“يا ريتني ما وافقت ع الدور”.. اعتاد رؤيتي في البار على مدار شهر كامل، مع الأيام اعتياده وصل إلى الانصات للعبارة التى أصرخ بها بعدما أدخل بأقدامي “دُنيا الكحول”.. الأنواع الشعبية التي أطلبها كل ليلة، لاحظت أنها منحته مساحة ليراقبني باهتمام.. أطلب زجاجة “ستلا” فى البداية، وبعد 15 دقيقة، اسأل بصوت هادئ عن “الكونياك”.. 45 دقيقة، تكون كافية لي لكي أقضي على الزجاجة مجهولة المصدر، 60 دقيقة، مرت.. إذن بعد 10 دقائق أخرى، سأصرخ بعبارتي تلك التى اعتادها.
لاحظت أنه ترك مساحة كافية لي لأتحرك وأملأ فراغات “البار ” بجملتي وصوتي الجهوري. في بداية الشهر الثاني، وقع فى فخ الفضول، أدخلني دائرة من يراقبهم كل ليلة، نظراته تلك كشفت أنه قرر منحي لقب “رجل مهزوم”.. هيئتي الخارجية، من الممكن لعبت دوراً فى منحي اللقب هذا، ومن الجائز أن يكون “الكونياك الشعبي” لعب هو الآخر دوراً فى جعلي الأجدر باللقب، فأصابعي العشرة أفقد عليها السيطرة بعد دقائق معدودة، فجأة تفلت من مداري، تسرح بعيداً حُرة فى ملكوتها، فى بعض الأوقات أتابعها تتراقص على “مزيكا” تأتي من السماعات الخربة التى أضافتها إدارة البار قبل أيام من العام الجديد.. أقدامي هى الأخرى تبدأ فى الدوران، تلتصق فى لحظة فاصلة، بالعجوز التى تجلس جواري فى بعض الأوقات، وتلتف إحداها على قدم نديمتي، وكفى.
أوقفني فى الأسبوع الثاني من الشهر الثاني، بعدما لاحظ أننى جئت وحيدا، سدد نظراته لأصابعي ليتأكد أنها لا تزال تحت السيطرة، أقدامي هى الأخرى كان صامتة مطيعة، فالليلة لم تبدأ بعد، رفع لي كأس “بيرة” فبادلته التحية، وأشعلت سيجارتي، ومنحته نظرة، أدرت رأسي بعدها، موليا وجهي للمساحة المظلمة الممتدة.
رفيقتي لم تأت.. فرصته متاحة، متابعتي له كشفت أنه لا يحب “الكونياك”، لكن فضوله جعله يحمل إحداها ويفرض نفسه على “ترابيزتي”.. تقبلت الزجاجة دون أن أنطق بكلمة شكر..وأشرت بأصابع مهزومة ليجلس.. فجلس.
“أنا يا سيدي كومبارس.. أو تقدر تقول كنت مشروع كومبارس”..
لم يسألني، لكنني عرفت، سر هديته الشعبية، فصببت لنفسي كأساً، وعندما سدد نظراته إلي، متسائلا، لماذا ترك كأسه فارغة.. قلت:
“أنت بتشرب 3 ستلا.. والكونياك مش مزاجك.. أنت عاوز تسمع.. بتحب تسمع.. عاوز تهرب منك فيا.. اسمع بقى.. أنا من 20 سنة كان عندي وقتها 30 سنة، وكنت غاوي فن.. كل يوم أقف قدام المراية وهاتك على عمر الشريف، فريد شوقي، محمود المليجي، زكي رستم.. كنت بأعمل كل حاجة، وفى يوم كنت في أوردر تصوير فى ستديو مصر، أنا كنت شغال كومبارس وقتها، وفجأة لقيت المخرج بيصرخ “كت.. كت”.. ونادى المساعد بتاعه وقال له كلمتين فى ودنه، وعينيه كانت عليا، وبعدها بشوية، أخدنا بريك، ولقيت المساعد بيقول لب كلم الأستاذ، ولما دخلت للمخرج قال لي أنا عاوز تقف قدام فى الطابور، بلاش مكانك اللي ورا، وعاوزك تفتكر أكتر حاجة ضايقتك في حياتك.. أول ما أقول أكشن مش عاوز دماغك دى تفكر غير في اللي نكد عليك عيشتك”.
توقفت قليلاً، ملأت كأسي الفراغ، ودون أن ألتفت ناحيته أكملت: إحنا اتعودنا ما نسألش.. هزيت دماغي، ومشيت، وأول ما قال “أكشن” افتكرتها.. عارف يا أستاذ أنا لو عشت 100 سنة فوق عمري، هافضل أفتكرها، الأول كنت بأحب أفتكرها، بأحب اليوم اللي شفتها فيه، أول نظرة منها، يوم ما قالت لي أنا معاك.. بأحب كل لحظة كان صوتها بيعدي على روحي يصحيها.. كل لمسة خلتني أحس إني بني آدم.. بس يوم المشهد ده.. كل حاجة راحت، وافتكرت يوم ما ماتت.. خانتني لما مشيت كده.. يومها معرفتش أعمل حاجة، كان أول مرة أتأكد إني منفعش أكون غير “صامت”.. كومبارس صامت.. وبقيت فعلا كومبارس.. تالت يوم بعد موتها.. كسرت المرايه اللي كانت بتقولي أنت نجم تنفع فى دور بطولة، وقررت أكون في آخر المشهد.. كل المشاهد قررت أكون فى آخرها..وكُنت”.
