“والرصاصات تحبنا/ تحب أجملنا/ وأحيانًا لا تفرّق” *محمد دريوس
لم يحدث أمرٌ ذو بال، فقط عبرت سحابةٌ متشظيةٌ بسحنة مطرية كإصبع تهديد، ولم يحدث شيء. كانت الساعة الرابعة عصرًا، الثامن من تشرين الثاني، وقد خرج يتمشى دون سبب واضح. بعد نصف ساعة من التجوال دون غاية، تذّكر أنّه بحاجة إلى كيس من السُكّر. تذكر علبة السُكّر الفارغة، فقد أثار قعرها الفارغ حفيظته وشعر أنّ العلبة تحدق نحوه باحتقار وكأنها تذكره بهزيمته: “كيف للسُكّر أن ينتهي!!!”. نظر إلى أسفل العلبة يبحث عن ثقب ما يبرر ما حدث. لم يجد شيئًا. كانت العلبة في حالة ممتازة لدرجة تثير الامتعاض.
راقب السحابة مجددًا. كانت سحابة رمادية سمينة واعدة رغم تشظيها، ولكن عبرت ببرود.
“حسنًا لم أشرب الشاي هذا الصباح، ولن يهطل المطر الآن أيضًا. لا يهم، فلن يحدث أمر ذو بال.” قال لنفسه بعزيمة وكأنّه يحبط هجومًا مباغتًا. نظر مجددًا إلى السماء وغمز نهاية السحابة الرمادية على الكمين الذي نصبته.
تابع السير، وإلى الآن لم يحدث أي أمر ذي بال، فقد نزلت عدة قذائف على أطراف المدينة. كان صوتها مدويًا جدًا، علت أصوات سيارات الاسعاف، ركض طفلان نحو بائع الفول بكثير من الفرح، صرخت فتاة في الطابق الخامس في بناية “المرساة الزرقاء” واجتمع الناس عند أسفل البناية بفضول لمعرفة سبب صراخها. تعانق صديقان عند زاوية شارع فرعي يودعان بعضهما. أحدهم أعطى الآخر قطعة قماش بيضاء أو ربما راية ما. ضحكا وتعانقا وافترقا دون النظر خلفهما.
“من سوء الطالع أن تنظر خلفك عند الوداع.” قالت له حبيبة قديمة، وتذكر أنّه نظر إلى الوراء عندما سافرت. “إنّه لمن الرائع لو أنّ الحرب إنسان أنظر إليه في وداعنا فلا نلتقي مجددًا.” ابتسم قليلًا، فقط آمن بنجاعة الفكرة لبضعٍ من أجزاء من الثانية وكان هذا أطول إيمان يعيشه منذ أربع سنوات. لم يكن هناك ما يوحي بأنّ أمرًا ذا بال سيحل، واعترف لنفسه بجمال لحظات العدم والسقوط المستمر في ثقب أسود أثناء المشي في شارع باتجاه واحد في مدينة من مدن الحرب.
انتبه إلى حاجز أمامه فأخذ يبحث بصورة آلية عن بطاقته الشخصية في جيب قميصه وجيوب بنطاله. لم يكن في حركته ما يشي بالانزعاج أو القلق، وليس الأمر لأنّه واثق من عبوره دون إزعاج بل لأن الأمر لم يعد ذا بالٍ منذ زمنٍ طويل. ففي الحرب ومع مرور الوقت تكسب الأمور المقلقة سمة ميكانيكية وآجالًا قصيرة. نظر إلى بطاقته متأكدًا من أنّها البطاقة الشخصية وليست بطاقة أخرى. حدّق فيها وكأنّه يقرؤها للمرة الأولى.
“أنا لا أملك بطاقة شخصية بل هناك بطاقة شخصية تملكني”، ارتاع للفكرة.
