أعترف أولاً أنني لا أتذكر كم استغرقت الطريق من الإسماعيلية إلى القاهرة.
ولعل البدء بهذا الاعتراف سيعفيني من تفاصيل كثيرة كنت أود بشدة أن أوردها، وهي تتراءى لي أطيافاً أو صوراً، تتلامح في خاطري وتغيب، متصلة بأحبة رحلوا وآخرين لم ألتقهم منذ زمن طويل.
على كلٍّ وتوخياً للدقة، كانت هذه زيارتي الأولى للقاهرة، ولمصر عموماً طالما أنه وبعد هبوط الطائرة بي في مطار القاهرة أخذت ُرفقة جمع من الأصدقاء السينمائيين إلى الإسماعيلية، نحن المدعوين إلى مهرجان الإسماعيلية السينمائي وقد ترأسه حينها الناقد أمير العمري، ولأتوصل وبعد انتهاء دورته تلك، إلى أن زيارتي القاهرة مسألة حياة أو موت، نعم حياة أو موت، أنا الذي حين نزلت في مطارها ترانزيت في طريقي إلى الجزائر قبل أربع سنوات، راودتني مشاعر مهلكة لمجرد أنني لم أخرج من مطارها إليها لألقاها لقاء العاشق الولهان.
وصلت القاهرة وصول المترقب، المتحفز، المأخوذ مسبقاً بناسها وكل حجر من حجارتها، إلا أنها قابلتني خاوية على عروشها، وبدت أشبه بمدينة خاضعة لحظر تجول!
إنها القاهرة يا ناس! كيف لها أن تكون خاوية هكذا؟
ولعلعت مكبّرات الصوت لتجيبني، وتبينت أن اليوم هو الجمعة، وتداخلت أصوات خطباء المساجد والجوامع، ومن ثم الصلوات، فأيقنت أنه لا محالة يوم الجمعة.
كنت قد حجزت بناء على نصيحة صديقي الروائي نائل الطوخي في بانسيون توليب الواقع في ميدان طلعت حرب، والذي وصلته كما وصلت القاهرة، فرأيته أيضاً خاوياً، إلا من رجل في خريف العمر، قدّم لي فنجان قهوة، بانتظار من سيأتي ويتولى أمر حجزي، فاحتسيته من على شرفة البانسيون رفقة تمثال طلعت حرب وحيداً لا تنقطع وحدته إلا بمرور سيارة بين الفينة والأخرى من دون أي أمل بمارة أو سابلة.
وبينما كنت أعب دخان سجائري، ظهر رجل من غرفته، رجل آخر في خريف العمر، شاب في خريف العمر، طفل يصيّر الخريف فصولاً أُخر، والعمر أعماراً أُخر.
إنه سعدي يوسف.
“نبيٌّ يقاسمني شقتي
يسكن الغرفة المستطيلة
وكل صباح (سـ) يشاركني قهوتي والحليب، وسرَّ الليالي الطويلة..”
نعم سعدي يوسف، وهو مستاء من أمر ما. فما وجدتني إلا ناهضاً عن كرسي في الشرفة، وقد تحول الخواء إلى امتلاءٍ روحي.
قلت له من دون مقدمات كما لو أنني مكلّف بحمايته:
-شو اللي زاعجك أستاذ سعدي؟
فقال لي شاكياً كما لو أنه عثر على من سيفهم شكواه:
-بدي ثلج للويسكي فأحضروا لي هذه!
وأراني قنينة مياه بلاستيكية مثلجة، جمّدت المياه فيها، فأحسست بأن هذه كارثة الكوارث، ورحت أشرح لمن قدّم لي القهوة، بأن ما يريده الشاعر مكعبات ثلج، وليس ماء مجمداً في قنينة، وأردف في هذه الأثناء سعدي ليقول لي:
-بالعادة آخد كاس ويسكي بعد الـ 12.
فأدركت أن الساعة تجاوزت الثانية عشرة، وعدت حينها إلى الزمن، وكان هذا آخر عهدي بالزمن، فمع توالي أيامي الوجيزة في القاهرة فقدت إحساسي بالزمن.
