لطالما رغبت أن يكون المولود الأول في عائلتي بنتاً.
كنت أتوقع أن هذا الموضوع مبني على ردة فعل، مفاده تقليد متوارث على أساسه يفترض أن يقوم الابن البكر بتسمية مولوده الذكر البكر على اسم والده، وبالتالي يحمل الولد اسم جده.
من حيث المبدأ كنت رافضاً للموضوع، رغبة مني في كسر تقليد مجتمعي أولاً، وثانياً لأن اسمي يطابق اسم جدي في الاسم واسم الأب، وبالتالي على ولدي أن يحمل اسم أبي واسم جد أبي، أي يصبح ابني ابراهيم الثالث –في حال المولود الذكر، وفي رأيي لا داع لهذا التقليد.
وأنا أفكر في الموضوع أسأل نفسي، أين سيذهب انتقادي للأنظمة السياسية العربية الفاسدة التي تتوارث السلطة، وترسخ العادات في محاولة منها لإيجاد مبررات الحياة الكريمة لها فقط دون شعبها؟. كيف سأستمر في الحياة وأنا أنتقد والدي الذي أتهمه بمشابهة نظام الحكم في ممارساته وقمعه للديمقراطية والتعددية وأنا أمارس التوريث، وأخضع لإملاءات المجتمع، واسمي ابني على اسم أبي!!
عندما ولدت أنا كان والدي ينوي أن يسميني آرام اسم أخي الأصغر الذي ولد بعدي بأربع سنوات، إلا أن جدي حزن لهذا القرار، وكاد يقاطع والدي على هذه “الثورية” التاريخية ورغبة الابن القادم من أوروبا بأفكار “التحرر” أن يكسر ما يقدر عليه. إلا أنه في هذا الامتحان سرعان ما تراجع أمام البنية العاطفية الهشة التي يتمتع بها كشرقي. وبهذا فوّت عليّ فرصة أن أحمل اسماً تاريخياً عظيماً، وتركني فريسة الوراثة العائلية، إلا أنه هذا ما منحني الكثير من امتيازات الابن البكر الحفيد/ الجد.
لكن كل ما سبق لا يعني أني عانيت أزمة مع اسمي، لقد أحببته وأشعر بامتياز الاسم الذي أعطاني من صفاته الكثير، إلا أني عوضت هذا في الفضاء الافتراضي وجعلت اسمي “آرام” وأضفت عليه “شام” إمعاناً في الحسرة. وفي هذا تناقض كبير، رغم اسمي الموسيقي “بهيج وردة” والذي يراه الكثير من زملاء المهنة اسماً يليق بصحفي –لا أدري على أي أساس مبني هذا النغم الموسيقي، ربما هو وقعه الموسيقي في الأذن!!
قصة اسم المولود القادم لم تناقش إلا مرة واحدة مع الوالد على “سكايب”، نظراً للبعد الجغرافي بين الإمارات حيث أقيم، وسورية حيث يقيم.
مرة واحدة فقط مرّ ذكر الاسم قبل أن نعرف جنس المولود، وأخبرته أني لن أسمي ابني ابراهيم، لكن لم نقع على خيار بديل أنا وزوجتي حين كنا نتحدث عن اسم المولود، وكان لدينا ما يشبه اليقين أن المولود أنثى، وطبعاً اسمها مكتوب في منتصف السطر الثاني في الصفحة 85 من ديوان نادين الصادر عن دار نينوى بدمشق عام 2012 “أخفي الأنوثة”، من القصيدة المؤرخة بتاريخ 2010 أي قبل زواجنا بعام، والواقع أن نادين أخبرتني منذ التقينا أنها تنوي تسمية البنت التي ستنجبها مني “جنى”، وهذا كان في العام 2006 أي قبل أعوام من كتابتها القصيدة أيضاً.
إلا أن شقيقتي الصغرى صوفيا، طرحت السؤال مباشراً. هل ستسمي ابنك ابراهيم في حال كان المولود البكر ذكراً. لا قاطعة كان جوابي. لن يكون ابراهيم أبداً. واستكمالاً للبنية العاطفية الهشة، لم نصارح الوالد بهذا الكلام، وبقي الحديث بيننا. وانطلقت بعدها مع نادين في رحلة البحث عن اسم للمولود وكان أكثر الأسماء حظوة لدينا هو “مدى”، بناء على رغبتنا في اسم ثلاثي لابننا.
