حبيبتي، كما وعدتك. هذه أول رسالة عن أول يوم.
لم ينته بعد، ولكنني متعب من السفر. لم أنم ليلة أمس، كما اعتدت كل ليلة تسبق سفري إلى أي مكان. ربما خوفا من تفويت رحلتي. ربما لأنني خشيت في داخلي أن تكون آخر رحلة أقوم بها. أفضل أن أبقى ساهرا. أراقبكم في نومكم، أنت والأولاد.
هي طريقتي لأقول لكم وداعا، وربما ليست كذلك، أرق مقيت فحسب.
غادرت من غير أن أوقظك. تعرفين أنني أكره لحظة الوداع، وتلك الجملة السخيفة التي نطبع بها قبلة الفراق: “اعتن بنفسك”، وكأننا لا نفعل ذلك كل يوم.
أكره ذلك وأكره المطارات. أكره الطوابير ونقاط التفتيش وأجهزة “السكانر” اللعينة وأسئلة الجمارك:
هل تحمل شيئا تحب الإبلاغ عنه؟.
لا أحمل إلا حقيبة ظهر. في جيبي ألف دينار وعشرون يورو وبطاقة فيها رصيد فارغ.
أليس من الغريب أن تحدث معي الأشياء نفسها في كل رحلة؟ تهبط الطائرة. أشغل هاتفي. أتحقق من الوقت. أبقى جالسا في مكاني. أنتظر. يخرج الجميع. لا طابور. أخرج بدوري.
في كل رحلة، يقّلب الشرطي جواز سفري. يسألني نفس الأسئلة.
أختام كثيرة؟
نعم.
تعمل في مجال يضطرك للسفر؟
لا أرد. أبتسم. يبحلق في وجهي. فأتساءل ببله: هل يتأكد مني؟
ضع اصبعك هنا.
ينظر في شاشة حاسوبه. يتحقق من الفيزا. يبحلق فيّ مجددا. ما زلت أنا. لم أتغير. رأسي دائري. شعري قصير. ابتسامتي كتكشيرة طفل.
أهلا بك في مرسيليا.
أبتسم. يبتسم أخيرا.
خلف “البوكس” أمتعتي. حقيبة بنية رخيصة. هي نفسها التي أهديتنيها قبل عشرة أعوام. أجرّها كما اعتدت أن أفعل بحياتي. أجرّها، متحسسا مكان علبة السجائر في جيبي. أتفحص وجوه الناس على غير عادتي. لا أحد ينظر إليّ. لا أحد يحمل لافتة باسمي.
أشغل “واي فاي” المطار. تقتحم رسالة هاتفي. (أهلا صديقي، ستستقبلك فاني وقد تتأخر قليلا، سعيدة بوجودك في مرسيليا، جيرالدين).
أخرج من المطار. أشعل سيجارة. أنفت دخانها في الهواء. كم ممتع طعم الموت.
أنت لا تحبين هذا الطعم. تكرهين رائحة سجائري، رائحتي أنا. أعتذر ولكنني أنا. لم تدركي أبدا أنها طريقتي لإخفاء رائحة الجثة التي أستعملها كجسد. هي طريقة غبية لميت يرغب في إيهامك بأنه حي.
أعتذر لأنني أحب ما لا تحبين. فلطالما أصررت على حياتي السابقة، قبل أن تولدي في قلبي وقبل أن ينزل ولدانا من السماء، ملكين بلا أجنحة.
أفف، أرأيت؟ أنا أيضا أشتكي من شكواك مني. فكلانا يشتكي من حياة سابقة.
أشعر يا حبيبتي بشخص آخر في حلقي. وحده الاختناق يشعرني بالحياة كما يشعر القط بها حين نخنقه. أحيانا لا تظهر الحياة إلا حين نضرب الموت بقبضتينا، فنراها بلا أقنعة وهي تمنح الغيرة شكلا آخر، كثيرا ما نعتقد أنه الحياة.
