شكلت حياة لو آندرياس سالومي المثيرة وجبة دسمة للتأملات الشهوانية وللدراما الفكرية التي تلقفتها الأعمال السينمائية والأدبية. يعود السبب في ذلك لجاذبيتها الساحرة التي أسرت قلوب عمالقة الفكر الأوروبي، من أمثال الفيلسوف بول ري، والشاعر رينييه ماريا ريلكه، وفريدريك نيتشه. كانت سالومي الروسية الأصل شاعرة وروائية وناقدة، كما كانت أول امرأة تخوض مجاهل علم النفس لتحصل على لقب عالمة بجدارة. تملك حبها الجارف قلب نيتشه الذي فتن بها لدرجة الوله فطلب يدها للزواج، وعندما رفضت طلبه قطع علاقته بها فجأة بأسلوبه النيتشوي البحت.
لكن سالومي كانت تثمن تلك الصداقات جداً، لدرجة أنها اقترحت على نيتشه وري “أن يعيشوا هم الثلاثة معاً في بيت عزوبية واحد، يستطيعون فيه مناقشة ما يحلو لهم من الفلسفة والأدب والفن.”، وذلك كما ورد في مقال كتبه دي إي باري في مجلة 3: AM. شكلت الفكرة صدمة أخلاقية حقيقية لأخت نيتشه ووسطه الاجتماعي، ولربما لعبت دوراً في الانتقاد العنيف الذي تعرض له كتاب سالومي “فريدريك نيتشه: الإنسان من خلال أعماله” الذي ألفته عام 1849. يستحق هذا العمل الذي تعرض لتشهير قاسٍ إعادة النظر فيه كـ “تحليل نفسي توصيفي”، كما ورد في نقاش باري.
تجد عند نيتشه كما كتبت سالومي: “الآلام المحزنة والشفاء المنتصر، النشوة الملتهبة والوعي الهادئ. بإمكان المرء هنا تلمس التضافر الوثيق للتناقضات الثنائية؛ بإمكانه تلمس الطاقات المتوترة المحفزة إلى أقصاها في تدفقها وغوصها الطوعي إلى عالم سحيق من الفوضى والظلمة والذعر، ثم نزعتها القوية المتصاعدة تجاه الضوء واللحظات الأكثر دفئاً.” نستطيع بسهولة ملاحظة العاطفة الجياشة في هذا المقطع والتي حرضتها ذكرى صديق زعمت أنها تسلقت معه يوماً جبل مونتي ساكرو عام 1882، “حيث حدثها عن مفهوم العود الأبدي’ بصوت هادئ يحمل في طياته سمات رعب لا قرار له”
لربما يجب أن ننظر إلى انطباعات سالومي على أنها، بشكل أساسي، نتاج تأثرها بنثر نيتشه العاصف الذي وصل درجة التأليه في روايته الفلسفية التجريبية “هكذا تكلم زرادشت”. بعد أن وضع نيتشه نظريته الخاصة بتجسيد الأفكار وبعلاقتها المعقدة مع الطبيعي والاجتماعي، تشكلت لديه أفكار مميزة ودقيقة عن الأسلوب الأدبي كان قد نقلها إلى سالومي في رسالة كتبها لها عام 1882 بعنوان” نحو تعليم الأسلوب”. قبل أن يبدأ المؤلفون بإصدار “مجموعات مشابهة من الوصايا”، كتبت ماريا بوبويا في Brain Pickings: “وضع نيتشه عشر قواعد أسلوبية للكتابة”
الحياة هي الضرورة الجوهرية: الأسلوب يجب أن يحيا ويستمر.
يجب أن يكون الأسلوب ملائماً للشخص المحدد الذي ترغب بالتواصل معه. ( قانون العلاقة المتبادلة.)
أولاً، على المرء أن يحدد بدقة “ما الذي أرغب في قوله وما الذي أود طرحه،” قبل أن يسمح لنفسه بالكتابة. الكتابة يجب أن تكون فعل محاكاة.