وقف قليلًا وهو لا يزال يحدق بالبطاقة وقد عاد بذهنه إلى المهمة العصيبة التي يقوم بها كل صباح عندما ينهض ويبدأ بالتذكر وتعريف نفسه. هناك الأيام الجيّدة حيث تقفز أول ذكرى ويحدث أن تكون ذكرى دافئة، والأيام السيئة عندما تكون الذكرى الأولى سيئة. اليوم تذكّر أنّه لم يستطع البقاء إلى جوار والده في المشفى عندما كان يحتضر وشعر بكثير من الألم لدرجة أنّه قضى الصباح يبحث عن شيء بين أغراضه القديمة، وقضى ساعة كاملة يحدق في ستائر النافذة ويحفر بظفره ثقبًا في تفاحة من المفروض أن تكون فطوره. كانت بداية نهار عصيبة حقًا بل ومأساوية جدًا. شيء كالسّم سرى في أوردته. خاف كثيرًا ووقف شعر عنقه ورغب حقًا في القفز من النافذة لا لشيء إلا ليشعر بآلام السقطة المهولة ويخطفه وعي الألم الآني، فقد سئم آلام سقطاته في الماضي كل صباح. لا يريد النسيان لأنه غير قادر على النسيان أو لأنّ مازوخية ما تغلّف هذه الانطلاقات العاثرة غالبًا كل صباح. لا يريد النسيان لأنه لا يريد نسيان ظل يد أمّه تضع خلسة في جيب قميصه مئة ليرة أجرة سيارة لملاقاة حبيبته عندما قطع والده المصروف عنه. ولا يريد نسيان دمعتين نادرتين ذرفهما والده عندما تعرض لحادث وهو عائد من ذلك الموعد. لا يريد نسيان يد حبيبته التي لم تفارق يده وهو في غيبوبة. لا يريد نسيان أنّ لجلدها رائحة عشب غض، ولا يريد نسيان اليوم الذي صرخ في حقل واسع “سأتزوجك عندما تنتهي الحرب.” وضحكتها الرائقة والمشككة بالاحتمالين. لا يريد نسيان آخر حديث تبادله مع صديق طفولته قبل أن يموت دفاعًا عن بيته من لصوص بثياب عسكرية. لا يريد نسيان تلك اللحظة القدسية على قمة الجبل عندما لمس بطن الله، كما أعتقد، وأزهر السوسن بكثرة ذلك الربيع. لا يريد النسيان لأنّ جمالًا وافرًا سيضيع، لأن النسيان وحش بفم كبير لا يلتهم بقضمات صغيرة بل يفترس بوحشية. لا يريد النسيان لأن النسيان لجوء خسيس إلى مدنٍ شمالية من أجل موت جبان على كنبة وثيرة.
أخذ عسكري في التاسعة عشرة يحدق في وجهه باحثًا عن شيء، عن شبه بأحد يحبه أو بعدو سمع عنه، ثم ابتسم وأومأ له رأسه بأمان وأعاد البطاقة الشخصية. بينما كان يتناول بطاقته الشخصية التقط العسكري هاتفه وحلّ صمت وجيز دام بضع ثوانٍ عبر خلاله رجل عجوز الشارع متعثرًا، وسقطت قطعة حلوى من يد طفلة لاهية، وأغلق اسكافي محلّه على عجل، وأمطرت قذائفًا ورصاصًا قاتلًا في أماكن متفرقة على بعد عشرات الكيلومترات. كم كانت مريعة تلك اللحظة الساكنة. الهدوء في الحرب ذروتها… نشوتها، فأرواح كثيرة تحصد لتنتشي الحروب.
” لاااااااااااااااا” صرخ العسكري خلفه.
التفت إلى الوراء ورأى العسكري يهوي على الأرض ويرتجف كمن يمر بنوبة. كان يبكي بدموع عملاقة ويلطم رأسه بقبضتيه. تمزّقت بدلته وظهر صدره بعظامه الناتئة وشعره الخفيف، كان لا يزال مراهقًا! هرع رفاقه من المحرس بجانب الحاجز لتهدئته. حملوه وجعلوه يقف رغمًا عنه. وبوجهين واجمين وحزينين حضنه أحدهم، وضربه آخر بقوة.
