الرسالة الأولى:
عزيزي فريد
أتذكر أننا تحدثنا كثيراً عن تلك اللاءات في تلك الشرفة المطلة على نهر أبي رقراق. كنت متحمساً وأنا أحاول أن أجاريك رغم أنني كنت متعباً جداً. كان العياء صديقي المحبب في تلك السنوات المليئة بالعبث. كنت أتنقل عبر القطار إلى الرباط زوال كل جمعة لألحق بأسرتي هناك. حينها كنت بدورك تشتغل بنفس المدينة. لكنك كنت تحس بعزلة كأنك كنت في منفى بعيد. لم يكن لديك أصدقاء كثر. لذلك كنت تنتظر مجيئي. وجدت أنها لم تفارقك بعد تلك الغصة التي رافقتك طيلة أيام الجامعة. تحدثنا عن الرفاق الذين اشتركنا معهم تلك الوجبات القميئة في مطعم الجامعة والتي كانت تبدو فارهة حينئذ كأنها وجبات مطعم فاخر في باريس. إنه الزمن يا عزيزي. الزمن الأشبه بثعبان مستثار، بحيث يبدو فحيحه كأصوات عفاريت. كانت ملابسك قد أصبحت أكثر تناسقاً وأنت أصبحت أكثر ثقة من ذي قبل؛ هذا يعني أنك كنت قد نضجت بشكل لا يمكن تجاهله. كانت حركات يدك منظمة بحيث تستعملها في تناسق تام مع المعاني التي كانت كلماتك تخلفها. لقد حدثتني بداية عن نيتشه وماركس فقلت لي أنهما قد مرغا أنف غطرسة العقل الأوربي الذي يحاكي أنانية الأوربيين وتعاليمه المقيتة. تحدثت لي أيضاً عن هذا الربيع المزيف الذي ابتلينا به. كان الأمر بالنسبة لك أشبه بمرض جديد يصعب شفاؤه. مرض أصاب هاته الشعوب المكلومة ليجعل ليلها أطول ومآسيها بدون نهاية. شعوب محطمة كأواني تم استعمالها على عجل. حينها كانت الجمل تخرج من فمك كطلقات البنادق التقليدية التي كانت تستعمل في احتفالات الفروسية. كانت تخرج مدوية بدون أن تخلف أية قتلى. فأنت كنت بدون أعداء حقيقيين. وأنا الوحيد الذي كنت أجلس أمامك مستسلماً للسيول الجارفة التي كانت تخترق جسدي بدون أن تولي على شيء. لقد بدوت لي منكسراً كلعب أطفال تم تمزيقها على عجل. كانت كلماتك أشبه بالحشرجة بالكاد تخرج من فمك.
كنا قد عدنا إلى الحديث عن سنوات الجامعة المديدة.
قلت لي”لقد كانت سنوات فتوحات”. هذا جعلني أبدو لنفسي مثل طارق بن زياد.
قلت لك: “لكن ماذا فتحنا هناك يا عزيزي؟ هل كانت هناك أندلس أخرى؟ هل فتحنا باريس مثلا؟”
فأجبتني مغتاظاً: “لقد كنا غرباء عن الحياة!” وأضفت ساهماً: “لقد أتينا من نهاية العالم. أقصد لقد أتينا من أخمص الوجود. كالظلال كنا نتعقب الموتى والأشجار الوحيدة في جحيم الظهيرة بعد أن تباغتها عصافير شاردة.
قلت لك :”وهل للظلال أية فتوحات تذكر غير تلك التي تسمح بها قيلولة غير مريحة بعيداً عن أفرشة المنازل؟ هل للظلال متعة أخرى غيرنا؟ وهل كانت لنا متعة أخرى غيرها؟”
لقد بدأ الأمر مثل سباحة بالملابس في مستنقع عكر. فبدونا في صورة دقيقة وصغيرة كأننا نقع تحت مجهر ما بجودة عالية. نسبح بدون رغبة في ذلك.
سقطت أمطار كثيرة ذلك المساء بحيث كنا نعتقد أن السماء قد تحولت إلى منشفة صغيرة مليئة بمياه صنبور يشكو من عطل ما. تهاطلت الأمطار لثلاثة أيام متتالية كأن السماء مصابة بإسهال ناتج عن حمى أو تلوث في المعدة. تذكرنا طبعا لاءات الجامعة. قلنا أنها كانت لاءات حقيقية أصدرتها حناجر فتية وأسفرت عن اعتقالات واسعة في صفوف الطلبة. مصطفى مثلا حكم عليه بسنتين نافذتين حصل خلالهما على شهادة الإجازة بدون صعوبات تذكر. أصبح يذاكر بشكل جيد ويحرر رسائل طويلة إلى أمه وأصدقائه. كان مدير السجن يشك في حركاته في البداية. لكنه أمِن جانبه تماماً بعد ذلك. هناك عرف قيمة الحياة والأسرة. هناك عرف أصدقاء كثر سمحوا له بتغيير نظرته إلى الصداقة والأصدقاء. قهقهنا طبعاً. قارنا بين لاءات مصطفى ولاءات محمود. وجدنا أن الأمر أشبه بمقارنة الصيف بالشتاء. قلنا أن اللاءات تصبح أحياناً بدون قيمة حينما يتم استهلاكها بغزارة وبدون تؤدة. وربما أدى الأمر إلى إسهال أو عسر في الهضم أو فقط ظهور على شاشة التلفاز المحلي في ساعة الذروة.
