الأمر بدأ بنصيحة من والدته، أخبرته يومها أن الصمت ذهب، وبعقلية طفل لم يتخط عامه الخامس بعد، أدرك أن اللاصق الطبي الذى تستخدمه والدته في محاولات ترميم جروحه من الممكن أن يؤدي المهمة.. وضع واحداً على فمه وخرج من غرفته – يومها- مسرعاً ليثبت لها أنه ولد مطيع.
بمرور الأيام بدأت مهمة اللاصق تتخطى حدود المنزل والولد المطيع، أدرك أن عقاب مدرسيه سيكون بعيداً عن أرضه طالما التزم الصمت، فوضع لاصقاً ثانياً على فمه طوال اليوم الدراسي، لم تواجهه صعوبات عدة في الأمر، اكتفى بإيماءة.. وهزة رأس دليل على الفهم، وتقبل فكرة أن يكون “ولد أهبل” – هكذا اتفق غالبية مدرسيه على توصيفه.
وعندما أدرك أن الحب يحتاج إلى لسان يتحرك، اكتفى بمتابعة الأمر فقط، ومنح لاصقه الوهمي، مليون حضن، عندما اكتشف أنها تشاركه سياسة “الصمت الكامل”، أحبها بالنظرة، لم يقل لها شيئاً، ترك الأوراق تتولى مهمة نقل أخباره، مشاعره، ترك الأمر لـ”الكلمات الصامتة”، ترسم حياته.
تزوجها بعدما نالت رضا والدته، أخبرته أنها بنت مطيعه “مش بترفع عينها.. وصوتها مش بيتسمع”.. تزوجها لأنها تشاركه حلم “الصمت الذهبي” وتُعجب أمه.. وكفى.
مرت حياته صامته، فى العام الرابع لم تستطع تحمل أن يضع لابنها “لاصق”.. وجدته يقنعه بالأمر فى غرفته، يجرب الأمر أمامه، يحكى له بـ”الورقة والقلم”، الأمر، الولد لم يكن مطيع، كما كان أبيه دائماً، تعالت صرخاته المعترضة، وجه الأب ازداد احمراراً، ارتفعت صياحات الطفل، وجه الأب تحول للون الأزرق، قارب على حافة الاختناق، وضع يديه فوق فمه، ضغط كثيرا، حرك يده اليسرى، وضعها على فم الطفل، وجع لا يحتمل شعر به، الطفل رفض يد أبيه، فنشب فيها أسنانه اللامعة.. تخلص من أسنان ابنه ومنحه لطمة قوية على وجهه.. وترك الغرفة بعد أن أضاف لاصق ثالث.
الطلاق تم فى صمت، ترك للأم والابنة، كل شيء، لم يقل شيئاً، اكتفى بـ”قبلة فى الهواء” أرسلها لجدران منزله، ورحل وهو يمنع حياته لاصقه الرابع.
فى الأربعين من عمره، ضبط نفسه غير مهتم بشيء، تأخره عن موعد العمل، أصبح أمراً طبيعياً، علاقاته الطبية، منحته فرصة حسنة لـ”المعاش المبكر”، التزم بما ذهبت إليه الأمور، والتزم داره.. ووضع لاصق خامس.
ماتت أمه فى صمت، أضاف لاصق سادس فوق فمه، بدأ يشتري كميات كبيرة منه، أصبح يمتلك خبرة جيدة فى الأنواع التي لا تتأثر بالماء، فى العام التالي وضع لاصق سابع وقرر أن يصمت.
عندما أدرك أنه لن يفلت من تطفل بواب العمارة، كان يترك له الإيجار وبقية الأموال المطلوبة منه على باب غرفته بداية كل شهر، لكن البواب “سمج” لم يقبل “تناكة” الساكن الصامت، حاول كثيراً اختراق السياج الذى وضعه، لكنه فشل، فبدأ فى “التشنيع” عليه بين جيرانه، فأضاف لاصقاً ثامناً، لعله يكون “جار مطيع”.
الرائحة الكريهة زادت عن الحد.. كل محاولات الوصول إلى مصدرها أوصلت القائمين بها إلى باب شقته.. أصابع لا تحصى تكالبت على الباب.. وعندما تعبت الأصابع، تكورت الأيدي، وبدأت تدق بـ”عنف غاضب”، وعندما تيقنوا أن جارهم الصامت لن يرد عليهم، رضخوا لاقتراح البواب، كسروا الباب، وجدوه ملقى على “فوتيه” فى الصالة، فاتحاً فمه على آخره، عيناه مثبتتان على نقطة سوداء فى السقف، وبين يديه جهاز كاسيت، توقف شريط بداخله عن الدوران منذ وقت طويل.
مقابر الصدقة كانت فى انتظاره، لم يتعرفوا على أحد يمت إليه بصلة، فقرروا مواراة جسده فى إحدى فتحاتها، وفى إحدى المرات عبث البواب بمحتويات الشقة توصل إلى هاتف الزوجة- الطليقة- هاتفها، لم تجبه هى الأخرى، وكان الابن على الجانب الآخر، تلقى المكالمة فى هدوء، أخبره أنه لا يريد أن يعرف عن أبيه شيئاً، فأخبره أنه لن يعرف عنه شيئاً بعد الآن.. لأنه مات.
ثلاثة أيام مرت، وكان الابن يجمع مئات شرائط الكاسيت،رمن شقة الأب الراحل.. اكتشف في الأسبوع الثاني بعد بدء رحلة الاستماع إليها أن تحمل صوت أبيه، يحكى فيها عن أمه.. عنه.. عن أبيه.. عن أمه… عن العمل.. يضحك فى نصفها، ولم يكن ولداً مطيعاً كما ظنوا.
*****
خاص بأوكسجين