” لقد قتلوا عائلتي.” صرخ العسكري الملتاع بملء رئتيه وحل سكون لعين آخر.
“أيتها الحرب الحقيرة. لابدّ أنك تتمتعين يا بنت الكلب!! أليس كذلك؟ لا بدّ أنّك منتشية الآن يا عاهرة.” أراد أن يصرخ في هذه اللحظة. أراد أن يتلوى على الأرض ويلطم نفسه ويمزق ثيابه إلى جانب ذلك العسكري ولكن خوفًا مبهمًا شلّ قدميه من الخطو إلى الأمام وإلى الوراء. لم يستطع التحرك. فقط تابع التحديق رغمًا عنه في الجندي الشاب وقد نهض الآن بمساعدة رفاقه وهو لايزال يقاوم محاولتهم تهدئته بكل وحشية. لكن جسده الغض على كل شيء، الغض على مقاومة أيدٍ أكبر عمرًا ومصائب بهذا الهول، انطوى كقطعة قماشية بين أيديهم التي في عجالتها لحماية شرفٍ ما كسرت حزنًا ضاريًا كان يشق طريقه إلى السماء، حزنًا أراد أن يخرج ولا يهجع في الداخل ليطل في يوم حزين وكسير في المستقبل. كان يبكي ويشهق. لا يزال طفلًا وهم كبار حقًا. كمم أحدهم فمه حتى يتوقف عن الصراخ فهجع الكثير في جسده الصغير.
تذكر بألم أنّه لم يبكِ أباه عندما مات بل اكتفى بنظرة فارغة إلى وجهه عند دفنه.
حاول بقوة أن يحرّك قدميه ونجح في المشي بضعة أمتار إلى أن وقف واتكأ على حائط بيت مهجور في أحد الأزقة وانهار باكيًا بصمت. خبأ رأسه بين يديه وأدار ظهره للشارع المواجه لمدرسة خرج منها أطفال ضاحكون. لم يرد أن يروه ويعتقدوا بأنّ الكبار يحزنون ويبكون وينهارون في الحرب، أرادهم أن يظلوا على قناعة بريئة أنّ الحرب لعبة شرطة وحرامية ينهض الموتى في نهايتها ويضحكون مع من لم يُقتل.
مسح دموعه وتابع السير بقدمين ثقيلتين ورأس ينوء تحت ثقل أكبر. نظر إلى السماء التشرينية الصافية الآن من أي غيمة ورغب حقًا في المطر. رغب بمطر غزير يخترق ثيابه وجلده ليصل إلى عظمه. رغبه بشوق مصيري وأسف أنّ السماء كعادتها تستجيب فقط لأهوائها المبهمة. نظر إلى ساعته ولكنه لم يرَ عقارب الساعة فقد غشت ذكرى بعيدة عينيه. ذكرى والده يعيد عقارب الساعة إلى الوراء خمس دقائق. كان وقتها في الثامنة من عمره وتذكر تحديقه الطويل إلى والده بكل محبة وتبجيل. اعتقد وقتها أنّ والده على قوة عظيمة تسمح له بإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، وأنّ كل عقارب الساعات في العالم تعمل بمشيئة والده وتعود إلى الوراء خمس دقائق. نظر إلى ساعته وكانت تشير الآن إلى الخامسة.
” لن يحدث أمر ذو بال إن عدت ساعة إلى الوراء.”
عادت ساعته تشير إلى الرابعة تمامًا ونسي أنّه خرج للتمشي وشراء كيس السكر في طريقه عودته إلى البيت لينام تلك الليلة دون شرب الشاي، ولكنه لم ينس شابًا بثياب عسكرية بكى عائلته بكل عنفوان على أرض الشارع ورجلاً وقف عند جثة والده عاجزًا عن البكاء ثم بكاه خلسة بعد عشر سنين. ورغم خطر عودة هذه الذكرى في صباح سيء إلا أنّه لن ينظر إلى الوراء بغضب بعد الآن أبدًا.
*****
خاص بأوكسجين