يتم اتهام كليلاند والقبض عليه مرة أخرى نهاية العام 1749، وهذه المرة بتهمة المجون والبذاءة. (يبدو أن السلطات قد تفطنت حينها لأن عبارات مثل “صولجان القذف المتصلب” ليست أقل وضوحاً وبذاءة من “المصطلحات الحرفية.”). مدفوعاً بحقده ورغبته في الانتقام، يخبر كاتبنا أحد العاملين عند دوق نيوكاسل أن كانون قد نشر بياناً أسماه “شروحات واستقصاءات عن اللواط قديماً وحديثاً” وأنه كتبها “دفاعاً عن السدومية”، وقد أخذت سلطات الدوق اتهامه هذا على محمل الجد. اعتُقل كليلاند مرة أخرى على خلفية كتابته رواية “فاني هيل” في العام 1750، لكن يبدو أن بذاءاته الجنسية القويمة والمبهجة لم تكن تشكل تهماً يُحاكم عليها. على المقلب الآخر، كان “اللواط” يعُتبر جريمة كبرى يحاسب عليها القانون، فما كان من كانون إلا أن فر من المدينة وبقي هارباً عدة سنوات. أما الناشر الذي كان يعمل لحساب كانون، والذي أكد “أن الدراسة التي نشرها لكانون كانت بعيدة كل البعد عن التشجيع على ارتكاب هذه الرذيلة، وأنها قد كُتبت لتسليط الضوء على بشاعة هذه الجريمة ودفع البشرية جمعاء إلى كراهيتها ونبذها،” فقد تم اعتقاله وسجنه، ويُعتقد أنه قد تم التشهير به وإهانته.
لماذا لم تتم محاكمة كليلاند على خلفية كتابته رواية “فاني هيل”؟ في الجزء الثاني من الرواية يصعّد كاتبنا من استفزازاته ويرفع مستوى الإثارة لدرجة تشعر معها بأنه يخشى من أن يفقد القارئ اهتمامه إن لم يفعل ذلك. فاني، المحاطة بزميلاتها المومسات، تضاجع أحد زبائنها بسعادة ورضى على الأريكة نفسها التي جلست تراقب زميلاتها وهن يشبعن رغبات زبائنهن عليها. في “هيجان سببته الرغبة في اختبار تجارب جديدة” توافق على الانخراط في علاقة جنسية مع زبون ثري لا يصل إلى النشوة الجنسية إلا عندما يُجلد بالسوط مرات متكررة. وفي مشهد يبعث على الغثيان، تساعد صديقتها على إغواء بائع زهور مختل عقلياً ومصاب بالتأتأة، والذي عندما يُستثار، ينتقل من حالة الذهول والدهشة إلى حالة من “الرعونة الجامحة منفلتة العقال” ليترك شريكة فاني في حالة يرثى لها “ممزقة، ومحطمة، ومغطاة بالجروح” و”ممتنة من رأسها إلى أخمص قدميها لذلك.”
قد يظن المرء أن فقرات كتلك من شأنها أن تزج بكليلاند في السجن لفترة أطول. لكن بالرغم من ذلك قد يكون لدى السلطات الإنجليزية سبب لاعتباره أقل عدائية ووقاحة مما يبدو عليه. استطاع كليلاند في فاني هيل أن يخلق نوعاً من الرابط بين الاحتفال باللذة، والتي هي (“شعر بحد ذاته”)، والدفاع عن الفضائل الحقيقية – العفة، والطهارة، وحسن الأخلاق والتربية – والتي تتعارض بشكل صميمي مع تلك الملذات المسرفة التي يصفها ويتحدث عنها. شخصيات الكتاب الأصيلة والسليمة صحياً وعقلياً هم أنفسهم من اختاروا الخوض في تلك “المغامرات” بحرص وتعقل، واختاروا أيضاً عن وعي وتبصر ألا يبيعوا أنفسهم بثمن بخس. باستثناء علاقة عابرة مع بحار وسيم لم تدم سوى ليلة واحدة، تتجنب فاني بكل إصرار أن ترتكب أي نزوة من شأنها، على حد تعبيرها، أن تهدد كونها “وجه السحّارة، والأكثر طلباً بين زميلاتها” وتدير ظهرها للرجال الذين يتعاطون معها وكأنها سلعة بالية “جراء الإفراط المستمر في ارتكاب الموبقات وممارسة الملذات”. الرذيلة في مخيلة فاني تتخذ المنزلة المتدنية نفسها التي تتخذها في مخيلة موظفي الرقابة المسلطين على كليلاند، لأنها ترهق المرء بما تخلفه عنده من “طاقات ذاوية” ناهيك عن أنها “أحط توظيف للطاقة الجنسية.”
