أُسمّيها ليلة النواصة الحمراء…
على أرض الغرفة فراشٌ من الصوف العربيّ، وقريباً منه صينيةٌ من الألمنيوم المهمَل. (غداً سأفركها بالليفة الخشنة وملح الليمون ليلمع سطحها كبرق النجوم في ليالي الصيف). على الصينية الداكنة صحنان من زجاجٍ ركيك في أحدهما بزر بطيخٍ محمّص وفي الآخر كببٌ مقلية، وعليها علبة دخان مهرّب، مرسومٌ عليها اسمها بحروفٍ انكليزيةٍ طويلة: “”Pall_Mall، وولاّعةٌ أجنبية مذهبّة، وزجاجة نبيذ، “شُغل البيت، بيديّ هاتين خمّرتُه”، قال لي خليل.
(تذكّرتُ دوالي العنب، أمهات النبيذ، رأيتها في مدخل الدار هذا المساء تتمطّى بسيقانها النحيلة على شرائط رفيعةٍ موصولةٍ إلى حيط الحجر لتصير سقف خيمةٍ يُظلّل الفسحة غير المسقوفة أمام باب المضافة. هو الباب الذي دخلتُ منه عروساً يتبعها الحداء، وقادني خليل من ذات الباب بعد انفضاض الحفل إلى زاروبٍ معتمٍ يفضي إلى غرف المعيشة التي ستكون إحداها مسكناً لي)
قرب زجاجة النبيذ كأسٌ مغبّش من صناعة معمل الشرق. كأسٌ وحيد، تفاءلتُ أن سيسقيني خليلُ رشفاتٍ منه. داهمني الغثيان حين أدخل خليل أصبعه في منخاره، وبانت لمعة السنّ الذهب في فمه تحت الضوء الفوسفوريّ لعقارب ساعته. خرج أصبع خليل بفتيل مخاطٍ لزجٍ دفنه في المحرمة ولم يقم بعدها لغسل يديه.
لا أعرف إن كانت مصاريني تقرقر من الرهبة أم من الجوع أم من كليهما. خليل يمضغ قرشةً كبيرة، أسمع صوت انسحاق البرغل تحت مطحنة أسنانه، ينتفخ حلقه ثم يلتوي لينقل اللقمة إلى عناية الحنك المقابل، وفي عينيه، هناك أعلى خدّيه المنهمكين في الطحن، آياتُ إعجابٍ لا تخفى.
لم يلقّمني خليل لا قرشةً كبيرةً ولا صغيرة، ولم أمدّ يدي إلى الكبة وبالطبع لن أمدّها إلى كأس النبيذ، فالمشاريب المنكرة عندنا حكرٌ على الرجال وحدهم يتعاطونها في السرّ خلف ستر البيوت، ويستعينون بالكتمان على رذيلة شربها.
في ليلة النواصة الحمراء كنتُ كمن في منام أو كأنني فأر التجارب الذي رأيتُ صورته على جدار مخبر المدرسة، مخدّراً مستسلماً كفتى حربٍ جاؤوا به إلى الميدان قبل اكتمال تدريبه.
أمس، تبرّعتْ خالتي بتلقيني ما يجب عليّ فعله بالحرف كي لا يُهان مجدُ أسرتنا: تستلقين، تسترخين، تفتحين رجليك، وتنتظرين. وحين يسكن تنتظرين أيضاً حتى ينهض عنك. حالما ينهض تنهضين ليرتدّ الدم إلى “القميص” المثبّت على الفراش تحتكِ. حين يرى خليل البقعة الحمراء سيضّمك ويقول: “مبروك”. بالحرف اتبعتُ وصية خالتي، بالحرف حدث ما وصفته كأنها ثالثتنا تحت عين النواصة، ما عدا الضمّة، ما عدا (مبروك).
في الليالي اللاحقة، وكلما اقتحمني خليل غازياً كقرصانٍ إفريقيّ، ستؤلمني معدتي، وتنبت على جلد بطني فقاقيع هشّةٌ كالزجاج، رخوةٌ كالعنب المسلوق في حرّ آب، تحكّني كرمد العين، وتنمو وتستشري وتراها عين النواصة الحمراء، عينها الشاهدة الوحيدة المتواطئة.
مضى أسبوعٌ على عرسنا. طلب خليل أن آتيه بلكن الماء الساخن. قال: “هاتي المنشفة واركعي”. قلت: “لا”. حطّتْ كفّه كالمخباط على وجهي بضربةٍ مثلثةٍ أو مخمّسة. مخباط يده كان بسرعة ال (لا) من فمي.
لم أكن ألِفت بعد أنني حقاً تزوجت، وأنّ شؤم بيتنا انفكّ بأضحيةٍ كانت أنا. لا يعرف خليل بعدُ ماذا أحبّ وماذا أكره، ربما لو عرف لراعى رغباتي. كنتُ مثلاً لا أطيق رؤية أمي تغسل رجلي أبي كلّ يومٍ حتى في أيام العطل الرسمية، كأنه فرضٌ دينيّ أملاه عليها شيخٌ عليم، (ردّدي خلفي يا امرأة: غسلُ رِجلي الزوج من طاعة الله)، أتخيّله يلقنها الدرس كل يومٍ ثلاثين مرّة كالجزاء المدرسيّ، كما أجبرنا أستاذ المدرسة يوماً أن نكتب قصيدة سليمان العيسى التي مطلعها: (على أقدامنا سقط المحال/ وأورقتِ الرجولة والرجال..)، لم نحبّها ولم نحفظها، وحين كتبناها مائة مرّة رسختْ في رؤوسنا بالإكراه..