كلانا يشتكي، مصرا على قدره الأخير، ولعل هذا كل ما يحدث بيننا ويصنعنا، أنا وأنت، وهذه الحياة التي تخنقنا وتصيغنا كهدية لعاشق نحبه ولكننا نتحقق من كل شيء يصدر عنه.
أقرأ رسالة جيرالدين مجددا. أه رقم هاتف.
ألو فاني؟ أنا…
فرنسيتي رديئة. لساني متحجر.
أين أنت؟
أمامك مباشرة.
أرفع رأسي. ابتسامة عريضة. يد تلوح. خدان وقبلتان.
أعتذر، في مرسيليا نحب التقبيل.
أول اعتذار لا أقبله في حياتي.
تضحك فاني. أضحك أيضا.
مرسيليا تشبه العاصمة. تقول فاني.
أجيبها: تشبه وهران أيضا، ولكنهما مختلفتان.
أضيف داخل رأسي أنني جئت من مكان أضاع جغرافيته. لا يقع في أي مكان. كل ما يوجد بحر نقطعه على قوارب لا تصلح للبحر. أنا من هناك، حيث لا يحلم الناس إلا بهنا. أبكي في داخلي، مبتسما في الظاهر. أضحك أيضا. ضحكتي تشبه نباح كلب متشرد.
أضحك، متعمدا ألا أنظر إلى شيء محدد. لا أحب أن أرتبط بأي شيء لا يريدني. هنا لا شيء يريدنا، رغم أننا نريده.. هناك أيضا لا شيء يرغب فينا إلا الموت.
أسأل فاني مجددا، فأنا لا أحسن إلا الأسئلة. أختبئ خلفها فقط، لأن فرنسيتي رديئة ولأنني أكره الصمت.
هل تقيمين في المدينة؟.
نعم، تجيب فاني، “نوواي”.. هل تعرفها؟.
يظهر في رأسي وجه الرجل الوسيم في نشرة الأخبار. ذقن حليق. قصة شعر حديثة. ربطة عنق زرقاء، قميص أبيض كالثلج. أسنان كأسنان الله.
نعم، أجيب فاني، أعتقد أنه قبل يومين انهارت عمارة أو عمارتين. هل مات أحد فيهما.
أعود إلى أسئلتي. أدّعي أنني مهتم. عيناي كمصباح محترق لا تعكسان شيئا.
مأساة..
مأساة؟..
أمر مفجع.
مفجع؟
سنتظاهر اليوم تنديدا بشلل البلدية وتقاعصها؟ تضيف فاني.
تتظاهرون؟.. تنددون؟ يا إلهي، هل تحتفظون هنا في قواميسكم بمثل هذه الكلمات؟ هناك، لا أصوات في حناجرنا. يمكن أن نصرخ. يمكن أن ننبح أيضا ولكن بلا صوت؟.
للحظة يسود الصمت. نتوقف عن الكلام. نستمر في الابتسام لبعضنا، كإشارة بدائية عن وجودنا معا. تتوقف السيارة أيضا.
على الرصيف جيرالدين. تبتسم هي الأخرى. ما هذا البلد الذين يبتسم فيه الجميع؟
أبتسم لها. قبلتان ودرس سريع عن جدوى المفاتيح: هذا نفتح به باب العمارة، أما الصغير فلصندوق الرسائل والثالث المسنن لباب الشقة.
هل تعرفين يا حبيبتي أن في الشقة مكتب وطابعة؟ هل تصدقين أنهم على عكسي أنا يصدقون أنني كاتب؟ حتى أنت، وأنا أكتب لك، لم تصدقي. كلانا يعرف رغم كتبي السبعة، أنني لم أكتب شيئا. كل ما حدث أنني مجرد رجل تعثر ذات يوم بالكلمات. لست كاتبا. أنا مجرد نص غير محدد، مجهول يناقض العبقرية. يخطّئ العقل، فقط ليعيد برمجة الكثيرين. أشبه النبيذ ولكنني بلا طعم، بلا رائحة.
ترحل فاني.
الرحيل مسألة مؤقتة ودائمة، كالحياة، كالموت، كالنساء، كالكتابة والحب.
