الجمعة :
يا ناظم، إنني في حِداد وأودّ أنْ تقاسمني حزني، كما تقاسمنا العديد من الآمال والكثير من الأحزان.
وصَلَتْ البرقيّة ليلاً
لا تحتوي إلا ثلاثة مقاطع
” لقد مات ”
إنني حزين على صديقي خوان مَنيوز ، الفنان الرائع، مُبدع التماثيل والنُصُب ومات بالأمس على شاطئ في إسبانيا، في عمر الثامنة والأربعين.
أودّ أنْ أسألك عن شيء يُحيِّرني. بعد وقوع موت طبيعي، أبعد ما يمكن عن كونه أُضحية، أو قتلاً، أو احتضاراً من الجوع، تحدث أولاً الصدمة، إلا إذا كان الشخص يعاني من مرض مزمن، ثم هناك الإحساس الفظيع بالخسارة، خاصة عندما يكون الشخص شاباً –
النهار ينبلج
لكنَّ غرفتي
ليلٌ طويل.
ــ ثم يأتي الألم، الذي يبدو أنه لن ينتهي. ولكن هذا الألم يُرافقه، خلسة، شيءٌ آخر يقترب من النكتة لكنّه ليس نكتة. (لقد كان خوان مزَّاحاً كبيراً) شيء يُثير الهلوسة، يشبه قليلاً إيماء منديل الساحر بعد أداء خدعة، أشبه بالخفّة، تختلف كلياً عما يشعر به المرء. أتفهم ما أعني ؟ فهل هذه الخفّة طيش أمر أمرٌ جديد ؟
بعد أنْ طرحتُ عليك هذا السؤال، تلقّيتُ فاكساً من ابني إيف، مُرفقاً ببعض الأبيات نظمها من أجل خوان :
كنتَ دائماً تأتي
مع ضحكة
وخدعة جديدة
كنتَ دائماً تغادر
تاركاً يديك
على طاولتك.
تغادر
تاركاً أوراق اللعب
بين أيدينا.
وسوف تأتي من جديد
مع ضحكة جديدة
سوف تكون خدعة.
السبت :
لستُ متأكّداً من أنني رأيتك مرة يا ناظم حكمت. كنتُ سأقسم على أنني رأيته، لكنني لا أجد الدليل القاطع على هذا. أعتقد أنَّ ذلك كان في لندن عام 1954، بعد إطلاق سراحه من السجن بأربع سنوات، وقبل أنْ يُتوفى بتسع سنوات. كان يتكلّم في تجمّع سياسيّ عُقِدَ في ساحة الأسد الأحمر. قال بضع كلمات ومن ثم قرأ بعض القصائد. بعضها بالإنكليزية، وأخرى بالتركية. كان صوته قوياً، هادئاً، وينطوي على نبرة شخصيّة شديدة الوضوح وموسيقيّة. لكنّه لم يبدُ أنه يصدر عن حنجرته – أو ليس عن حنجرته في تلك اللحظة. وكأنَّ في صدره مذياعاً يُطفئه ويُشغّله بإحدى يديه الكبيرتين، المرتعشتين قليلاً إذ إنني لا أُحسِن الوصف لأنَّ حضوره وصدقه كانا شديديّ الوضوح. وفي إحدى قصائده الطويلة يصفُ ستة أشخاص في تركيا يُصغون في أوائل حقبة الأربعينيات إلى سيمفونية لشوستاكوفيتش عبر المذياع. ثلاثة من الأشخاص الستة هم (مثله) في السجن. كان البثُّ حياً ؛ والسيمفونية تُعزَف في تلك اللحظة في موسكو، على بُعد بضعة آلاف من الكيلومترات. في أثناء إصغائي إلى قصائده في ساحة الأسد الأحمر، تشكّل لديّ انطباعٌ بأنَّ الكلمات التي ينطقها قادمة أيضاً من الجانب الآخر من العالم. ليس لأنها صعبة الفهم (لم تكن كذلك)، ولا لأنها مُبهمة أو مملّة (كانت مُفعمة بالقدرة على البقاء)، بل لأنها كانت تُقال لكي تنتصر على المسافات وتسمو فوق الفجوات اللا متناهية. وقصيدة ” هنا ” من بين قصائده كلها موجودة في موقع آخر.
في براغ عربة جرّ –
يجرّها حصا واحد
تجتاز المقبرة اليهودية القديمة.
العربة مملوءة بالتوق إلى مدينة أُخرى،
أنا سائقها.
حتى عندما كان جالساً على المنصّة قبل أنْ ينهض ليتكلَّم كان في وسعك أنْ ترى كم أنَّ ضخامة بُنيته هائلة وأنه رجل طويل القامة. وليس عبثاً أنه يُكنّى بـ ” الشجرة ذات العينين الزرقاوين “. وعندما نهضَ واقفاً كان يتكون لديك انطباع بأنه أيضاً خفيف الوزن، خفيف إلى درجة أنه يُجازف بأنْ يرتفع في الهواء.
