إلى علا صالح صديقتي التي كلما سقطت من علو شاهق لا تتأذى لأنها تملك خفة أصابع عازف بيانو… ولأنها كأسراب الإوز تتقن فن الهبوط الآمن أثناء العاصفة.
حين يتحدث علماء الآثارعن تاريخ مصر…الأصدقاء أهم من الأهرامات … وحين يتحدثون في نشرة الأحوال الجوية عن منخفض جوي فوق المتوسط …هم أول حبات المطر التي تنقر شبابيك غرفتي …
يقاطعني ممول القروض الصغيرة سائلاً :ماهو مصروفك بالشهر؟ وكم راتبك؟ ألديك مصدر دخل أخر؟ ما قيمة فاتورة موبايلك في الشهر…؟
أوقف التفكير بما يدور في رأسي عن الأصدقاء وأجيبه: (… ) وأن فاتورة موبايلي (….) يندهش! ويكمل تعبئة الاستمارة متمتماً، بصوت مفهوم لو أن ابنه بلغت قيمة فاتورة موبايله هكذا مبلغ لوضع لاصقاً على فمه لمدة عام…!!
كيف يمكنني أن أفهمه أن المسافة بين المدينة وغرفتي في القرية هي بطول اتصال هاتفي معكِ، وأن هذا الاتصال هو وحدة القياس الأهم على هذا الكوكب.
أصل غرفتي ولا أنتبه بأنه قد مضي نصف ساعة ونحن نثرثر على الموبايل ونضحك، الضحك يعني أنك لست وحيداً في غرفة رطبة، الضحك شجرة لا تعترفُ بالمثل القائل : ” مافي شجرة وصلت لربها ” الضحك فرح امرأة عاقر حبُلت حين شاهدت مسلسلاً كرتونياً بعنوان ” عدنان ولينا ” ل “ميازاكي ” ولد ” ميازاكي ” في الخامس من يناير عام 1941 في العاصمة طوكيو وحصل على شهادة في العلوم السياسية والاقتصاد ثم انضم إلى (Toei Animation) للرسوم المتحركة وتزوج زميلته الرسامة ( اكيمي اوتو) وفي طفولته كان يحب رسم الطائرات ثم تحول هذا الحب إلى شغف بكل ما يتعلق بالطيران… ميازاكي أضحكني وأنا صغير وحين كبرت فردتُ جناحيَّ .
لقد ضحكتُ وضحكتُ إلى أن كبرت في السن ياصديقتي ولم أعد أملك سوى ألم خفيف في ركبتي وندبة تحت ذقني وجسد نحيل كطفل إفريقي لم يتعرض للمجاعة لكن جسده نحيل…!! فيما مضى كنتُ واثقاً أن رساماً ما، كجوني سمعان مثلاً سيوقف اتساع ثقب الأوزن حين يرسمه على شكل نافذة مفتوحة تُسمع من خلالها ضحكات جميلة … مع الوقت زاد اتساع ثقب الأوزن وجوني سمعان لم يفعل شيئاً… سوى أنه أصبح صديقي أكثر.
كبرتُ ولا شيء أندم عليه سوى الوقت الذي قضيته على شبكة الانترنيت وأنني لم أتعلم رياضة (الجمباز) وأترك شَعري يطول وأنا يافع، نادمٌ لأني بقيت أكثر من خمس سنوات في غرفتي التي لها باب شمالي ونافذة شرقية في حين كنت أحب الباب الغربي والنافذة الجنوبية… رغم ذلك أشعر بالفرح لأني لم أقرأ الأدب الروسي كما يجب ولم أقتنع بماقاله الماغوط (الفرح ليس مهنتي) ولأنني حين أصبح عجوزاً وفي ليلة باردة أوغير باردة وأنا أجلس وحدي لن أشعر بالوحدة والكآبة أبداً، فذكرياتي الجميلة وسعت نافذتي وأصبح بمقدوري أن ألقي الليالي الكئيبة… البارحة ألقيت ليلتين في نصف ساعة، رغم ذلك حين أغفو أرى في منامي أناس أقول لهم : أنا معكم فيطلقون النارعلى قدمي اليسرى …!! أقول: أنا معهم فيطلقون على اليمنى…!! أقول : أنا لستُ مع أحد فيطلقون معاً على جهة قلبي …!! الأغبياء لايعلمون أن قلبي على الجهة اليمنى حيث أنبض بالتفاصيل الصغيرة والأصدقاء والحب والضحك والرغبة في الحياة التي تفوق قدرة الله على الخلق.
صحيحٌ أن كل شيء حولي يقول لي بوقاحة وقسوة أني كبرت:
نوادي الرياضة المختلطة
الحمام المشترك للشباب والبنات في المقهى
عودة فتاة مع صديقها بعد منتصف الليل إلى منزل أهلها
خروج الشعوب العربية إلى الشوارع ضد حكامها
إحساسي بعدم جدوى الحياة …
إلا أن ثمة أشياء أخرى تجلعني أشعر أني شاب مثلاً : جسد زوجتي العجوز الذي لاأراه مترهلاً رغم السنين… ” إنه الحب”.
لقد كبرتُ وأنتِ لازلتِ في عمر يسمح لك أن لا تساومي الغيوم على نصف شتاء والحقول على عدد قليل من شقائق النعمان … عمرٌ يدهشك فيه ” تشيخوف وجميل حتمل وزكريا تامر وغيرهم … رغم ذلك تكتبين قصة قصيرة عنوانها: القصة القصيرة لاتمثلني، تقرأينها في مهرجان للقصة القصيرة ثم تعلنين أمام الجميع بأن القصة القصيرة كجنس أدبي لا يعجبك وأن القصة القصيرة تشبه لاعب احتياط في مباراة ودية يدخلهُ المدرب في الدقائق الأخيرة كنوع من هدر للوقت، وتستفيضين بالحديث عن النص المفتوح وأهميته وتُصرَين وبشدة على جمالية المشهد الناقص في النص المفتوح الذي “يبحث عن اكتماله اللامحدود”. عندها سيصفق لك الجميع لأن البعض منهم يوافقك الرأي، والبعض الآخر سيبتسم قائلاً : مازالت في عمر يسمح لها أن تقول.
__________________________________
شاعر من سورية
ramenoor@hotmail.com
الصورة من أعمال الفنان التشكيلي السوري يوسف عبدلكي
*****
خاص بأوكسجين