تعرّفني جرالدين على الشقة: صالة وغرفة نوم ومطبخ وحمام.
لا أشعر بالغربة هنا. أقول لجرالدين.
تبتسم. أشعر بأنها لا تصدقني. بالطبع. الغربة إدمان، كلما غرقنا فيه لا يظهر لنا. هل يظهر اللون الأبيض في لوحة بيضاء؟
فجأة وقبل أن تستيقظ الحيرة في داخلي، أقترح على جرالدين أن أصنع لها قهوة.
هل تدخنين؟
نعم.
دعيني أدعوك إلى سجائري.
جزائرية؟
نعم.
كذبة أخرى. لا نصنع شيئا هناك، حتى الموت الممتع لا نحسن صناعته.
تأخذ جرالدين نفسا عميقا. تبتسم وهي تنفث الدخان في الهواء.
طعمها جميل.
لا أصدقها. كان القرف يطل من عينيها ويلوّح لي.
مرسيليا تشبه وهران. تشبه العاصمة. تشبه عنابة. تشبه…
أقول أي شيء يملأ الفراغ. لا يبدو لي أنني قادر على تشكيل جمل أخرى. يتعثر لساني. يتحجر عقلي. أفكر بالعربية لأنطق فرنسية تخرج من فمي جملا ممسوخة بلا هوية. في الحقيقة، أحب ركاكتي وجملي العرجاء. تشبهني. تشبه كل شيء هناك. أنا لا أكذب. كل ما في الأمر، أنني لا أقول الصدق.
من العدم، تظهر روكسانا. اسم جميل. وجه أجمل.
قبل أشهر، كان كل من التقيت مجرد أسماء في إيميلي: فاني اسم. جيرالدين اسم. روكسانا اسم. أسماء فحسب. وحده باسكال حمل صوتا. اليوم ونحن نتناول الغداء بـ”الطاولات الكبيرة” أصبحوا أشخاصا حقيقيين. حزنت لذلك. على الأقل، كانوا يحملون في رأسي أكثر من صورة. تماما كما كنت أنت، وكل حلم كان لي هناك.
يبدو أننا صرنا أكثر ارتباطا. أكتب إليك. أستمتع بفعل ذلك. منذ متى لم نستمتع معا؟. منذ متى لم أخاطبك؟.
أدرك تماما أنني أكلمك كل يوم. نتحدث. ننام على نفس السرير. نمارس الحب يوما بيوم. نخرج للعشاء أحيانا. أعرف ذلك ولكنني لم أشعر أنني خاطبتك يوما أو استمتعت بالوجود معك. الآن أتلهف لأكتب إليك.
أشعر أننا صرنا أكثر قربا مما كنا عليه وليس بيننا أي بحر.
في فمي طعم نبيذ قديم. لا أذكر شيئا حدث يبرر هذا الطعم. كل ما يخطر على بالي أنه كانت ظلمة. سماء بلا نجوم. ثم حانة في ثاني زقاق على يمين عمارتي في اتجاه “الكنبيير”.
لا تعرفين “الكنبيير”؟ لا بأس، حتى أنا لم أكن أعرف هذا المكان.
واعدني صديق هناك. تعرفينه، الاسم الذي على غلاف روايتي. أحب أن أقول الرجل صاحب اسمي، ولكنني أشفق عليه أن يكون كذلك.
نلتقي في “الكنبيير”.
اتفقنا، نلتقي هناك.
خمسمائة متر فقط عن الشقة، في اتجاه “الريفورمي”.
حاضر، نلتقي هناك.
لن تضيع، هناك كنيسة قديمة ومحطة ميترو وساحة بتماثيل. هناك نافورة ماء، ومقهى ذات طراز باريسي.
طيب، لن أضيع.
ولكنني تهت نصف ساعة قبل أن أهتدي إلى المكان.
الحانة في الزقاق الثاني كما أخبرتك. ثاني زقاق على اليمين. الزقاق الأول يشبه الثاني. ولكن الحانة في ثاني زقاق.
مساء الخير.
