يستيقظ بعد منتصف الليل، يهرش رأسه لا يرتدي خفاً رغم البرد، يتناول لقمة من قدر الأرز المتروك على الغاز منذ الغداء، يضع دلّة القهوة على النار، يقشّر برتقالة يروي بها عطشه، يضيف البنّ إلى الماء المغلي ثم يسكبها في فنجان أبيض صغير، يحمل الفنجان و البرتقالة في نفس اليد كل واحدة بإصبع، و يجلس في الصالون البارد وحيداً حزيناً لا يعرف من أين يبدأ يومه كبومة.
يفتح جهازه المحمول يتصفح الفيسبوك، يشعر بالملل، يبحث عن كاتب إنكليزي يدعى جون كيتس كان قد شاهد عنه فيلماً، يقرأ عنه قليلاً ثم يحمّل مجموعة شعرية له باللغة الانكليزية و يفكر به “مات جون كيتس في الخامسة و العشرين من عمره و هو يعتقد بأنه فاشل لكنّ اسمه يعدّ من ألمع الأسماء في عالم الشعر الرومانسي منذ العام 1818 حتى اليوم”، يفكر فيه مرة أخرى ويقضم فصاً من البرتقالة، يستهويه أكثر فيذهب إلى أبحاث و آراء نقاد تتحدث عن أعماله، لكن الكهرباء تخذله فيضطر للخروج من العالم الافتراضي – بسبب توقف الإنترنيت- إلى الحياة الواقعية التي يهرب منها كل ليلة بنفس الروتين؛ ينام كلما انقطع التيار الكهربائي ويستيقظ عند عودته، لكنهم غدروا به الليلة؛ ها قد استيقظ وقهوته لا تزال ساخنة ولم يكن مستعداً لسُباته الثاني بعد ساعة ونصف كما العادة.
شعر بمرارة القهوة في زاوية فمه فتذكر أنه عضّ لسانه ظُهراً عندما اختلف مع حبيبته على اسم كاتب شاب لا يكنّ له إلا الضغينة كانت قد أشادت به و بروايته الجديدة ومن فرط مفاجأته عضّ لسانه خطأ وهو يصرخ محاولاً أن يثنيها عن رأيها، ولأنه لم يفصل مشاكله الشخصية مع الروائيّ الشاب عن عمله الأدبي، أثار حنقها لذا رغم ألمه لم تمتنع عن الاستهزاء به عندما آذى نفسه فسخرت منه وقالت له:
– هذا جزاؤك لأنك تخالفني الرأي.
فما كان منه إلا أن تركها في المقهى وخرج إلى الشارع كثور هائج ينطح الأرض بقرنيه معلناً ثورة غضبه و محذراً أحداً من الاقتراب منه.
قام مرة أخرى إلى المطبخ دون أن يرتدي خفّه الذي ابتاعته له أول الشتاء حتى لا يبرد، لسعه البرد في باطن قدمه كجمرة، وقف على أطراف أصابعه ليقلل مساحة الاحتكاك بالسطح البارد يبحث عن قطعة حلوى فوق الرفوف المليئة بالصحون و الكؤوس فوجد حبة “ملبّس” تناولها وقضمها كي يزيح المرارة من فمه، عاد إلى غرفة المعيشة وهو يتأمل الساعة:
– لعلهم أخطأوا في توقيت التقنين، ولا بد أنهم سيستدركون خطأهم في أية لحظة.
قرر أن يستمع للموسيقى ريثما تعود الكهرباء فخذله جهازه المحمول أيضاً، وتذكر أنه بسبب مشكلته مع ميساء عاد إلى البيت غاضباً وخلد إلى النوم دون أن يضع جهازه في الشحن، فلعن ميساء و الكاتب الشاب الذي أعجب حبيبته والحكومة … ولم يلعن نفسه، مما أثار ضحك الكاتب الذي يكتب عنه، فحدّث نفسه:
– لمَ لمْ أكتب أنه لعن نفسه أيضاً، كم هو اتكالي وغير مسؤول.