خزين ذاكرتي طافح، طقوس الظُهريات الصارمة في بيت أهلي، ركوعُ أمي أمام لَكن الحديد، قهري عليها وقهري من سكوتها يستخرج مني صرخة: “لا” حين يطلب مني خليل أن أتابع سيرة سلفي الصالح من جموع النساء.
أذكر مكانَ الطعجتين في لَكَن الحديد المعلّق بمسمارٍ ضخمٍ في جدار الحمام، تماماً فوق مهرب الماء من زاوية الحمام إلى الأرض الخلاء خلف البيت. حين تنتصب الشمس في بطن السماء تكون أمي أنجزت مهمتها المقدسة الأولى: تطفئ النار تحت طنجرة الطبخ التي استوتْ، تتركها تنفث بخارها إلى أن تهجع، بينما تستعدّ أمي لمهمتها المقدسة التالية: تراقب تكتكات ساعة الجدار في الليوان. حين يرسم عقرباها شكل أصبعين، الأطول بينهما عاموديّ تماماً والقصير يتباهى عليه لأنه يتقدّم بنمرتين على أخيه الأطول، ما يعني الساعة الثانية، ويعني أنّ جميع الموظفين غادروا، وأبي في هذه اللحظة يقفل باب المكتب، وعلى أمي تسخين الماء في سطل التنك (فراغة سطل السمن)، وإنزال اللكن من على الحائط، وانتظار وصول فحلها. تضع المنشفة الحائلة السُّمرة على فخذيها السمينين، وتُركي جسدها على الأرض، ويدها على خدّها، وتسرح. سرحانُها كله في مرج العكوب. أكثر من عشرين عاماً في المدينة لم تخطف منها لا المزار ولا شجرة التوت ولا الحبّ القديم النافق كنعجةٍ بائسة. يلوح أبي من بوابة الدار، نركض نحن البنات إلى المطبخ أنا أفرد شرشف المائدة ورجاء تضع عليه سدر الأكل، وعفاف تسكب البرغل. تجهز المائدة حين يتربع صحن المكدوس قرب صينية البرغل الوسيعة، وتنفرد أرغفة الخبز حولهما، وتكون أمي أنجزت غسل رجلي أبي وتدليكهما وفرفكة أصابعه ومطّها وتدويرها، ثم حمل كل رجلٍ على حده وتنشيفها بلطفٍ، بكل لطفٍ، كما يوصيها أبي. يقوم أبي عن كرسيّه منتعشاً، وتلقي أمي بالمنشفة على كتفها وتنهض عن الأرض بتثاقل، تشكل ذيل تنورتها الطويلة تحت دكّة خصرها، تحمل اللكن، تنزل سبع درجاتٍ توصلها إلى حاكورة الدار، تدلق الماء تحت ورود الختمية والعطرة والشب السهران، تشرب الأرض ماءً معمّداً بأوساخ الرجلين وتحمد ربها. أيّ ماء أفضل من العطش، العطش المعشش في الأرض وفي قلوبنا. تعود أمي وهي تلهث، تعيد تعليق اللكن بالمسمار ــ الخازوق، وتنضمّ إلى حلقة جلوسنا حول الطبق. في أول الأمر كانت تغسل يديها بعد مهمة غسل الرجلين وقبل الطعام، ثم بدأت تنسى، ولاحقاً لم تعد تكترث.
***
في الليل أدرتُ وجهي صوب الحائط. لكزني خليل فلم أستدر. أدارني إليه غصباً عني. أخلعني ثيابي وولجني وأفرغَ وخرج مني، واستدار إلى الجهة الأخرى.
في المساء التالي أتيتُ بلكَن الماء حين طلبه، واستدرت لأبتعد. لحقني وشدّني من شعري. أبقاني واقفةً وهو يخلع ثيابي عني. ولجني واقفاً، خرج مني واستدار ليغسل رجليه بهدوء كرجلٍ أنيقٍ يستعدّ لفعل الحبّ لا كهذا الديك السريع الذي كانه قبل دقيقتين.
مضى أسبوعان على زواجنا واستأنف خليل سهرات العزوبية. يعود متأخراً ويوقظني، يطلب مني أن أخلع ثيابي، أتلكّأ. يخلعني إياها ويقلبني على ظهري. سيّان عنده إن طاوعتُ أو عاندتُ، فقد تفتّق وحشٌ من سفل بطنه، يهاجمني من الخلف، يسدّ فمي بيده كي لا يسمع أهله صراخي من غرفهم المجاورة، ويده الأخرى تُثبّت مقعدي حتى تستكين مؤخرتي ولا تعانده.
_____________________________________
من رواية “لا ماء يرويها” الصادرة أخيراً عن منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف. يمكن قراءة ملخص وجيز عنها في زاوية “صدر حديثاً” في هذا العدد من أوكسجين.
*****
خاص بأوكسجين