بادرتُ النادلة. امرأة أربعينية. تشبه قصة غامضة لغارسيا مركيز. مترهلة كرواية عربية لكاتب كبير. أذكر أنفها الغليظ، ويديها السمينتين، وصدرها المستهتر بالصغر. بيضاء كقلب مؤمن عرف الله قبل يومين فحسب.
لا أذكر أول كأس نبيذ. لا أذكر الثاني و.. لا الرابع أيضا.. رأسي منتفخة. رائحتي كريهة. مزيج رائع من التبغ والنبيذ. ربما.. لست متأكدا، ربما أيضا رائحة امرأة ما.
أضحك وأنا أراني محتفظا بملابسي. أتحسس جيب جاكيتي الداخلي. جواز سفري. هاتفي. لا نقود. لم أفقد أي شيء مهم، إلا سويعات قليلة من ذاكرتي وخمسين يورو اقترضتها أمس. تدركين جيدا أن لا أحد سواك في قلبي. ربما خنتك أمس. لست متأكدا. ربما أيضا أحببت من خنتك معها لربع ساعة. ولكنني لن أحب أحدا غيرك كل العمر.
لا أريد الخروج من الشقة اليوم. لا حاجة لي إلى الخروج. عندي ثلاثون علبة سجائر. علبتان من البن. جبن وخبز شعير. لم اشتر شيئا غير سجائر حملتها معي من الوطن. لا أحتاج إلى شيء آخر، يكفيني فقط أن أفتح حاسوبي وأكتب.
ينتابني شعور غامض الآن. أشعر بحرية أكبر. لا تفهميني خطأ. أحبك. أحب ولدينا. ولكنني سعيد أنكم على بعد فيزا وتذكرة. لو كان بيننا البحر فقط لما كنت سعيدا إلى هذا الحدّ. أنا على يقين أنك لن تفاجئيني بمجيئك. لن تقتحمي خلوتي. لن تمنعيني من الكتابة في كل وقت. تحتاجين لحرماني من سعادتي إلى أكثر من تذكرة تدفعين ثمنها من رصيدي البنكي. لن يفيدك جواز سفرك الأخضر للوصول إلى هنا، كما لم يفدني أنا أيضا.
صحيح، أنني في سنوات براءتي، كنت أصدق كل ما يقول الرجل الوسيم في نشرة الأخبار. تذكرينه: رجل بشعر ممشط وذقن حليقة. ربطة عنق عريضة بأسنان بيضاء. لم يكن واحدا، ولكنهم متشابهون. نفس قصة الشعر. نفس الأسنان. ربطة العنق ذاتها. كان يظهر في كل مرة ليملأ رؤوسنا الكبيرة بأشياء كثيرة. كنا نسخر منه. نضحك من شكله الرسمي المرتب. ولكننا في آخر المطاف نصدقه. في صوته مخدر يجعلنا نهلوس بكلماته، لنصدقها في النهاية: نحن شعب عظيم.. تاريخ أعظم.. ثورة كبيرة.. مليون ونصف مليون شهيد.. على الأقل صدقت هراءه طويلا، حتى تمثلتُني رجلا خارقا ومواطنا فوق العادة. أعتقد أنه كان إدمانا جماعيا. لم أكن وحدي. وحده الرجل الوسيم في نشرة الأخبار من كان يعرف الحقيقة.
قبل شهرين، وأنا في طابور الانتظار لإيداع ملف الفيزا، تساءلت عما كنت أفعل في الطابور. لماذا أقف منتظرا، آملا في رضاهم لأتمكن من السفر. أمام بوكس شرطي المطار سألتُني السؤال نفسه. ومع ذلك انتظرت هناك لأكون هنا، بجوازي الأخضر المنبوذ.
أرأيت يا حبيبتي؟ تحتاجين لأكثر من تذكرة لتمنعيني من الكتابة، من أن أكون أنا. أحبك ولكنني أحب نفسي أكثر. ربما أحب كل العالم أيضا، إلى حد أنني أشفق عليه من وجودي فيه.
