كنتُ أعرف أن زوجة أبي الجديدة هذه ستُنجب لعنة جديدة. كم كرهتُ هذه البنت كرهي لأُمِّها، وكرهي لقَدَري. كنتُ أنتظر صبيَّاً، يكبر معي، ويُؤنس وحدتي، ثمَّ أتركه مثلما فعل بي إخوتي الذين رحلوا، ليواصلوا تعليمهم في المدينة، ويتزوَّجوا نساء متحضِّرات، يضعنَ العطر الفاخر واللذيذ، ويُطلقنَ شُعُورهنَّ النظيفة للهواء. أمَّا أنا، فكان قَدَري أن أخرج من المدرسة باكراً، وأرعى الأغنام، وأفلح الأرض، وأتزوَّج ابنة أحد أقاربنا التي تفوح منها رائحة الماعز.
إني أُحبُّ أبي، هذا فقط ما يجعلُني أستمرُّ في هذه الأرض المنعزلة عن العالم.
يؤلمني أنّ المرأة التي أخذت مكان المرحومة أُمِّي أنجبت بنتاً. وما يؤلمني ويغيظني أكثر هو حُبُّ أبي لها. إنه ينظر إليها برقَّة وحنان. ولا يدع زوجته – التي يبدو أنّها لم ترغب في أن تُنجب بنتاً – تغفل عنها. في العادة يبدو أبي قاسياً وصلباً مثل جبل، ولكنّ شيئاً ما صار يلمع في عينَيْه كلَّما نظر إليها. لاحظتُ هذا مرَّات كثيرة. وأنا الذي أخدمه برموش عينَيَّ، لم أرَ نظرة ودٍّ واحدة تجاهي. لا بأس، سأجعل حياتها جحيماً.
ستندم لأنها هنا.
***
[إني أرى كل حياتي تتهاوى أمامي مثل زجاج نافذة، هشَّمها أطفال الحَيِّ نكاية في صاحبة البيت التي تمنعهم من لعب الكرة أمام منزلها.
إذنْ، قلب مهشَّم … والكثير من الأفكار المُجْهَضَة والأحلام الرديئة.
لا شيء ينفع أو يمكن أن يصلح في هذا العالم الرّديء.
ماذا يفعل عصفورٌ حُرٌّ بلا جناحَيْن؟ أو عصفور بجناحَيْن داخل القفص؟ يُطبق حزن خفيٌّ وجارف على روحي، ولا يريد أن يتركَها، إنّه التَّملُّك … الناس العاديون، يا فرجينيا، تتملَّكهم أرواح شرِّيرة أو شياطين، وأنا يتملَّكني الحزن.
يا لهذا القَدَر!
لطالما كان رفيقاً مزعِجاً … البارحة زارني في الحلم. كنتُ في غرفة بيضاء، سرير ضيِّق بشراشف بيضاء أيضاً … لستُ متأكِّدة إن كنتُ أحلم، فكل شيء يشبه هذه الغرفة التي أكتب لكِ منها الآن، عندما طرق الباب ودخل، لم يُسلِّم عليَّ. جلس هادئاً بجانبي، قلَّب نظره في الغرفة، لم يجد شيئاً سوى قارورة ماء بلاستيكية على الطاولة حذو سريري. نظر طويلاً إلى هذه المفكِّرة السوداء التي أكتب لكِ فيها. طَقْطَقَ أصابعَهُ، كنتُ هادئة مثله، وصامتة مثلما أفعل مع الجميع هنا. مدَّ يده ببطء نحو عُنقي، أمسكني برفق. داعبَني، فجأة تصلَّبت يداه، وبدأ يؤلمني. حاولتُ أن أصرخ. لم يخرجْ صوت. ثمَّ تركَني قائلاً: أنا فقط أُحبُّكِ.
يحبُّني، هذا كل ما في الأمر. أمَّا أنا، فتعوَّدتُهُ.
الأصوات التي تناديني دوماً وتُحادثني، نعم، الأصوات نفسها التي أُحدِّثكِ عنها. هناك صوت رجل التقيتُهُ مرَّة بالصدفة في مقهى مُنزوٍ في المدينة العتيقة، لم يجد طاولة يومها، ليجلس عليها، فجلس معي، حينها كنتُ أقرأ كتاباً يتحدَّث عنكِ. ذاك الرجل الذي أصبح يُدمن على القهوة هناك فيما بعد،أخبرَني، بعد أن عرَّفني بنفسه، وبتخصُّصه في الأساطير، عن ساحرة تُشبهني، كان الحزن سلاحها. تصطاد به الرجال، لتصنع من جلودهم مفارش وزرابيَّ، تبيعها للأميرات. ثمَّ عدَّل جملته قائلاً: أنتِ تشبهينها.
لم أكن ساحرة، ولم أُجرِّب.
الرجل كان متأكِّداً أنّ الحزن هو أشدُّ أسلحة الأُنثى فتكاً، إنّه يجعلها تبدو هشَّة كمرآة، وعنيدة كفَرَس برِّيَّة.
هل كان الحزن هو سلاحكِ أنتِ، لتصطادي الكلمات؟]
***
لم تكن تحبُّني.
كانت تخافني، هذا كل ما في الأمر. الخوف، إنه قفل حياة أغلب الناس، وربَّما لحياة هذه البنت. حين هاجمتُها لم تكن تعرف الخوف بعد. كان عمرها سَنَتَيْن أو أقلّ. كان محجَّراً عليها الاقتراب منِّي أو الخروج من مربَّع البيت. رغم أنها كانت تلعب دوماً وحيدة في التراب، ولا أحد يكترث لأمرها إلَّا والدها المُتغيِّب في أغلب الأحيان، بحكم تنقُّله إلى المدينة أو العاصمة، حتَّى إنها في أحد الأيَّام لدغتْها عقرب، وتركت أثراً على يدها اليسرى، ولم يأخذها أحد إلى الطبيب. كنتُ أحبُّ شكلها الدَّائريَّ ككتلة لحم تتدحرج يوميَّاً أمامي. وكنتُ جائعاً.