نلاحظ ونحن نقرأ الرواية في جزئيها أن كليلاند ينثر هنا وهناك لمحات من نقاش تدخل فيه فاني في آخر صفحات الكتاب، حيث تحصل على مبلغ لا بأس به من المال جراء موت أحد الأغنياء القيمين عليها، وتبلغ سعادتها أوجها عندما تلتقي صدفةً بحب حياتها من أيام المراهقة في أحد النُزُل. “لم أتمكن من منع نفسي عن الشعور بالشفقة،” تقول لمن تخاطبه، “ولو من باب مراعاة الشعور، تجاه أولئك الذي ينغمسون في حالات شهوانية مقرفة، ويتخبطون في مستنقع الرذيلة، وهم جاهلون بالملذات المرهفة التي تنطوي عليها الفضيلة، والتي لا تجد اللذة صديقاً أفضل منها، ولا تجد الرذيلة عدواً أكثر منها شراسة.” وتستبق هنا أن أحدهم قد يسخر من “صحوة الأخلاق المتأخرة هذه”، ولكن كم من المجحف في حق الفضيلة، تعود لتناقض نفسها، أن نلمّح إلى أنها “لا تجد أساساً لها إلا في أكثر مخاوفنا زيفاً لدرجة لا يمكن معها مقارنة الملذات المتأتية من ممارستها مع تلك المتأتية من ممارسة الرذيلة.” من الأفضل أن نُظهر إذاً كم تبدو “الملذات التي تمنحنا إياها ممارسة الرذيلة” زائفة وزائلة ومنحطة عندما نقارنها “بملذات الفضيلة المتأتية عن العزوف عن الانغماس في الرذيلة”.
الملذات الفاضلة هي تلك التي يعيشها الشبّان والشابات الأصحاء نفسياً وبدنياً وذهنياً والمستقرين جنسياً. تحتفظ فاني بأشرس استنكاراتها لحالة واحدة صادفتها، وهي علاقة جنسية بين رجلين. أثناء إقامتها في خان قائم على جانب الطريق، تتلصص من ثقب باب مرتفع على اثنين من ضيوف الخان في الغرفة المجاورة: “شاب طويل بهي الطلعة” و”مراهق حلو الملامح” لم يتجاوز أي منهما العشرين من عمره. يضطر كليلاند إلى تبرير هذا الوصف المفصل لمشهد ممارسة الحب بين هاذين الشابين، والذي يتم اقتطاعه من نسخة الكتاب التي طُبعت في العام 1750، من خلال جعل فاني تؤكّد على أنها قد شهدت على “مشهد جرمي أثيم… حتى نهايته، فقط لأتمكن من تجميع المزيد من الحقائق، ولكي يكون بوسعي بكل أمانة وتصميم أن أعمل على أن ينزل القصاص العادل بهذين الشاذين.” تسقط فاني من المكان الذي اعتلته لتراقبهما محدثة جلبة كبيرة قبل أن تتمكن من استدعاء السلطات.
يبقى السؤال مفتوحاً ما إذا كان كليلاند قد استخدم هذ السقطة المزعجة للسخرية من فورة غضب فاني، أم أنه ببساطة لم يرضَ بأن يجعل بطلة روايته تتسبب في اعتقال الناس وشنقهم. لكن النقاش الذي تجريه السيدة كولي، صاحبة البيت الذي تعمل فيه فاني، في الصفحات التالية حول تلك “العاطفة المشينة” والذي تقول فيه إنه “من بين كل من عرفتهم ضمن هذه الفئة… لم تستطع أن تسمي شخصاً واحداً لم يكن من جميع النواحي عديم القيمة وخسيساً إلى أبعد مدى”… هذا النقاش يشبه إلى حد بعيد إصرار فاني على أن الرذيلة هي مرض وانحلال أخلاقي”، أو “وباء وبقعة طاعونية” على حد تعبير السيدة كولي “تراها مرسومة على جبين كل من تلطخ بها.”