أحاول الآن تحديد تاريخ ذلك اليوم، الأمر الذي توصلت إليه بمنتهى السهولة طالما أنه صادف يوم خطاب محمد مرسي وإلقائه القسم في ميدان التحرير، إنه يوم الجمعة الموافق 29 يونيو/حزيران 2013، والقاهرة حينها متوترة، استشعر ذلك في الهواء الذي اتنشق، في الأثير، وناسها مرتابون، وقد أنهوا حظر تجوال صلاة الجمعة، وأعادوا الحياة لمدينة الحياة بحذر شديد، وأنا كلما قصدت مكان تعزز احساسي بذلك. أطلب قهوة في “غروبي” فلا يحضرها النادل! اشتري بضع حاجيات من دكان قريب فيشعرني صاحبه أنني مستشرق.
وكنت قد عقدت العزم على الذهاب إلى ميدان التحرير. وكما لو أن ذلك تناهى إلى صديقي السينمائي جوزيف فهيم الذي ما أن أجبت مكالمته، حتى قال لي:
-زياد خليك باللوكندة..
ولما صارحته بأنني في طريقي إلى الميدان، زاد من صيغته الآمرة، ونهاني كلياً عن مجرد التفكير بأن أذهب:
-الميدان مش بتعنا دلوقتي!
وبات يضحك وأنا أخبره بما صادفت، وخلصت من حديثه أنني لست سوى أجنبي لمن صادفتهم أو كلمّتهم وهذا يعني أنني جاسوس أو شيء من هذا القبيل، والشائعات تجتاح القاهرة، بأن عملاً تخريبياً سيحصل، وأن هناك مخططاً لاغتيال مرسي.
وبات شغلي الشاغل ما إذا كان سعدي قد حصل على مكعبات ثلج أم لا؟ ماذا يفعل؟ لابد أن يكتب!
“سعدي
المتوحدُ والمرآة
يحاول أن يتصوّر ما هو أبعد منها…
أنت رأيتَ … فماذا بعد؟ الأشجار وفوضى الشارعِ والمرأة والطير جميعاً.
في المرآة. ووجهك أيضاً في المرآة. إذاً، ماذا بعد؟ ألم تسأم هذا؟
لكنك لن تغلق نافذة الـمَـرأى طبعاً … أولم تتفكّر في ما خلَقَ
المَــرء؟ إذاً، فلتبرأ من هذا الصلصال طيوراً! إنك لم تأتِ لكي
تتملّـى المرآة، ولم تأتِ لكي تكســرَها. هل أتعبك الدرب؟ وهل
خذلتك خطاك؟ انظر تحت غطائك، وانتظر الصبوات.”
***
السبت 30 يونيو/حزيران 2013 تغير كل شيء في القاهرة. تمّ تفكيك التشنج بنجاح. استيقظت المدينة، تمطّت، ثم اندلعت وتصاعد صخبها. استيقظت على سعدي يوسف وشاب كله جمال وثقة واندفاع يناقشه نقاشاً حامياً، فألقيت عليهما تحية الصباح، وسألت سعدي:
-انحلت قضية الثلج؟
قال:
-حليتها بأن انتظرت حتى ذاب ورحت أصب في القنينة المجمدة.
ولأكتشف أن ذلك الشاب صديق أعرف شعره وكتابته الصحفية جيداً، وصداقتنا تمتد لسنوات وسنوات ولم نكن التقينا من قبل، إنه الشاعر الفلسطيني نجوان درويش.
شرّعت القاهرة أبوابها، خضنا غمارها أنا ونجوان، أخذتنا وأُخذنا. وتعزز فقداني الإحساس بالزمن.
قابلت أصدقاء كثر، رأيت القاهرة بعيني صديقي المخرج عمرو بيومي، وهو يحيطني بواسع حبه وجماله، بواسع قاهريته المترامية بتراميها.