أخذني صاحب اسمي في جولة. سرنا أربع ساعات لم نتوقف فيهما إلا حين لاحظ أنني بدأت أعرج. لا أحد بمقدوره منعي من السير والتقدم نحو وجهتي. حتى أنت لم تتمكني من إيقافي حين بدأت المسير، وحدها الدوالي تمكنت من ذلك.
كذبة أخرى. هم أيضا تمكنوا من منعي.
عرّفني على رجل لم أعد أذكر اسمه. ربما لم أهتم بالتعرف عليه. التقينا به مصادفة بالميناء القديم. نحيل بلحية خفيفة شقراء. أبيض البشرة بعيون زرقاء. كان يدخن سيجارة ملفوفة. هنا السجائر غالية جدا، بعلبي الثلاثين أشعر أنني ثري جدا.
أخبره صاحب اسمي أنني روائي، وأنني صاحب الرواية التي كتبها. بدا الرجل سعيدا بهذه الصدفة. ابتسمت له من غير أن أفتح فمي. مطّطت شفتيّ فحسب، كإشارة على رضا لم أشعر به حقيقة. ثمة شيء يمنعني من الرضا الكامل. أردت في لحظة من الصدق أن أخبره كما اعتدت إخباره دائما أنني لست كاتبا، مجرد رجل تعثر بالكلمات. أردت ذلك فعلا، ولكنني وهو يسألني عن مكان إقامتي قلت ترولار.
ترولار؟
حي شعبي بالعاصمة.
جميل.
ابتسمت، متسائلا في داخلي عما يقصد بقوله جميل.
يشعرني الأشخاص اللبقون بالضجر. أميل إلى التوحش، إلى البذاءة.
هنا، كل من ألتقي به يبادرني بالتحية. صباح الخير. سيدي. تفضل. في خدمتك. كل من هنا لبق إلى حد القرف.
بدأت أشعر بالغربة. ليس لأنني في وطن ليس وطني، بل لأن ملامحي بدأت تختفي. أخبرت صاحب اسمي بذلك، وبحاجتي إلى مكان في مرسيليا يذكرني بالوطن. أحتاج إلى عمارات متسخة. وجوه متعبة غير بشوشة. صناديق قمامة ممتلئة. شوارع قذرة. أحتاج إلى أرصفة تركن عليها السيارات. رجال شرطة مخيفين. سلطة تكذب كما نأكل الخبز. طوابير. متشردين. متسولين. بذاءة. حكومة مرتشية. برلمان سخيف. شوارع بلا مكتبات، مدن بلا قاعات سينما، بلا مسارح. رجال لا يحلمون، لا يعيشون، يبقون فقط على قيد الحياة. أحتاج إلى أي شيء يشبه الخدعة العظيمة التي أسميها وطن.
أدرك حبيبتي أنني لا أقول لك شيئا مهما. تأخذني الحماسة أحيانا لأكتب لك خطابا غارقا في الغضب. أنا غاضب جدا يا حبيبتي، فقط لأنني أنا. يجدر بك أنت أيضا أن تغضبي لأنك أنت. كل من هم هناك عليهم أن يغضبوا فقط لأنهم من هناك.
مع ذلك لم تفوّتي شيئا. لم يحدث معي أمرا قد أستمتع بإخبارك إياه.
بعد جولتي عدت إلى الشقة. لم أحتج لاستشارة الـ “جي بي أس” لأعرف موقعها. بدأت أعتاد على مرسيليا. هندستها منطقية لا يحتاج الواحد فيها إلى خريطة. كل ما يحيّرني هنا، هو هذا الكم الهائل من الأجناس. مليون لغة. مليون جنسية. خليط هائل من الأعراق.
هل تذكرين أول موعد لنا حين سألتني إن كنت ميزابيا. فرحت كثيرا حين أجبتك لا. أنا أيضا سعدت حين علمت أنك لست شاوية.
كان سؤالك عنصريا وسؤالي لك عن عرقك أكثر عنصرية. لم نصف الأمر وقتها بهذه الطريقة. بدا الأمر عاديا لكلينا، حتى حين اشترطتُ عليك ألا تعلمي أطفالنا الأمازيغية أو حين اشترطت للاقتران بي أن أصلّي.
