يُجبر ياسر الخطّي على الحضور قبل الجميع بنصف ساعة. خلال السّنوات الأولى التي تلت إدماجه لم يترك سانحة إلاّ انتهزها ليثير الأمر. كانت الإجابة دائما واحدة: «مهمّتك حسّاسة جدّا. لا نريد مشاكل. فوقنا شركة عالميّة. على أيّة حال لا أظنّ أنّك تقترح أن نصبّ التّبغ في الحوض كالقمامة دون مقادير؟». في البداية كان يجيب : «طيبّ لم لا أتمتّع بنصف ساعة قبل نهاية الدّوام إن كان لابدّ؟» ثمّ مع مرور الوقت اقتصر على المطالبة بأجر ساعة إضافيّة على الأقلّ. بعد ذلك كفّ عن التذمّر إلى الأبد، حتّى أنّه بات يعيد على مسامع زوجته كلام رؤسائه كلّما همست له بأنّهم يستغلّونه، مع إضافة بدت له ضروريّة حتّى لا يشعر بأنّه مجرد ذراع تحكّم أو ترسا حقيرا في المصنع: « وضعي مختلف تماما.. عليّ أن أزن أكياسي بنفسي.. لو أنّها محلّيّة لجاز الحال، لكنّها مستوردة.. مستوردة. ألا تفهمين!»
كان يبعثر – بمذراة – أوراق التّبغ المخمّر المُكوّمة في شكل هرم. يراقب الغبار المتصاعد برهة. يُحضر أكياسا فارغة. يبالغ في نفضها. يشرع في ملئها. يزنها بعناية أقرب إلى الحنوّ. يعدّها. يسجّل جميع نتائجه في كرّاس. يشغّل المحرّك الضّخم في قاع حوض التّرطيب. يلقمُه التّبغَ الكيسَ تلو الكيس. تداعبه رائحة التّبغ المبتلّ لدى ملامسته الماء المغليّ. مازال يتلقّى الرّائحة كاستغاثة. لن يرى أوراقه مجدّدا إلّا بعد يومين وقد أصبحت جاهزة لتُلفّ في ورق السّجائر. عليها أوّلا أن تخوض رحلتها. ستتقاذفها المضخّات وتطوف بين الطّواحين والشّفرات قبل أن تدخل أخيرا وحدة التّجفيف. ينتهي من إفراغ الأكياس يتفصّد عرقا. يركن إلى الرّاحة بضع دقائق. بدوره سيتّخذ موضعا آخر عمّا قليل. سيقضي بقيّة النّهار في فرز العلب وتجميعها داخل الكراتين. منذ فترة أصبح عليهم فوق أعبائهم أن يختموا كلّ خرطوشة بعلبة عليها تحذير يقول: «التّدخين يضرّ بمحيطكم» خلافا لأخواتها التي عليها تنبيه يقول «التّدخين يضرّ بصحّتكم». عليه البحث عنها في كلّ مرة من بين آلاف العلب التي تمرّ أمامه. يُقال إنّ ملصقا واحدا أفضل من ساعة إنتاج بأسرها. العبارات المعصورة عصرا كهذه تسبّب له الصّداع. أليس بينكم من في وسعه أن يتكلّم فنفهمه؟ أخبره آخرون: «يُعفى المصنع من الضّرائب لأنّه يمدح المُحيط. يكافأ لأنّه لم ينكر أنّ للمحيط على البشر حقّ. فهمت الآن أم نعيد؟ الأمر شبيه ببرقيّة تعزية لوالد المحيط أيّها الرّجل الطيّب..» قالوا له أيضا أنّ الإجراء ضروريّ لإخراس الرّومانسيّين. حدّثهم مدير الإنتاج بنفسه ذات اجتماع بأنّه قام بإنجاز تاريخيّ دون تكاليف تُذكر. قال أيضا إنّه أذكى مخلوق في الكون. لكنّ ياسر الخطّي راح يُقلّده لرفاقه في المطعم. كان في غاية السّعادة وهو يكرّر : « سقطت في حديقة بيته بينما هو نائم يفسي ويُسِيل الّلعاب، فادّعى أنّه انتزعها من فم الوحش.. حظّا كهذا يا ربّ! حظّا كهذا وأعدك ألاّ أكذب!»
مساءً، يتّخذ مجلسه المعتاد على جادة مقهى شعبيّ يراقب كلّ ما يتحرّك. غير بعيد ينتصب صندوق زجاجيّ بأرجل ملوّنة بالورديّ والأخضر. في قاع الصّندوق تناثرت علب تبغ متباينة الماركات. يجلس خلفه رجل خمسينيّ مرح لا يتوقّف عن القيام بترتيب أغراضه على نحو يوقع في النّفس أنّه يوقظ سمكات متعبة داخل أكواريومه كي يغري المارّة بالاقتراب. ياسر الخطّي الذي أسلم حواسّه للكسل يسمع باستمرار أناسا لهم صيت في المدينة يأتون خصيصا إلى صديقهم الخمسينيّ بحثا عن العلبة النّادرة الرّفيعة المَضرّة فقط بالمُحيط، هاتفين: « إذًا.. هل تركت لي كما اتّفقنا واحدة مُحيط؟»، تُلحّ على ياسر الخطّي آنذاك رغبة جامحة في تفسير الأمر من أوّله إلى آخره لكنّه بدلا عن ذلك يكتفي برشفة شاي مُصوّبا نظرات خاملة وأحداق راقصة نحو الصّديقين، مُحدّثا نفسه في كلّ مرّة: لن ينفع!.. عشّاق الدّخان كالدجّالين تماما؛ حججهم أكبر دائما.
*****
خاص بأوكسجين