عدت لصمتي لثوان عدة، بدأت أصابع تعلن عن تحررها من سيطرة جسدي، تحركت فى الهواء، على وقع موسيقى “أه لو لعبت يا زهر”.. انتهز لحظات اندماجي، وسألني “طيب إيه الدور اللي وافقت عليه وكل يوم تقول يا ريتني ما وافقت؟!”
ضحكت.. بكيت.. انتحبت، لو شئت الدقة، تراجع سنتميترات عدة، حتى لا تكون ساقه ضحية لأقدامي التي عندما أفقد السيطرة عليها تلتف حول أقرب جسد، يبدو أنه لا يحب أن يكون قريبا فى اللحظات تلك، فهمت تحركه التكتيكي هذا، فأكملت، بعدما ضبطت مقعدي، وابتعدت بدوري سنتميترات آخرى:
“لما أفيش الفيلم نزل، اكتشفت إني المخرج والمنتج والأبطال اتفقوا إني نظرة عيني في المشهد إياه هي اللي هاتكون صورة الأفيش.. وبس، كتبوا الأسماء تحت عيني، الأبطال، المخرج، المنتج، الكاتب، والموزع الموسيقى.. أنت عارف طبعا الكومبارس مالهوش مكان ع الأفيش.. الفيلم نجح، والناس كتبت عن رؤية المخرج العبقرية، والسيناريو الرائع، وتصميم الأفيش المذهل، ونظرة العين العبقرية، واللقطة الحلوة، وبس..”.
“ومن يومها.. وعيني ماوقفتش قدام كاميرا.. كل مخرج يعرف إني موجود فى كاست الكومبارس يقول وهنعمل إيه بيه.. ما عينه خلاص.. دي الحاجة الحلوة اللي كان ممكن استفيد بيها، لحد لما مخرج قرر يستفاد من باقي الجثة، قرر إني أكون أول كومبارس بيواجه الكاميرا بقفاه، وبس بقيت بأخد نص الأجر، عشان نظرة عيني وحزني والخيانة.. يبقى حقي أقول ياريتني ما وافقت ع الدور ولا إيه”.
في الأيام الأخيرة لي داخل البار، بدأت ألحظ أن هناك عيون تتلص علي، تتابع خطواتي مذ أخطو إلى المكان، ولا تتركني هنا أتحدث مع أصدقائي.. شقيقتي أقعدتها أوجاع الروماتيزم في المنزل، فلم تعد قدمي تلتف على ساقها اليمنى، الرجل الذى اعتاد الجلوس معي، والاستماع لحكايتي هو الآخر لم يظهر فى الأفق، بدأ العاملون في المكان يخترعون الحجج للمرور بجوار طاولتي.. بدأت الهمسات تعلو من الطاولات المجاروة.. تعالت الأصوات.. أذني السليمة التقطت إحداها ” كل يوم ع الحال ده.. يفضل يحكي ويتكلم عن الدور اللي دمر حياته.. ويكلم شخص تاني.. وكل يوم يفضل يدور على واحدة بيقول عنها أخته.. بس عمره فى يوم ما حد عرف له أخت ولا صاحب.. واضح أنه خلاااص.. عقله في الانعاش”.
عميان هم.. كيف يتحدثون عن غيابك، وأنت هنا بجواري؟.. “قوم يا أستاذ والنبي قول لهم كفاية شُرب عليهم النهاردة.. قوم.. ما تقوم ولا أنت خلاص عندك روماتيزوم؟!
فى الممر الجانبي، كان مدير البار يقف متوترا، ألقى بعبارته الأخيرة للجرسون، ورحل عائدا لطاولته:” حاول تمشيه دلوقتي.. أنا مش ناقص خمورجي ومجنون كمان.. لا يا عم بناقص الكام جنيه اللى بيدفعهم.. الناس ابتديت تتضايق من صوته العالى والعفاريت اللى بيكلمها”.
لم أشعر بشيء.. أصبحت خفيفاً جداً، بعدما أخبرني الجرسون، أنني يجب أن أرحل.. طلبت دقائق عدة لأتمكن من استعادة إتزاني… وجدت صديقي الذي يمنحني يومياً زجاجة الكونياك ليستمع إلى حكاياتي هناك.. شقيقتي تتأبط ذراعه وتنادي باسمي. .. أنظر إلى الناحية الأخرى، أرى المخرج يزعق بأعلى صوت .. ثري.. تو…. جسدي خفيف جدا.. صديقى تلاشى وأنا أمد يدى إليه.. شقيقتى اختفت فجأة.. آلام الروماتيزم الملعونة يبدو أنها عاودتها من جديد.. الأصوات تتداخل فى رأسي.. اقف يا مجنون.. استنى.. هاتموّت نفسك.. الآن أنا أسقط من فوق البناية.. لا أنا أطير.. جسدي يسقط.. روحي تطير، وعيني تتابع حركة شهاب لامع يخترق ظلمة سماء يناير.. أنا أموت إذن..
.. واااااااااااااااااااان “أكشن”.
******
خاص بأوكسجين