لم يستطع كليلاند أبداً أن يستعيد النجاح الذي حققه مع رواية فاني هيل. عاش طوال الوقت في ضائقة مادية يكتب المقالات والمراجعات، ويمارس الأعمال البسيطة لصالح باعة الكتب الذين أشيع كثيراً أنهم كانوا يستغلونه. أما رواية “مذكرات مخدوع” التي كتبها بعد فاني هيل، فلم تلقَ اهتماماً كبيراً. وكان قد كتب تعليقاً على عمل قام بترجمته من الإيطالية لـ”أطروحة طبية عن سحاقية مسترجلة ومغامرة”… هكذا أسماها جلادفيلدر. وترجم قاموساً فرنسياً لعبارات الحب، وألّف ثلاثة كتب عن نظرية لغوية يطرح فيها فكرة مشكوك في صحتها تقول إن اللغات المعاصرة قد نشأت كلها من مصدر واحد فقط وهو “اللغات الهندية الأوروبية”. في منتصف الستينيات من القرن الثامن عشر كتب سلسلة من الأعمدة الصحافية السياسية تحت اسم مستعار، وهو إي بريتون، يناقش فيها فكرة مفادها أن من الأجدر للبلاد أن تعود إلى حالة مماثلة من الوحدة الطبيعية التي كانت عليها في الأصل. الجدير بالذكر أنه لم يتزوج أبداً. عندما قام بوزويل بزيارة كليلاند في العام 1778 “وجده في منزل خرِبٍ في سافوي… وغرفته ممتلئة عن آخرها بكتب يغطيها الغبار ومرمية في كل مكان.”
كان كليلاند قد عبّر على رؤوس الأشهاد عن ندمه على نشر رواية “فاني هيل”، لكنه أصر في الوقت نفسه على أن الكتاب كان مزموراً عن الفضيلة في رداء قصة عن الرذيلة. لكنه اعترف في مراجعة لتوبياس سموليت تحت عنوان “مغامرات بيرغرين بيكل” بأن كما لهذا الأسلوب محاسنه، فله مثالبه أيضاً.
“صحيح أن شخصيات لها قيمتها الفنية والأدبية قد استهجنت هذ الأسلوب في معالجة الرذيلة، واعتقدت أنه حتى لو كانت الغاية من الكتاب هي عرض ما تخلفه من أمراض ونتائج كارثية، فإن هذا لا يبرر بذاءة الوسائل وسوقية الطرح، وأن أعمالاً كهذه تقترب كثيراً من وهج الحقيقة لدرجة أنها تحترق به، لكن شخصيات كهذه، مهما كانت قيمتها، تنظر فقط إلى النصف الفارغ من الكأس، وتفسد أكثر بكثير مما تصلح…”
كما في كتابه الأشهر هذا، كذلك في حياته، كان كليفلاند يقترب من وهج الحقيقة كثيراً، ويحترق به… لم يكن يهم كثيراً ما إذا كان المقصود من عبثه بأفكار الانحراف والجنوح، كما كان يصر، هو إظهار روعة الملذات المتأتية عن ممارسة الفضيلة أم لا. صحيح أنه استطاع أن يتجنب المحاكمة، لكنه لم يتمكن من تجنب الفقر والاتهام. في أولى صفحات كتابه، ينوّه جلادفيلدر إلى شخص آخر لم يذكر اسمه قام بزيارة منزل سافوي الخرِب حيث أمضى كليلاند معظم ما تبقى من حياته. “لا عجب أن يكون قد فقد منزله أو معاشه في عصر كهذا… أو ربما توجب عليه أن يقرّ أخيراً بأن حربه الشعواء على “السدومية” وإدانته الدائمة لها ما هي إلا وسيلة لحرف الأنظار عن “سدوميته” هو نفسه.”
______________________________________________________
عن مجلة “باريس ريفيو” والعنوان الأصلي للمقال Overdrafts Of Pleasure
“حسابات اللذة على المكشوف”.
*****
خاص بأوكسجين