ولعلّي لم أره قط، لأنه سيبدو من المُستبعَد أنْ يكون حكمت، في اجتماعٍ نظّمته في لندم منظمة السلام العالمي، قد رُبِطَ إلى المنصّة بحبلٍ يتألّف من عدد من الأشخاص لكي يبقى ثابتاً في مكانه. ومع ذلك هذا ما أتذكّر بوضوح. كلماته بعد أنْ نطقها ارتفعت إلى عنان السماء – كان اجتماعاً في الهواء الطلق – وكأنَّ جسمه يتحرك ليلحق بالكلمات التي كتبها، وهي ترتفع عالياً عالياً فوق الساحة وفوق شرر الحافلات الكهربائية التي كانت تعمل ذات يوم وأوقفت عن العمل قبل ذلك بثلاث سنوات أو أربع على خط طريق ثيوبولد.
أنتِ قرية جبليّة
في أنطوليا
أنتِ مدينتي،
الأجمل والأسعد
أنتِ – صرخة استغاثة – أعني، أنتِ بلدي ؛
الخطوات التي تركضُ نحوك هي خطواتي.
صباح يوم الاثنين :
الشعراءُ المعاصرون كلهن تقريباً الذين كنتُ أُقدّرهم أكثر من غيرهم على امتداد حياتي الطويلة قرأتهم عبر الترجمة، ونادراً ما قرأتهم بلغاتهم الأصلية، وأعتقد أنه كان من المستحيل قول هذا قبل حلول القرن العشرين. والنقاشات التي دارت حول إمكانية أو عدم إمكانية ترجمة الشِعر استمرّتْ على مدى قرون – لكنها كانت نقاشات جرت داخل حجرات مُقفلة – كموسيقى الحجرة. وخلال القرن العشرين أضحتْ معظم الحجرات ركاماً. إنَّ وسائل الاتصال الجديدة، والسياسة العالمية، والامبريالية، والأسواق العالمية، إلى آخره، جمعت الملايين من الناس وفرَّقتْ بين الملايين بطريقة عشوائية وغير مسبوقة. ونتيجة ذلك تغيَّرتْ توقّعات الشِعر ؛ أصبح أفضل الشِعر يعتمد أكثر فأكثر على قرّاء بعيدين أكثر فأكثر.
قصائدنا
أشبه بعلامات
يجب أنْ تُحدِّد الطريق.
خلال القرن العشرين، امتدَّ العديد من أبيات الشِعر العارية بين قاراتٍ مختلفة، بين قرى منبوذة وعواصم نائية. كلكم تعرفون هذا، كلّكم ؛ يا حكمت، ويا بريخت، ويا فاليخو، ويا أتيلا جوزيف، ويا أدونيس، ويا خوان غلمان…
بعد ظهيرة يوم الاثنين :
عندما قرأتُ للمرة الأولى بعض قصائد ناظم حكمت كنتُ في أواخر عهد مراهقتي، وكانت منشورة في مجلة أدبية عالمية مغمورة تصدر في لندن، وتحت رعاية الحزب الشيوعي البريطاني. كنتُ قارئاً مواظباً لها. كان اتجاه الحزب في الشِعر شديد الرداءة، لكنَّ القصائد والقصص التي تُنشر فيها كانت مُلهمة غالباً.
في تلك الفترة، كان مايرهولد قد اُعدِمَ حديثاً في موسكو. وإذا كنتُ قد تذكّرتُ مايرهولد حصراً الآن، فذلك لأنَّ حكمت كان مُعجباً به، وترك لديه تأثيراً بالغاً لدى زيارته الأولى لموسكو في أوائل حقبة العشرينيات…
” إنني أُدينُ بالكثير إلى مسرح مايرهولد. وفي عام 1925 رجعتُ إلى تركيا ولاحظتُ وجود مسرح للعمال في إحدى المناطق الصناعية في اسطنبول. وكنتُ وأنا أعمل مُخرِجاً ومؤلِّفاً في ذلك المسرح أشعرُ بأنَّ مايرهولد هو الذي فتح أمامنا إمكانات جديدة للعمل من أجل الجمهور ومعه “
بعد عام 1937، كلَّفَتْ تلك الإمكانات مايرهولد حياته، ولكن في لندن لم يكن قرّاء تلك المجلة قد علِموا بذلك.
إنَّ ما فاجأني في قصائد حكمت في أول اكتشافي لها هو فضاؤها ؛ كانت تحتوي فضاءً يفوقُ ما يحتويه أي شِعر آخر كنتُ قد قرأته. وهي لم تكن تصِفُ الفضاء ؛ بل تخترقه، وتعبر الجبال. كانت أيضاً تدور حول الفعل ؛ تعبِّر عن الشكوك، والعزلة، والحرمان، والحزن، لكنَّ هذه المشاعِر كانت تتبع الفعل ولا تحلّ محلّه. إنَّ الفضاء والأفعال يسيران يداً بيد. ونقيضهما هو السجن، وفي السجون التركيّة كتب حكمت، كسجين سياسي، نصفَ كامل إنتاجه الشِعريّ.