عاد الكاتب إلى لوحة مفاتيحه ليكمل اللوحة التي بدأها:
بعد ذلك قرر عصام أن يكسر الصمت المطبق الذي أحاط به فقام لكنه هذه المرة ارتدى ثيابه رغم أن النشرة الجوية حذرت أن عليهم التزام منازلهم بسبب الجليد و البرد الشديد، لبسَ جيداً وضع قبعة من الصوف على رأسه غطى بها أذنيه و شالاً من الصوف غطّى به رقبته الطويلة، خرج إلى الشارع يبحث عن مكان قد تكون فيه كهرباء في هذه الساعة المتأخرة من الليل، أدار المفاتيح في سيارته “الفيات” السوداء القديمة و انتظرها حتى سخن المحرك، وضع اللابتوب على المقعد المجاور له وهاتفه المحمول وسار بهدوء نحو بيت أحد أصدقائه:
– لا بد أن لديهم كهرباء فإن رأيتُ شباك غرفته مضاءً سأنادي عليه علّي أبيتُ عنده الليلة.
لكن منزل صديقه كان غارقاً في الظلام، تابع سيره نحو منزل صديق ثان لنفس الغرض. توقف الكاتب عن الكتابة و هو يتساءل:
– لم يريد أن يذهب إلى بيت صديق ثان بعد منتصف الليل؟
فلم يجد مبرراً درامياً أو أدبياً له صلة بالقصة التي يكتبها، هرش رأسه رشف من قهوته التي بردت، مجّ من سيجارته الحمراء الطويلة مجّة طويلة، وتابع:
صديقه الثاني كان غارقاً في الظلام مثل كل سكان هذا الحي، لكن المدينة أسَرَته بجمالها وهدوئها في مثل هذه الليلة العاصفة فقرر أن يتجه نحو الكورنيش البحري لا بد أن هناك مجانين مثله قد خرجوا في هذه الساعة. وصل إلى حيث يريد لكنه على طول الطريق لاحظ أنّ المدينة كلها ليس فيها نافذة واحدة مضاءة، استغرب كثيراً فالتقنين عادة يختلف من منطقة إلى أخرى ومن الغريب أن تختفي الكهرباء من المدينة كلها في نفس التوقيت، اللعنة على هذه البلاد. أدار الراديو ليحظ ببعض الأُنس فكانت أم كلثوم تنادي حبيبها الذي زارت يوما أيكه، وقف عند بائع القهوة يطلب فنجاناً من القهوة المُرّة ناسياً المرارة التي أحس بها قبلاً، هناك في الأفق البعيد في عرض البحر رأى ضوءاً يلتمع، يظهر ثم يختفي فسأل القهوجيّ:
– ما ذاك الضوء هناك؟
– إنه مركب صيد
– مركب صيد في مثل هذه الليلة العاصفة؟
– يكون البحر خيّراً في مثل هذه الأوقات لكن قلة من الصيادين يغامرون بالخروج خوفاً من انقلاب مراكبهم و الغرق فالبحر ليس له أمان كما تعرف.
توقف عصام والكاتب الذي يكتب عنه هنيهة وهما يفكران في هذا الصياد الجريء الذي خرج يطلب رزقه في مثل هكذا وقت. فقال عصام للكاتب:
– ربما يبحث عن مغامرة ما
– لا أدري، أنظر إنه وحيد، لا أحد غيره هناك.
– لم أخرجتني من المنزل إذا؟ ألم يكن بمقدورك أن تعيدني إلى سريري الدافئ بدل هذه البهدلة؟
– كنت أظن أنك تحب التسكع ليلاً؟
– هل أنت جادّ؟ أكاد أموت من الغيظ و البرد، أعدني إلى البيت حالاً.
– لكني لم أجد قفلة أو خاتمة لرحلتك الليلية هذه كي أعيدك؟
– أقول لك أعدني وإلا فسأخرج من حكايتك الغبية هذه؟
– على رسلك فأنا أكتبك و لا تستطيع أن تخرج، أتمازحني!
– أخطأت يا سيدي الكاتب لقد صرتُ كلمة على ورق و الكلمة متى خرجت لبست روحها، لا يمكنك اعتقالي ولا تستطيع أسري في قصتك الساذجة.
– ما الذي حدث لك؟ لماذا غضبت هكذا؟ حسن سأعيدك إلى البيت، لكن لا تهدّدني مرة أخرى فأنا من صنعتك، من دوني أنت نكرة، لا أحد، ليس لك وجود أصلاً.
– هل تعتقد ذلك؟ بعد أن خرجت منك، لم تعد تستطيع إعادتي إلى سجن أفكارك الحمقاء.
ثم أدار عصام محرك سيارته السوداء “الفيات” القديمة وقاد سيارته بأقصى سرعة نحو الضوء البعيد في الأفق.
*****
خاص بأوكسجين