كلانا ابتلع عنصرية الآخر على أنها لا شيء. ربما لأننا نشأنا على هذا. نحن عاصميان في النهاية. ولدنا ونشأنا في العاصمة. في المدينة التي تسكنها الآلهة الجديدة؟.. نحن الأكثر فطنة وباقي العالم كوافا.. كعب. أعرف أنك تضحكين الآن، فأنا من شرح لك أول مرة معنى أن تكون كافيا وكعبا: الكافي مفرد كوافا والكعبة مفرد كعب.
أذكر كيف أدهشتك معرفتي بالكلمات. لم تدركي وقتها ولا أحسبك تدركين الآن أنني كائن ورقي، لا وجود لي بغير الكلمات. ولدت لأكون كاتبا. ولأني كذلك تعلمت أن أعيش. وحتى أحيا تعلمت الحب. ربما من أجل هذا أستمر في الكتابة، بحثا عن حالة حب تدوم للأبد. بعيدا عن الأشخاص، عن الأشياء. أبحث عن حب يشبه الأزل. لا بداية ولا نهاية له. لا يحكمه أي منطق، ولا يمكن صبّه في أي شكل.
كنت ساذجة كأي عاصمي يفتخر بعاصمته. تماما مثلي، قبل أن أقرر مغادرتها إلى الريف، حيث لا عمارات تذكرني بطفولتي، وحيث يوجد أناس جبلت على احتقارهم فقط لأنهم ولدوا خارج العاصمة.
اكتشفت وأنا بينهم، أنني لا أحبهم ولا أكرههم. لا أحترمهم ولا أحتقرهم. كل ما في الأمر، أنني أكره حقيقة أنني لم أولد مثلهم خارج العاصمة. على الأقل، كان بمقدوري أن أحلم مثلما يفعلون.
يعني أنه رجل بليد.
من تقصد؟
الكافي.
أضحك. يستفزك ضحكي. تضيق عيناك. يتغير لونهما. يحمرّ وجهك الأبيض كأنه شعلة نار.
لا تغضبي.
كنت أهمس لك بذلك، وأزرعك في حضني، محاولا طمأنتك.
حتى أنا اعتقدت ذلك ذات يوم. المشكل ليس فيما نعرف بل فيما نعتقد أننا نعرف. الكافي كلمة فرنسية.. لا لا، لهجة فرنسية. تعرفين.. الأرغو. لغة الشارع التي ليست في القواميس. تعني عكس ما نفهم عادة. الكافي تصف كل رجل يكون أمينا وطيبا. لسبب خارج عن اللغة أصبحت كلمة تعني الرجل الساذج البليد.
أعتذر حبيبتي. لست ساذجة في النهاية. لم تكوني كذلك قط، ففي عالم لا نبل فيه، تصبح الطيبة والنبل والأمانة كلمات لا تعني شيئا غير البلادة. ألا يضر النور دوما عينين ولدتا في الظلمة؟
ممتع أن أحدثك عن ذكريات تحفظينها. عن تفاصيل كهذه. أنا لا أذكر إلا التفاصيل الصغيرة. لا أذكر متى التقينا أو في أي عام تزوجنا. لا أذكر متى ولد ولدانا، ولا حتى كيف اخترنا اسميهما. لكنني أذكر بالتفصيل لون صبغ أظافر أصابعك في أول لقاء. شعرك الأشقر المبتل. أذكر أول حفّاظة غيرتها لكل واحد من ولدينا، أول حمى، أول ابتسامة.
وحدها التفاصيل تجعلني كائنا أفضل. تماما كما تجعلني منكمشا في ذاتي. ألاحظ أشياء لا يهتم بها أحد، كتلك المرة التي قررت فيها وبلا سبب محدد أن أتوقف عند عربة لبيع الذكريات.