نادين طيلة شهور الحمل الأولى كانت في حالة إنكار للمولود الأنثى التي ترغب بها بشدة، واخترعت تسمية لطفل افتراضي في بطنها، وبحثت طويلاً على النت حتى وجدت صورة له أيضاً، وسمّته كوكي. كل الوقت كان الحديث يدور عن كوكي المفترض، وكوكي فعل، وكوكي رفس، وكوكي يعذبني. حتى جاء موعد الفحص الدوري عند الطبيبة، التي لم تنجح في معرفة جنس الجنين لأنه كان في وضع لا يظهر ما بين رجليه.
واستمر كوكي في حياتنا، وصار كوكي تسليتنا واختراعنا. لوهلة صدقت أو ربما تواطئت مع حدس الأم، وكذبت حدس الأب. أترى يخيب حدس الأم؟. في الواقع كانت موقنة أنها فتاة، إلا أنها أصرت على تكذيب نفسها، حتى جاء الموعد الثاني قبيل سفرها إلى سوريا لمناقشة الماجستير في اليوم الأخير قبل انقضاء المهلة المحددة لها، في ظل حرب الإخوة في سوريا، ووضع سيء غير مسبوق في حمص.
يومها تمنيت بكل جوارحي أن يكون الجنين في وضع يسمح بكشف جنسه، وكذا تمنت نادين. “من غير المعقول أن أسافر إلى سوريا دون أن نعرف جنس الجنين”، قالت حبيبتي. وهكذا كان. “مبروك، بنوتة”. صرختُ “إنها جنى”. فابتسمت الطبيبة قائلة “ابنتي جنى عمرها 4 شهور”، فوعدناها بدجاجة وكماجة جرياً على رأي المثل الشعبي.
لطالما سحرتني أسماء الفدائيين أيام طفولتي، فأسماء من قبيل أبو تالة، وأبو دلال، وأبو ليلى كان لها رنين في أذني. لمَ لا يتكنى الرجل بابنته البكر؟ أم هذا وقف على المنكوب بالبنات؟ وهل البنات نكبة؟ و”همهن للممات”؟ اللعنة على المجتمع الذي يرفق ولادة البنات بالهمّ حتى الممات؟ ألا يرافق همّ الصبيان العائلة حتى الممات؟ لكني لم أختر اسماً محدداً.
أذكر أني كنت معجباً باسم فتاة من طالبات والدي في الجامعة، كان اسمها “شاميرام”. أحببت الاسم؟ لكن “أبو شاميرام” لم يكن له وقع، فبقيت “أبو ابراهيم” في طفولتي كما يردد الجميع ولم أعترض على التسمية، وهي التسمية التي لا يزال بعض أصدقائي على استخدامها حتى مع قدوم جنى.
إلا أن اسماً جديداً قفز إلى الساحة حين كنت في ضيافة عمتي الكبرى ماري قبيل أحد امتحاناتي في التعليم المفتوح بدمشق. فقبل أن أخلد للنوم في غرفة الجلوس التي يوجد فيها التلفزيون وبعد خلود الجميع إلى غرفهم طلبت أن تحدثني في موضوع على انفراد، وكانت الجدية بادية عليها.
اعتدلت في جلستي وبدأت أصغي.
قالت: “عندي أمنية أتمنى أن تنفذها، وأنت الوحيد القادر عليها”.
كاد فضولي يقلتني وقتها حتى أعرف الأمنية، لكنها استدركت بالهدوء نفسه “أرجو منك في حال أنجبت زوجتك بنتاً أن تسميها ماري”.
وقتذاك استغربت الحديث جملة وتفصيلاً لأني لم أكن مرتبطاً حتى!! إلا أنها عادت لإيضاح السبب: “لن يستطيع أحد تكرار اسمي سواك، فلا أحد يحمل اسم أبي “بهيج” سواك، ولو سميتها ماري سيكون اسمها ماري بهيج وردة، وهو بالضبط اسمي الكامل”.
يومها لم أجد ما أقوله لها سوى أني أعدها بإحضار ابنة الحلال التي سيختارها قلبي لتعرض الأمر عليها بنفسها، على اعتبار أن اسم البنت يترك عادة –بحسب المجتمع- للأم دوناً عن الأب في تقاسم للأدوار، وكأن هناك اشتراطاً أن تنجب الأم ابناً وابنة، أو أن لدى الوالدين قدرة على التحكم في عملية الإنجاب تلك!!
________________________
* فصل من كتاب “مذكرات أب لا يجيد الحكايات”/ قيد الطباعة.
صحفي وكاتب من سورية
الصورة من أعمال التشكيلي السوري اسماعيل الرفاعي
*****
خاص بأوكسجين