في ذلك الصباح لاحظ بورخيس خورخي لويس أن فرشاة أسنانه الزرقاء ليست على حافة حوض الغسيل حيث وضعها ليلا، وبدلا عنها كانت هناك أخرى باهتة، بيضاء تقريباً، بلون غير اعتيادي. إمكانية سرقة فرشاة أسنان زرقاء من بيته في الطابق الرابع غير واردة اطلاقا، بل خرقاء تماما، وهو بالأمس بدأ كتابة قصة عن امرأة تجلس على ضفة نهر، وهي امرأة حقيقية رآها هناك. وفي الليل قبل أن ينام، شرع في كتابة قصة تبدأ هكذا “كانت لوسيا تجلس بغموض شديد تمد بصرها نحو النهر كأنها ميتة من شدة جمود عينيها، لكن أصابعها كانت تتحرك بسرعة واضحة (ربما وصف الأطباء هذه الحركة بالإفراط المرضي)، كانت قلقة أو غاضبة أو فقط غائبة. امرأة شابة بمظهر يمكن وصفه باللائق […]لعلّ النهر كان مضطربا” قرأ الأربع صفحات الأولى من قصة المرأة، لكنه بعد قضية اختفاء فرشاة الأسنان الزرقاء شك أن يكون قد رآها جالسة، ربما كانت واقفة، ربّما لم يكن هناك من مقغد على الضفة. بعد لحظات ريبة، قرَّر الخروج ليتأكد من وجود المقعد ولذلك أهميته!
تمنى دون أمل، بالإضافة إلى التحقق من أمر المقعد، أن يصادف المرأة ذاتها مرة أخرى. هناك مقعد، وثمة رجل يجلس عليه محتميا بقبعة وفي يده حبل قصير يربط إليه رقبة كلب قزم. فكر بورخيس في الرابط بين السيد وكلبه. لم يجد النهر. وجد كتلة جبلية ثقيلة تقف خلف المدينة، باهتة. خمّن أن الضباب يغطي بعضا من ذلك الجبل، لكنه تساءل بصرامة: هل رآها في حلم؟ هل تخيّلها؟ هل توهّم وجود نهر؟ تذكر أنه كتب “كان النهر مضطربا”…أين النهر؟ أين المرأة؟ أيُّ مدينة؟
في الطابق الرابع حاول فهم الفرق بين العقل والخيال والوهم والمنام في ترجمة لاتينية قديمة لـ “رسالة في العقل” للفارابي، على إحدى صفحاتها كتب بخط غريب “لا تقوم حقيقة على خيال أبدا، الخيال مَلكة الحيوان”. عاد إلى حمّام بيته كانت فرشاة أسنانه الزرقاء هناك، حملها، لم يكن سعيدا كمن وجد شيئا ضيّعه قبل ساعات من ذات النهار.
لون الغسق يرسل أشعته الهادئة من نافذة مكتبه في الجهة الغربية. وقف يتابع سقوط الضوء في البحر، في الأفق، وراء الكتلة الجبلية الثقيلة الضبابية. لماذا اللون رمادي اليوم؟ طرح سؤالا بصوت خافت لكنه منطوق. جلس إلى مكتبه يكمل القصة: ” […]في عرض بحر أغادير، عجز السلطان مولاي زيدان عن دفع مستحقات ربّان سفينة مؤجرة، رفض الربان تفريغ المحتويات، وفي تلك اللحظات المريرة من حياة السلطان فرّ الربان بالكنز إلى مرسيليا […] ولكنّ في أعالي بحر مرسيليا لم يستطع الربان الهارب مواصلة طريقه بكنوز السلطان المسروقة، استولى القراصنة على كنز الربان الذي هو كنز السلطان”. كانت المرأة تكتب القصة وأصابعها تتحرك بسرعة، لا شيء يمكنه إيقاف إيقاعها واصلت “صار الكنز اسبانيا بعد أن أهداه القرصان الرئيس إلى الملك فيليب الثاني…مات زيدان السعدي بحسرته[…]”. في الصفحة الأخيرة، في الفقرة الأخيرة أيضا، من قصتها عن السلطان المسلوب الكنز، كتبت “وبعد كل تلك القرون، سنة 2022 سيعثر موظف بسيط على وثائق في مكتبة الإسكوريال تثبت محاكمة الربان اللص الأول”. وأضافت “(ماذا عن بقية اللصوص؟ […])” ثم وقّعت الشابة قصّتها بجملة قصيرة “لوسيا، الحفيدة الرابعة بعد الألفين لفيليب الثاني. تمت أوائل شهر جوان من العام 1980 في حديقة قرب الإسكوريال في مدريد”.
أنهى بورخيس كتابة قصته بعد ليلة طويلة أحس فيها بإرهاق شديد، وهو يبحث في ذهنه وذاكرته عن النهر ولوسيا. في صباح اليوم التالي خرج إلى المكان ذاته، كان الجبل شامخا والكرسي فارغا، كان الجبل أخضر، شديد الاخضرار، وأشعة الشمس واضحة، لكن لم يكن هناك نهر، كانت هناك مكتبة عظيمة…
تيقّن خورخي أن النهر لا وجود له، ولأنَّه لم ينم الليل كله، غفى جالسا أمام صفحات قصته. في منامه رأى المرأة بفستانها الصيفي الأحمر، تضع القبعة ذاتها التي كان يضعها الرجل الجالس أسفل الجبل مع كلبه، كانت هناك واجمة تكتب بسرعة، تعيد الكتابة، تمحو أشياء كتبتها ثم تكتب فوقها أمورا جديدة. النهر أمامها والجبل خلفها، كما هو موجود وفي مكان النهر كانت مكتبة عظيمة، في الحلم كان النهر مضطرباً، لا جدران، لا عمال، لا حراس يحرسون البناية. أفاق لويس بورخيس، أخذ القصة وكتب عليها ملاحظتين: الأولى “هذه القصة طويلة لا تنتهي، لا تصلح للنشر”. أما الثانية “ما أسخف الحياة”. الملاحظة الأولى فهمها من وقع المخطوط بين يديه، بينما الملاحظة الثانية لم يفهمها أحد إلى غاية الآن، خاصة أن القصة لم تنشر أبداً.
شعر بحرقة في العينين، أخذ من درج مكتبه علبة دمع اصطناعي (هذا اسم الدواء) وضع في كل عين قطرتين كاملتين، أغمض عينيه رأى ألوانا: الأحمر، الأزرق، الأخضر، الأصفر…متمايزة، متباينة…وعندما فتح عينيه كان اللون الأصفر هو كل ما تبقى فيهما…وقبل هذا بسنوات رسم قرصا على خشب مكتبه وضع داخله ألوانا وكان كلَّما لاحظ أن شيئا سرق من بيته واستبدل بشيء آخر يشبهه لكنه باهت غير اعتيادي رسم هلالا صغيرا داخل القرص ومحى بقية اللون من القرص، ثمّ إذا عاد اللون فجأة يكمل اللون داخل القرص وسمى هذه الحيلة “حركة الألوان”. ظلّت الألوان تتحرك داخل عينيه من قرص إلى هلال ومن هلال إلى قرص، حتى ذلك اليوم الذي اختفت فيه كل الألوان وبقي اللون الأصفر فقط…فتح عينيه وغنَّى، غنَّى أبياتا من شعر رامبو :
A noir