الأربعاء :
يا ناظم، أريدُ أنْ أصِفَ لك الطاولة التي أكتبُ عليها. إنها طاولة حديقة معدنية بيضاء اللون، كالتي يمكن أنْ تُصادف مثيلاً لها هذه الأيام في أرجاء الدارات والقصور المُطلّة على البوسفور. وهذه موجودة على الشرفة المُغطّاة في منزل صغير يقع جنوب شرق ضاحية باريس. وهذا المنزل بُنيَ في عام 1938، وكان واحداً من منازل عديدة أُنشئت هنا في ذلك الوقت من أجل سكنى الحرفيين، والتجّار، والعمال المهرة. كانت هناك ساعة مُعلّقة من مسمار فوق سريرك. وفي الجناح الذي يعلو جناحك كان هناك ثلاثة من قُطّاع الطرق موثقين بالسلاسل في انتظار صدور حكم الإعدام فيهم.
هناك دائماً عدد وافر من الأوراق على هذه الطاولة. وأول ما أقوم به في صباح كل يوم، وأنا أرشفُ القهوة، هو أنْ أحاول أنْ أُرتّبها. إلى يميني نبتة في مزهرية، أعلمُ أنه كان جديراً بك أنْ تحبّها. لها أوراق شديدة القتامة. والجهة السفلية منها بلون أرجوانيّ ؛ على الجانب العِلوي تركَ الضوءُ بقعاً بُنيّة قاتمة. والأوراق متكتّلة في مجموعات من ثلاث، وكأنها فراشات ليليّة – وهي بحجم الفراشات – تتغذّى من الزهرة نفسها. وأزهار النبتة صغيرة جداً، ورديّة اللون وبريئة كأصوات الأطفال وهم يحفظون أغنية في مدرسة ابتدائية. إنها أشبه بنبتة نفل عملاقة وهذه بالذات جاءتْ من بولونيا، حيث تُسمّى النبتة كونيتشينيا. أهدتني إياها والدة صديقٍ كانت تزرعها في حديقتها بالقرب من الحدود الأوكرانية. كانت صاحبة عينين زرقاوين مُذهلتين ولا تكفّ عن لمس نباتاتها وهي تتمشّى في أرجاء الحديقة أو تتنقّل حول منزلها، كما أنَّ بعض الجدّات لا يقوين على الكفّ عن لمس رؤوس أحفادهن الصغار.
حبيبتي، وردتي،
رحلتي عبر السهل البولوني بدأتْ :
أنا صبي صغير سعيد ومذهول
صبي صغير
يتفرَّج على أول كتاب مُصوَّر له
لأناس
وحيوانات
وأغراض، ونباتات.
في رواية القصص كل شيء يعتمد على ماذا يتبع ماذا. والترتيب الحقيقي نادراً ما يكون جلياً. التجربة والخطأ. غالباً مرات عديدة. لهذا السبب تجد على الطاولة أيضاً مقصّاً وبكرة من الشريط اللاصق. الشريط لا يُلائم أحد تلك الأدوات التي تسهّل عملية تمزيق طوليّ. لقد اضطررتُ إلى قطع الشريط بالمقصّ. والأمر الصعب هو العثور على طرف الشريط على البكرة، ومن ثم مدّه. ورحتُ أبحثُ بصبرٍ نافد، وبغضب بأظافر أصابعي. وبعد أنْ أعثر على الطرف، أُلصِقه على حافة الطاولة، وأتركُ الشريط يمتد حتى يُلامس الأرض، ُم أتركه مُعلَّقاً هكذا.
أحياناً أخرجُ من الشرفة إلى الغرفة المجاورة حيثُ أتحدث أو آكل أو أقرأ صحيفة. قبل بضعة أيام كنتُ جالساً في هذه الغرفة فلمحتُ شيئاً لأنه كان يتحرّك. كان مسقطاً دقيقاً من الماء المتلألئ ينهمر، متموّجاً، على أرض الشرفة بالقرب من قوائم كرسييّ الخالي أمام الطاولة. إنَّ جداول جبال الألب تبدأ بمسيل هزيل لا يزيد عن هذا.
إنَّ بكرة من الشريط اللاصق يُحرّكها تيار هواء من نافذة تكفي أحياناً لتحريك جبال.
مساء الخميس :
قبل عشر سنوات كنتُ واقفاً أمام مبنى في اسطنبول بالقرب من محطة حيدر باشا، حيث تستجوب الشرطة المُشتبه فيهم. كان السجناء السياسيون يُسجنون ويُستجوبون، على مدى أسابيع أحياناً، في الطابق العِلوي. وهناك في عام 1938 تمَّ استجواب حكمت.
لم يكن المبنى مُخصصاً ليكون سجناً بل قلعة إداريّة ضخمة. تبدو جبّارة ومبنيّة بحجارة الآجرّ وبالصمت