من أربعين، وكما كتب أحد النقاد ذات مرة، إيمّا بونسو لها يدان مأمونتان لقطف المخاطر.
ماذا لو كان جمهور العرض الأولي الذي وقف على حيله وصفق لها بحماس قد فعل ذلك بدافع اللطف والمراعاة فقط؟
أووووه! سدّي بوزك يا آمّا… أنتِ فأس في يد محارب قديم، أتذكرين؟
——————————–
فازت هذه الرواية بجائزة بوكر العالمية لعام 2019 مناصفة مع رواية مارغريت أتوود “الوصايا”.
*****
خاص بأوكسجين