لماذا تسقط دوماً أثمن الأشياء
العدد 229 | 01 نيسان 2018
آية رباح


لحظة هاربة

كانت هناك لحظة صغيرة هربت من ذاكرتي، ولأنها صغيرة جدًا فقد تمكنتْ بدهاءٍ من الاختباء في الجوارير الصغيرة وخلف المزهريات، أحيانًا كنت ألفيها نائمة في أصيص الورود الحمراء، وفور أن تراني تهب واقفة ثمّ تحلق عاليًا في سماء الغرفة وهي تدلي لسانها بسخرية عابثة، تلك اللحظة الصغيرة سببت لي الصداع ودفعتني للبكاء طويلًا وأنا أرجوها أن تعود، لأنها ورغم صغرها كانت تضيء لي قلبي فيما مضى.

 كانت تعرف ذلك جيدًا ولذلك وجدت الفرصة سانحة كي تنغص حياتي، وتلوي يدي، وبينما كنت أركض خلفها كنت أشعر بنخزات لحظاتي الأخرى في صدري وهي تحاول أن تشد انتباهي لها ما جعل وضعي الصحي يزداد سوءًا. في لحظات اقترابها العابر مني اعتادت أن تهمس لي “لستُ مهمة. دعيني.” وبينما كانت الأيام تمضي وجدت نفسي أنسى تلك اللحظة تماماً، نعم أعرف جيدًا أن هناك لحظة هاربة مني ولكن ما هي ومتى كانت ومع من قضيتها؟ لا أذكر! فلقد غار ذلك في ضبابٍ بعيد، ومع الأيام عدت إلى عاداتي اليومية وشرب كوب الشاي في ساحة المشفى وحيدة، ومراقبة الأطفال الصغار والابتسام لهم في الطرقات، مرّ وقت طويل فعلًا، وفي يوم من الأيام وبينما كنت أنظف منزلي الصغير، شعرت بغصة مريبة وأنا أحرك إحدى المقاعد، ثم وجدتها هناك، متعبة وهي تتنفس بصعوبة وقد ازرقّ وتخشب جسدها بالكامل، كانت تلك اللحظة الصغيرة تلفظ أنفاسها الأخيرة، فجأة تذكرتها وقد ضممتها إلى صدري وأخذت أبكي دونما توقف بينما الماء الذي سكبته على الأرض بلل ملابسي وانتشرت رائحة المساحيق حولي، كل شيء انغسل في لحظة، المنزل وروحي ولحظاتي الأخرى المتوسلّة.

*

عودة الأشياء

لأنه كبر وشبّ وهو يسمع تحذير أبيه له بألّا ينحني، ولأنه استمع لكلمات سبارتكوس الأخيرة وحفظها عن ظهر قلب، شعر مع الوقت أن فقراته بدأت تتصل ببعضها البعض وأن ظهره أصبح سطحًا إسمنتيًا مصبوبًا صبًا. لم يستطع أن يجزم أن ما حدث قد سبق تفكيره وهو “مكتوب ربي” ككل شيء أم أنه من صنيع أفكاره، هكذا كلما سقط منه شيء شعر بالنداء يلحّ عليه فيخرم أذنيه، ما يجبره أن يواصل سيره مغتاظًا ولكن بمسحة كبرياء خفيفة كانت تعزيه أحياناً، حتى عندما كانت تسقط منه القطع النقدية، والأوراق المهمة، والصفحات الأخيرة في كتبه الدراسية، ولسبب ما كانت تلك هي أهم الصفحات دومًا، ومن بين الصور العديدة في محفظته كانت تهوي بمصادفة عجيبة صور أعز الناس على قلبه.

 لم يفهم لماذا تسقط دوماً أثمن الأشياء، ففي إحدى المرات سقط منه زر صغير منقوش عليه حرف اسمه وتلك كانت هديته الأغلى، وقف هناك ساعة وهو يحدق في الزر ويبكي وحيدًا، إلى أن أمطرت وشاهد الزر تجرفه المياه من دون أن يفعل شيئًا، وهكذا استمر ظهره بالعناد. لاحقًا بات لا يبالي كثيرًا، لقد سقطت منه أغلى الأشياء وبقي مستقيمًا كي لا ينحني، ما قيمة ما تبقى من هذه الطريق إذًا، اختفت لحظات النشوة العابرة، واصل السير وحيدًا، حتى سمع فجأةً صوت تشقق ممتدٍ في ظهره، ولأنه انكسر أخيرًا فقد شعر بالارتياح، إذ صار بإمكانه أن يتصرف بعذرٍ الآن ولا داعي للمكابرة، لكن ما فاجأه أنه لم يعد يسقط منه الآن سوى فتات الخبز، والمحارم الورقية، والإيصالات، وبعض من شعر أبيض، لقد فقد أشياءه الثمينة.

تمكّن الإحباط منه بدايةً، إلّا أنه طوّر مشاعر أخرى فاجأته هو نفسه لاحقًا، إذ نسي مفقوداته القديمة، وأمسى يحب المحارم المتسخة بالتراب، ويحتفظ بالورق الممزوج بالوحل كأغلى ما يملك، صار يضم الأشياء إلى قلبه وهو منحنٍ كجنينٍ متوحّد، وهكذا شعر أنه يمتلك للمرة الأولى في حياته ما يستطيع أن يطلق عليه “كنزًا”، من دون أن يجد تفسيرًا لكل ذلك، ربما ببساطة لأنها هي تلك الأشياء التي قد تعود… تعود إليه لا أكثر!

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من فلسطين.