بما أن الكاتب يفتقر إلى الكثير من أساليب التعبير التي يمتلكها المتحدث، يتوجب عليه بالعموم أن يتبنى في عرضه لما هو ضروري أسلوباً تعبيرياً غنياً جداً في محاكاته هذه، إذ أن النص المكتوب سيبدو كنسخة باهتة جداً
تُفصِح سعة الحياة عن نفسها من خلال وفرة الإيماءات. يجب أن يتعلم المرء كيف يطور الإحساس تجاه كل شيء، طول الجملة وثقلها المبطئ، وعلامات الترقيم ما بين الكلمات، واختيار المفردات، والتوقف المؤقت، وتسلسل المحاججات، ليشبه بذلك إحساسه بالإيماءات.
كن حذراً في استخدام النقاط! المخولون لاستخدام النقاط هم فقط أولئك الذين يتمتعون بنفس طويل أثناء الكلام أيضاً. استخدام النقطة عند معظم الناس هو ضرب من التظاهر.
يجب أن يبرهن الأسلوب على إيمان المرء بفكرته، أن يوضح كيف انه لا يفكر فيها فحسب بل ويشعر بها أيضاً.
كلما ازدادت الطبيعة التجريدية للحقيقة التي يود المرء إيصالها ازدادت حاجته للعمل على استمالة الحواس كخطوة أولى.
تعتمد خطة كاتب النثر الجيد على اختيار الوسائل التي تقربه من عالم الشعر دون أن تعرضه لخطر الخوض فيه على الإطلاق.
ليس من التهذيب أو الذكاء في شيء أن يحرم المرء قراءه من الاعتراضات الأكثر بداهة. من التهذيب والذكاء بمكان أن يدع المرء قراءه يستنتجون الجوهر المطلق لحكمتنا بأنفسهم
الأخذ بهذه الأفكار أو عدمه هو أمر منوط بنا وبتقديرنا لما هو مناسب، تماماً كما هي الحال مع كل ما يشابه هذه القواعد من وصفات وقوالب جاهزة، لكن تجاهلها ليس فعلاً حكيماً على الإطلاق. في الوقت الذي فُسرت فيه (خطأً) نظرية نيتشه “المنظورية” على أنها إغراق في الذاتية، يضيف تبجيله لثقافة العصور القديمة قيمة كبيرة للقيود الشكلية. يمكننا القول أن نثره يستقر على وتر مشدود بين الاسترسال الديونيسوسي والاعتدال الأبولوني، وأن قواعده تجمع ما أطلق عليه أساتذة الفنون ذات مرة اسم الفنون الثلاثة: قواعد اللغة، وعلم البلاغة، والمنطق، الدعائم الثلاثة للكتابة المؤثرة، والتعبيرية، والمقنعة.
كانت سالومي شديدة الإعجاب بهذه القواعد الحكيمة لدرجة أنها ذكرتها في سيرتها الذاتية حيث كتبت: “البحث في أسلوب نيتشه عن الدوافع والظروف يعني أكثر بكثير من مجرد دراسة الشكل الخارجي الذي عبر من خلاله عن أفكاره، في الحقيقة إن هذا البحث يعني أن نتمكن من سبر أغوار نيتشه وسماع صوته الداخلي الأكثر عمقاً.” أليس هذا ما يجب أن تكون عليه الكتابة العظيمة؟
كتبت سالومي في دراستها “لم يسيطر نيتشه على اللغة فحسب، بل تمكن من تجاوز قصورها.” (كما علق نيتشه نفسه عام 1886، يقول هوغو دروشون، حيث احتاج أن يخترع ” لغة خاصة بي وحدي.”). لاقت كتابات نيتشه الجريئة رغم انضباطها متمماً لها في تحليل سالومي المتقد بحماس لا يهاب العواقب. ربما نستطيع هنا أن نستقي منها مبدأً آخر: “بالرغم من قسوة التشهير الذي تعرضت له من قبل الناس” يقول باري، “وبالتحديد من قبل (أخته) اليزابيث فورستر نيتشه خلال فترة النازية في ألمانيا، ما كانت سالومي لتكترث بالرد عليهم.”
*****
خاص يأوكسجين