الرسالة الثانية:
عزيزي فريد:
إنني متعب. واللاءات الكثيرة التي تريدني أن أنطق بها الآن ليست سوى ملاعق كبيرة غير صالحة للاستعمالات المطبخية. إنها مجرد مطارق لا تشتهي أي سندان ولا تستهويها أيام الآحاد المخصصة للتصريح بقلة الحيلة وشجب جسارات الآخرين. هذا يعني أن “لا” أصبحت بدون قيمة ﻷن الوديان أكبر من أن تحدّ من جموحها المتاريس أو النوايا الطيبة التي تشبه أمطاراً متأخرة جاءت لتجعل الشتاء يكفر عن ذنوبه الكثيرة وينجو من تبكيت الضمير. وهو ما سيجعله يترك مكانه لفصول أخرى ستخلفه بزهو مبالغ فيه. إن “اللاءات” التي أريد النطق بها الآن تجعلني أقر بعدم استواء واقع يجعل اللامبالاة غير ممكنة. ولكن ما أهمية هذا النطق الآن تحديدا؟
أستطيع الجزم بأن “اللاءات” مهمة بل إنها ضرورية. ويورث عدم النطق بها تبكيتا للضمير لا يفوقه أي تبكيت آخر. كما يترك في النفس شرخاً أشبه ما يكون بنتوءات في جسد عاشق متيم، أو أحلام كادح لا يجد ما يسد به رمقه. إنها اللاءات العزيزة علينا جميعا والتي نضعها أحياناً كجواهر مرصعة في صناديق خشبية كتلك التي كانت جدتي تمتلك واحداً منها. إنها اللاءات المبعثرة في سهول وشعاب “اﻷنا” والتي لا تقل شأناً عن عصي الغولف أو ملاعق المطابخ، بل هي أسلحة فتاكة لا يمكن أن تضاهيها إلا طلقات مدافع في ساحات معارك تقليدية تحيط بها مروج خضراء كتلك التي استشهد بها مخرج فيلم”the laste samouraïs ” الشهير. إنني أتحدث بحرقة عن اللاءات التي فقدت قيمتها والتي أصبح استعمالها يتم في كثير من الأحيان بشكل مبتذل ومغرض أشبه ما يكون بتلك الشعارات التي يرفعها أطفال مشاكسون في بهو منزلهم ضد آبائهم الذين يدللونهم باستمرار، وهي الشعارات التي تتحدى سلطة الآباء “بغينيا اندومي. .بغينيا اندومي* “.اللاءات الأشبه بغصة قديمة أو بمزهرية في متحف دار البارود بالبطحاء.إن هاته اللاءات تتعرض إلى حيف كبير بحيث أصبحت لا تختلف عن حيوانات مدللة تعيش داخل محميات وطنية تتعرض للصيد غير المرخص من قبل قناصين فاشلين. ولكنها لاءات على كل حال قد تستعمل في إنشاءات مدرسية لإبهار مدرسين صارمين يلبسون بذلات مكوية بعناية خوفا من حدوث احتفالات مباغتة بحيث لا يكون لديهم الوقت الكافي للعودة إلى المنزل من أجل التأن..إنها اللاءات أيها الأصدقاء التي كان يخافها الطغاة، والتي كانت تنطق خلسة .ورغم كل ذلك كان صداها يصل إلى أبعد نقطة من الكون حتى وإن نطقت في وادي. لكنها فقدت الآن بريقها وأصبحت مجرد سيارات قديمة بمحركات أصابها الصدأ لا تصلح إلا للاستعراض أيام الآحاد وخلال العطل المدرسي.. لقد أصبح الكثيرون وثيقي الصلة بهاته اللاءات، حتى أنهم يأخذون معها الصور التذكارية أمام البرلمان وباب الحد**، بل منهم من يحتفظ بقليل منها في جيوبه الداخلية ليريها ﻷطفاله بغرض إسعادهم أو ليباغت بها لصوصاً محتملين قد يعترضون طريقهم في أمكنة بعيدة، أي أنها لا تختلف في كثير من اﻷحيان عن وسائل للزينة لا أكثر أو أقل.
هاته اللاءات لو اضطررنا لاستعمالها في يوم من الأيام فنحن سنشهرها في وجه هذا اللبس الذي يكتنف أدغال الحياة العامة، وفي وجه المتطفلين بكل صنوفهم، وفي وجه مستعجلي الثروة وباعة الماتشات؛ بما فيها ماتشات كرة القدم أيام الأربعاء بدون أن تستثني الماتشات الأخرى، وفي وجه كل القراصنة؛ بما في ذلك الذين قرصنوا سكينتنا بحيث أصبحوا مجرد أفاقين يسكنون كوابيسنا، وفي وجه النمامين والمتحذلقين بما فيهم مستخدمي الوصلات الإشهارية الذين غالباً ما يكونون ممثلي سينما أو كوميديين استعصى عليهم التقاعد، وفي وجه سماسرة الانتخابات بكل ألوانها التي تفوق بشكل كبير عدد ألوان الطيف، وفي وجه سماسرة الحروب وظلالهم الذين ليسوا سوى سماسرة السلام، وفي وجه الكهنة المزيفين الذي اقلعوا عن الاشتغال بشكل موسمي بعد أن أصبحت لهم مهن قارة وفي وجه رواد البرامج الحوارية في التليفزيون الذي يحفظون ما سيقولون كتلاميذ نجباء يؤمنون بشكل فيه كثير من المغالاة بأهمية الحفظ عن ظهر قلب، وفي وجه الببغاوات التي تؤثث سماوات البرلمان، وباعة الآمال بالتقسيط في برامج التدريب على النجاح في كل شيء الذين لا يختلفون عن الساحرات التي تمتليء بهن جنبات كتب التاريخ، وفي وجه الذباب خلال هذا الصيف الذي أصبح وشيكاً.
______________________________
*عجائن معلبة سريعة الاستعمال.
**باب شهير بمدينة الرباط المغربية.
*****
خاص بأوكسجين