مهما يكن، لا أفعل هنا شيئا مهما، ومع ذلك فهو أهم مما اعتدت أن أفعله هناك. على الأقل أملك وقتا هنا للقراءة. في يومين أنهيت كتابا كاملا. قرأت “أولادهم ونحن” لنيكولا ماتيو.. كتاب جميل بحق. أعتقد أنني عثرت أخيرا على كاتب فرنسي لا يثرثر كثيرا. رواية عن الحياة، عن اليومي. أحببت ذلك فعلا.
بمجرد أن عدت إلى الشقة، دخنت خمس سجائر مع فنجان قهوة. شعرت بعدها بقليل من الجوع ولكنني أجلت الأكل. المنحة التي وعدوني بها لم تصل بعد. ليس معي إلا سبعة يوروات، أدخرها ليوم غد ولتناول فنجان قهوة في أي مقهى.
أخبرني صاحب اسمي عن مكان يشبه الوطن. سجلت اسمه. نوواي. كانت فاني قد أخبرتني أنها تقيم فيه. حي شعبي كما وصفته. مكان للمهمشين كما قرأت عنه في النت.
فكرت في استكشافه اليوم، ولكن ليس قبل أن أتجول في المدينة.
قبل سفري وضعت خطة دقيقة لزيارة مرسيليا، بمتاحفها وقلاعها وحدائقها وكل صالات العرض فيها. سجلت موقع كل مكان يفترض أن أزوره. كانت خطة رائعة أجهضها تأخر المنحة. لكن كما تعرفينني لا أكتفي بخطة واحدة. أملك في جعبتي طرقا أخرى لتمضية الوقت والاستمتاع، من دون أن أهدر فلسا واحدا.
لديّ خريطة أخرى لمرسيليا. رسمتها بنفسي.
في سنوات مراهقتي كنا نسميها مدينة الدعارة والعرب. ربما كان وصفا ظالما في عمومه، ولكنه صادق بنحو ما. شخصيا، لا أعرف عرقا بشريا يفكر بما بين ساقيه مثلما يفعل العرب. حتى أنا أفعل ذلك أحيانا، بدليل فضولي للتجول في شوارع العاهرات تلك.
في خريطتي أربعة عشر موقعا ورديا يقايض الحب بثمن ما. ليس للعرب فيها من حظ إلا في “الكنبيير”. بقية المناطق مقسمة بين الأفارقة والإسبان وعاهرات أوروبا الوسطى والمثليين من كل جنس.
هل تعرفين حبيبتي، أن أرخص عاهرات مرسيليا من العرب؟. غريب أن تبقى قيمتنا هي نفسها حتى في العهر.
اكتفيت بالكنبيير وشارع “بوا دي لافارين” ونهجي “الحرية” و”سان بازل” و”أليي غمبيطا”. كان لدي موعد مسبق مع صديق في ساحة الصدقة. أكلنا معا وشربنا نبيذا إيطاليا لم أعد أذكر اسمه. يظهر الناس هنا حماسة كلما أخبرتهم أنك كاتب. على عكس الناس هناك، يشعرونك أنك تهدر وقتك. لا فرق بالنسبة لي.
بعد انصراف صديقي، فضلت البقاء في شارع الصدقة. مكان مذهل ببناياته الكنسية. لا عمارات. هواء أنقى. تتوزع فيها المطاعم والمقاهي. أحسب أنه مكان سياحي أو يراد له أن يكون كذلك.
أحببت المكان فعلا، قطعة من الريف تجاهلتها المدينة. يمكنني أن أعيش هنا بلا أدنى شعور بالغربة. تعرفين حبيبتي أنني أحب الريف، وما كنت لأتركه لولا إصرارك اللعين لنكون وسط العاصمة، في شقة من غرفتين.
في جولتي الصباحية ساومت عاهرة أو عاهرتين. كان الأمر ممتعا بنحو ما أن ألعب دور الزبون.
هل أغراني الأمر؟ لا أدري. ربما مع تلك الإفريقية النحيلة، صغيرة الحجم بنهدي طفلة. لم أفعل شيئا معها. أنا مفلس كما أخبرتك. أخذت رقم هاتفها. نصف الساعة بعشرين يورو والساعة بثلاثين والليلة بثلاثمائة. أخبرتها أنني بهذا المبلغ يمكنني مضاجعة ست عاهرات في الجزائر طوال الليل. سخرت مني وعلّقت بأن لدينا أرخص عاهرات العالم.