واقتصرت حركتي خارج ما تقدّم على أمكنة ثلاث، ثالوث عماده: الجريون، والنادي اليوناني، وريش، وليبدو لي وضوخاً أنه ثالوث سعدي يوسف أيضاً، وكلما دخلت واحداً منها أراه جالساً إلى طاولة، فيناديني:
-زياد زياد..
أسمع صوته الآن، وهو بمناداتي يضع حداً لترددي، وأنا أقول في سري، دع سعدي لوحده، إنه شاعر الحانات، إله الحانات والمقاهي، يستدعي إليها ما يشاء، يصيّره قصائد وأساطير. لكنه كان مصراً أن أشاركه طاولته، يسألني عن ما زرته في يومي وماذا فعلت؟ ودائماً يسألني ما إذا زرت الأهرامات، فأجيبه نافياً، فيبتسم! ويسألني أكثر عن سورية، ويخبرني عن ما يرمى به من شتائم جراء أرائه بالحاصل في بلدي، وعن أشخاص منهم من أعرفهم معرفة وثيقة ومنهم من أعرفه بالاسم لا أكثر؟ ويخبرني عن هذا وذاك، ويقاسمني شيئاً سريعاً وخاطفاً من ذكرياته هنا وهناك، كما لو أنه سئم الشوق والذكرى، أو كما في قصيدة من كتابه “ديوان طنجة” يقول فيها:
” لو كنتُ مشتاقاً إلى بلدٍ لطرت إليه
أو حاولتُ أن أمضي إليه ســــباحةً …
لكنني، وأقولها صدقاً، سئمت الشوق
والذكرى
ولم يعد الحنين لديّ أغنيةً.
تشابهت البلاد
وصرت أعرف ما سألقى ههنا أو ههنا
حتى كأني راحلٌ في راحَـتَــيّ …”
لم أجد سعدي يوماً من الأيام التي صادفته فيها، منكباً على كتابة شيء، وفي كل مرة أجده جالساً، مستقيم الظهر، ساهماً، وحيداً، يطربه الحديث عن السينما، وكلما كنت أمضي إلى الشعر يعيدني إلى السينما، إلى أن قلت له:
-لا تحب الحديث عن الشعر؟
قال:
-الشعر ليُقرأ!
وجدتها عبارة ملتبسة، فقلت:
– قصيدة عمر بن أبي ربيعة!
-ما بها؟
-قصيدتك عنه أحبها كثيراً!
فسألني ما إذا كنت أتذكر منها شيئاً؟ تذكرتُ سطراً أو سطرين لا أكثر، لكنني وجراء ما احتسيته من البيرة والويسكي، بحثت عنها في هاتفي فوجدتها، وقرأتها عليه – يا للجرأة أقرأ قصيدة سعدي على سعدي – وحينها أيقنت أنني سكران، وها أنا أضعها هنا بكامل تشكيلها، وما زلت للآن أتساءل ما إذا كنت قد أخطأت في التشكيل أثناء إلقائها على سعدي:
“وُلِدَ عمر بن أبي ربيعةَ، يومَ قضى عمر بن عبد العزيز، فقيلَ :
أيُّ حقٍّ رُفِعَ
وأيُّ باطلٍ وُضِعَ”
*
وإذاً
فأنتَ الباطلُ الأبديُّ.
يا جَدّي!
*
كأنّ أولئكُنَّ، القاصداتِ مِنىً، أردْنَك… لحظةً قبلَ الرحيلِ،
كأنّ أعناقَ الـمَطِيّ تسيلُ …
لكنْ، ليسَ ما تبغي، الأباطِحَ.
أنتَ تعرفُ، يا أبي، فتَياتِ مكّةَ !
كمْ وكمْ أحبَبْنَ همسَكَ …
كم ودِدْنَ لو أنّ مِنىً تظلُّ، كما هيَ، موضعاً للرَّيبِ
والرَبَواتِ …
أنتَ، لدى الفتَياتِ…
معنىً.
يا مُعَنّى.