كان ذاك اليوم منتصف شهر ماي. الطقس معتدل مثل كل الربيع. الأغنام لم تعد بعد، فالأخ يأخذها ترعى بعيداً في الحقول الشاسعة. الأب جالس عند البيت على الصخرة الكبيرة يتأمَّل ويُسبِّح. أمَّا الأُمُّ فتستعدُّ للذهاب إلى نبع المياه. الأُمُّ تجلب الماء للدجاج والأغنام من الوادي القريب. يومها كانت ستأخذها معها، كي لا تقطع خلوة زوجها، ويبدو أن الصغيرة كانت تحبُّ ركوب الحمار. طبعاً يبدو أنه توق نابع من هَوَس الطفولة باللعب. وهذا الهَوَس سيتحوَّل لاحقاً إلى رأفة تجاه كل الحيوانات.
يومها لم أستطع أن أقاوم شهوتي لِلَّحم البشري، ولا ذلك الإحساس الذي تملَّكني لتذوُّق لحمها الطَّرِيِّ. أغرتْني وجنتاها. وقاومتُ. حاولتُ أن أسترجع كل دروس الوفاء التي تجري في دمي.
تأخَّر العشاء. زادت شهوتي. هي لم تكن تعرف الخوف بعد. اقتربتْ منِّي. تدفَّق الدم إلى رأسي. تربَّعتُ في وعائي. نام إخلاصي، فعضضتُها. كنتُ أريد تذوُّق وجنَتَيْها المُحمرَّتَيْن، لكنّها استدارت، فقضمتُ أُذنها. بعض منها أكلتُهُ، وتركتُ آثار أنيابي على خدِّها. لم يأخذوها للطبيب، ولم يكترثوا كثيراً بها كما يحدث دوماً. شُفِيَت الإصابة في وقت قصير جدَّاً، بسبب مسحوق البطاطا المحروق الذي وضعتْهُ جارتهم المجدوبة على جرحها.
كبرتْ وكبرتُ. لم تسامحْني. حتَّى عندما متُّ كانت تأتي دوماً قرب جثَّتي، لا تقترب كثيراً، ترمقني بنظرة لوم وحزن عميق، ثمَّ تذهب. كانت تخافني. الجرح الذي سبَّبتُهُ لها يومها علَّمها معنى الخوف، وجعلهُ قفل حياتها بأكملها. هكذا هو الخوف يكبر مع البشر مثل ذكرياتهم، ومثلما تكبر شرورهم أيضاً.
***
[تعلَّمتُ الخوف وأنا صغيرة. مثل خُنْفَسَاء عمياء، تخشى أن تخسر كرة الرَّوْث التي أمضت أيَّاماً تجمعها. تعلَّمتُهُ وأنا قابعة في تلك العَتْمَة الأولى. المكان الوحيد الذي شعرتُ فيه بالأمان مثلكِ تماماً، ربَّما لذلك أنتِ ترسلين روحكِ إليَّ الآن. في تلك العَتْمَة، كنتُ أخاف ألَّا أشعر بالأمان. كانت روحي تعرف من تلك اللّمسة الخشنة أنّ طريق النور شائكة.
عن أيِّ نور أتحدَّث والخوف يجري في روحي مثلما يجري الدم في جسدي.
بالمناسبة، لا أُحبُّ الأحمر إطلاقاً، لقد تعرَّفتُ إليه عندما قضم كلبُنا الوفيُّ بعضاً من أُذني، لأني اقتربتُ من طعامه، وتعمَّقتْ معرفتي به حين غرستْ كلبةٌ أنيابها في يدي بينما كنتُ أحاول أن أفكَّها من براثن كلبة أخرى. كان يجب أن أنتبه حينها إلى أن الوفاء وَهْم كبير، وُجد ليؤكِّد حقيقة الخيانة. لكنني، طبعاً، لم أنتبه.
كان يجب أن أتعلَّم من الحيوانات الشرسة دروس الحياة القاسية، وأُدرِّب روحي على وحدتها. لكنني كنتُ مثل يَرَقَة صغيرة تنمو داخل شَرْنَقَة، ساكنة في الظاهر، كي لا ينتبه الآخرون إلى ضجيجي الدَّاخليِّ، إلى كلِّ تلك الأفكار والحكايات والقصص التي أُؤلِّفها سرَّاً. أسرار كثيرة كانت في شَرْنَقَتِي، حيثُ لا يخنقني الضوء وضجيج الآخرين.
أسمع الآن صوت ذاك الكلب وهو يمضغ نصف أُذني، نُباحه حادٌّ جدَّاً. لقد بقيتُ خائفة منه حتَّى بعد أن تحوَّل إلى جثَّة هامدة، تأكلها الديدان. لقد تمنَّيتُ دفنه فقط من أجل نصف أُذني. هل تعرفين، يا فرجينيا؟ أنا أمقتُ الكلاب، وكلُّ المنازل التي سكنتُها كان بجوارها كلاب، لا تتوقَّف عن النُّبَاح. أصواتها تُزعِجني، إنّها لا تتوقَّف عن النُّباح في رأسي. رجاءً، اطلبي منها أن تسكتَ، إني أرغب في النوم.]
————–
صدرت الرواية عن منشورات المتوسط في ميلانو.
*****
خاص بأوكسجين