لا أدري حبيبتي لماذا غلا الدم في عروقي وشتمتها.
أترين حبيبتي، لم أتخلص بعد من عقدة الرجل الأفضل. أخذتني النخوة حتى على عاهراتنا.
بعدها جلست في مقهى لطيف يحمل اسم “بيير الكبير”. لا أعرف من يكون، ولا أعتقد أنني سأبحث. هنا، يسمون الشوارع والأماكن والمقاهي بأسماء رموزهم. كثير من الأماكن تحمل أسماء قديسين وشعراء وكتاب. أحيانا أسماء رسامين وممثلين. أعتقد أنها طريقتهم للتشبث بهويتهم، حتى تلك التي لا رغبة لهم فيها.
هناك في ساحة الريفورمي تمثال ضخم مسيّج، عليه لافتة مكتوب عليها: “تخليدا لذكرى الضحايا المدنيين والعسكريين الذين قتلوا في حرب الجزائر. إلى الـ60000 مفقود أوروبي والـ150000حركي مات من أجل فرنسا”. لا أدري السبب الذي جعلني أكره هذا التمثال بمجرد أن وقعت عيناي على تلك اللافتة. ولا السبب الذي جعلني لاحقا أحب النظر إليه وقراءة اللافتة بلا ملل.
نحن لا ننظر إلى رموزنا بهذا الشكل. لا نحب من ماتوا من أجل الوطن ولا من بقوا على قيد الحياة. أسماء شوارعنا لا هوية لها. ليس لدينا مقاه، كل ما هناك أماكن نشرب القهوة فيها. أتساءل دوما، متى نفتح كتاب الأمس، من غير أن نخشى خروج الموت من صفحات ماضينا. متى نفعل ذلك حبيبتي، من دون أن ننصّب أنفسنا رقباء على ما يمكن قراءته وما لا يمكن.
يوم أخبرني ابننا أن لديه هذا العام مقرر التاريخ حزنت عليه. لم أخبرك. لم أخبره أيضا. حزنت أن يهدر طفولته على دراسة تاريخ سيدرك لاحقا أنه مزوّر. حكايات بطولات أسطورية. غسيل مخ بدائي لا ذكاء فيه.
هل تعتقدين حبيبتي بأن القدر ما جعلنا نعيش فقراء في هذا الوطن الغني. هل تعتقدين بأن الله ساديّ إلى الحد الذي يجعل مناّ شعبا قاصرا كل هذا الوقت. أنا لم أعتقد ذلك يوما. يقيني، أننا نحن من اختار فقرنا وبقاءنا قصّرا، لمّا أضفينا القداسة على تاريخنا. نحن من خلق آلهتنا الجديدة، حين توهمنا أن ثورتنا لم تنجب إلا قديسين وأنبياء أهديناهم هذا الوطن بثرائه وخيراته وشعبه.
أليس من الغريب حبيبتي، أنه حتى بعد كل هذا الوقت من الاستقلال، ما زلنا نهدر وقتنا في معرفة من هو المجاهد ومن الحركي ومن الشهيد؟
يبدو أنني في مزاج سيء لأكتب أي شيء. ولكن الصدق لا يظهر إلا حين يكون المرء سكرانا أو سيء المزاج. أعترف أنني كلاهما الآن: سكران وغاضب..
ملاحظة أولى: مر يومان من غير أن يهاتفني نور الدين. أخبريه بأن بمقدور أبيه أن يعرف كل ما يفعل حتى وهو متواجد في مرسيليا. أخبريه بذلك فقط. ما زال طفلا وسيصدق حتما كل ما تتفوهين به.
ملاحظة ثانية: على فكرة، حتى نحن نصدق كل ما تقوله لنا الحكومة… هل يعني ذلك أننا أطفال؟
*****
خاص بأوكسجين
————-
تصدر الرواية قريباً عن منشورات المتوسط في ميلانو.