أنتَ، تَروي، أنّ هنداً، تُخْلِفُ الميعادَ
أنّ البنتَ ليستْ تستبِدُّ …
كريمةٌ هندٌ، إذاً!
في هذه الأيّامِ نُسْمِيها كما يتكلّمُ الإغريقُ.
تُسْمى:
بَنِيلوب!
*
قد افتتحْنا، في تِهامةَ، فندقَ الشُّعراءِ
يا بنَ أبي ربيعةَ…
خَلِّنا، في بهجةِ الوادي!
أتعرِفُ؟
إننا في سُـرّةِ الدنيــا…
ستأتينا الصبايا، راقصاتٍ، بالشموعِ
وسوف نثمَلُ من رحيقِ فمٍ ودَنٍّ.
سوف نأتي بالسفائنِ
سوف نُبحِرُ…
أيُّ معنىً للمَطِيّ؟
وأيُّ مَذأبةٍ، مِنىً…
فلْنرتحِلْ يا جَدّيَ، الملعونَ، عن أرضِ الذئاب …
نعم قرأت قصيدة سعدي على سعدي، وكان عمر بن أبي ربيعة ثالثنا، وفي اليوم التالي ودعته في صالون الفندق، وقبل أن يمضي سألني:
-زرت الأهرامات؟
أجبته نافياً.
ضحك.
***
مدعاة للسخرية أن يكون الموت محفّزاً للذاكرة!
وماذا أفعل حيال ذلك؟
ماذا أفعل سوى إضافة هذا الحافز إلى سجل هائل من المفارقات العبثية التي تحفل بها الحياة.
لقد مات سعدي يوسف.
مات الشاعر.
الشاعر الخالص.
صاحب الشعر الخالص، المتداخل بحياته، بيومياته، بمآسيه، بعراقه، بترحاله، بواقع عربي عجائبي، قاس ومؤلم ومتخم بالعبث، وهو يعجن كل ذلك يصيّره قصائد حداثية يجابه فيها معاشه، يوثقه ويستحضره فإذا بهذه القصائد تتداخل مع إرث الشعر العربي منذ سحيق الأزمان، مشيداً عمارة حداثية بمداميك أصيلة، تبدو الإحالة فيها فعلاً حياتياً، ومع قصائده فقط يصبح لما يسمى “إحياء التراث” معنى لأنه يحييه بحق، يجعله حاضراً في تفاصيله/تفاصيلنا اليومية، وبمجرد فعله ذلك يبدو الأسطوري والمستعاد حاصلاً في مقهى وحانة وشارع وزقاق… وفي أحايين كثيرة يخترق طبقات من التاريخ والسياسة، طبقات من شعرية أن يكون “الشيوعي الأخير”، وما عدا ذلك فتفاصيل تهم غيري، تتيح لهم مادة صحفية أو نحو ذلك مما تستدعيه الاستهلاكية الثقافية السريعة، وعليه يتجرأ من لم يمسسهم الشعر على الكتابة عن الشعراء، ويعقدون محاكمات مضحكة لآراء وأفكار درج سعدي على رشقها ذات اليمين وذات الشمال على هذا وذاك، وفي قضية وأخرى، وفيها ما فيها من تطرف وتخبيص وما إلى ذلك، من دون أن تغيب عني يوماً لوثة الشاعر الذي أحس للمرة الأولى بأنه حر حين احتضنته لندن، في استجابة لنزوعه نحو الغضب، لطفولته وهو يستدرك في أواخر عمره أن يقاسم القارئ ما يدور في ذهنه بعد سكرة قوية، توقظ المستتر والمتواري، توقظ مشاعره خالصة وفيها ما فيها من ألم ولهو، من حب وكره، من طيش وصواب، على السجية، خبط عشواء، أو كما هي مشاعر أي إنسان حقيقي على وجه هذه البسيطة، في أزمنة أصبح فيها الصواب مذمّة، الصواب المصنّع، المتخم بالأجندات التي لا تستدعي إيماناً بل تلفيقاً.
*****
خاص بأوكسجين