“ليس زنجياً ولا مثلياً ولا يهودياً..”حسبه أنه كاتب أميركي كبير، بهذه العبارة وصفت “الغارديان” جون أبدايك لدى وفاته، ولعل العبارة نفسها صالحة أيضاً لتوصيف روائي حي هو جوناثان فرانزين (1959) حسبه أنه “روائي أميركي عظيم” كما وصفته مجلة التايم وقد تصدرت صورته غلافها عند صدور روايته Freedom “حرية” 2010.
لا ينتمي فرانزين الذي “فتح نافذة أبدايكية على الطبقة الوسطى الأميركية” إلى الأقليات وليس منغمساً في الخصوصيات الجنسية أو العرقية، إنه يتحرك في نطاق العائلة الأميركية الموصوفة بالنموذجية، يعريها، يضيء حياتها اليومية، ويتنقل بين الأجيال موضحاً التباينات والفوارق، الفشل والخيبات والانهيارات وصولاً إلى “حرية” أو الحرية على الطريقة الأميركية، والتي ستكون الكلمة الناظمة لما نقرأه في هذه الرواية الضخمة، وعلى شيء من تقديم توثيق روائي مواز للتوثيق التاريخي إن تعلق الأمر بالمرحلة التي تدور فيها أحداث روايته لكن بما يطال الشخصيات، كما هو جوي في “حرية” الذي يقول بأن حياته تغيرت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لا لشيء إلا لأن الحظ بدأ يفارقه، كما أن الجدل السياسي يمر في الرواية دائماً من خلال الحوار، كالحديث الذي يجري بين جوي ووالد صديق يهودي ، يقول له الأخير “العرب يقولون أن برجي التجارة العالميين كانا خاليين من اليهود”، ليجيبه جوي “ألسنا نفعل مثل العرب حين نكذب بخصوص العراق”.
حضور فرانزين الحقيقي على الساحة الأدبية الأميركية أتى مع صدور روايته The corrections “التصحيحات” 2001، العمل الهائل الحجم، الذي محى ما قبله: “المدينة السابعة والعشرين” 1988 وروايته الثانية “حركة قوية” 1992، كما لو أن الأدب الأميركي لا يريد دان دليلو جديد، ولا كتابة ما بعد حداثوية، بل الاحتفاء سيكون بفرانزين عبر “التصحيحات” التي تدفع إلى مقارنته بأكثر الروائيين كلاسيكية كديكنز وتولستوي.
تمضي “التصحيحات” ومن الجملة الأولى نحو سرد متدفق، الفريد وأنيند سيزوران ابنيهما تشيب في نيويورك، في هذه الأثناء نتعرف على ألفريد وهو في أولى مراحل الإصابة بداء “باركنسون”، “الفشل” عنوان الفصل الثاني والفاشل هو تشيب وحياته وأحداث متدافعة تعصف به مترافقة مع استعراض كامل حياته من الطفولة إلى ما وصل إليه وهو لا يملك أجرة تاكسي، ومن تشيب ننتقل إلى غاري الابن الثاني الذي يعيش في تكساس في حالة هلع دائمة من الاحباط، وهو يحصي عوارضه وفق تقسيمات سيكولوجية ومن ثم نتبين علاقته المأزومة مع زوجته وأولاده هو الناجح في عمله على عكس تشيب الذي يطرد من الجامعة التي كان يدرس فيها الأدب بعد علاقة غرامية عاصفة ومجنونة مع إحدى طالباته، وليكون كل اتكاله على أخته دينس والتي تستعاد حياتها أيضاً ومآزقها بما يضع جيل الآباء والأبناء جنباً إلى جنب، وفي استثمار هائل للحوار، إذ يكفي حوار طويل بين دينس وأمها أنيند حتى تكتشف كل ما كانت عليه حياة الأولى.
الجميع سيمضون نحو تلك “التصحيحات” التي لا تنجح إلا بالمضي إلى مصائر من صنع الأخطاء، أخطاء حياة صيغت على هذا النحو الذي يكمله فرانزين في جديده “حرية” ونحن ومن الفصل الأول المعنون “الجيران الطيبون” نكون مباشرة مع والتر وباتي برغلاند وقد انتقلا إلى واشنطن، ولم يعودا على ولائهما لنيويورك بما في ذلك توقفهما عن قراءة “نيويورك تايمز”.
يأتي الفصل الأول مكثفاً فنكون مع زمن الرواية الحاضر، والتر “أخضر أكثر من جماعة السلام الأخضر” لكن كل مآزقه ستأتي من البيئة، باتي التي كرست حياتها لابنها وبنتها ولم تعمل شيئاً إلا تربيتهما، سرعان ما سيهجرها ابنها جوي ليعيش مع جارته كوني. وليأتي الفصل الثاني طويلاً ومترامياً وتحت عنوان “الأخطاء التي نرتكبها، السيرة الذاتية لباتي برغلاند المكتوبة من قبل باتي برغلاند (قامت بذلك بناء على طلب طبيبها)”، ورغم هذا العنوان الطويل الذي يؤكد أن باتي من كتب ما سنقرأه فإن السرد سيكون في ضمير الغائب، الضمير الذي لا يكتب فرانزين إلا به، وهنا سنكون أمام حكاية باتي، تعرضها للاغتصاب، سؤال والدها المحامي لها أن تنسى أمر محاكمة مغتصبها كونه ابن شخصية هامة في الحزب الديمقراطي، ومن ثم هوسها بالرياضة، اصابة ركبتها التي قضت على أحلامها في كرة السلة، علاقاتها ومن حولها في الجامعة تعرفها على والتر وريتشارد، زواجها من الأول، عشقها الصامت للثاني عازف ومغني الروك، علاقة ريتشارد ووالتر، خيانتها والتر مع ريتشارد وهي تتسرب إلى سريره وتقول له “أنا نائمة نائمة لا توقظني”.
كل ما في “حرية” سيكون مترامياً وتفصيلياً وعلى شيء يستقيم معه وصفها برواية “تولستية” بحق، بينما تحضر المفاصل التاريخية في سياقات الأحداث والشخصيات متصلة بخيط رفيع وخفي: من الريغانية إلى البوشية، ومن أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى حرب العراق، البيئة، الازدواجية، ثقافة I Pod، يهود أميركا، وجوي يتساءل لماذا لم يهاجر اليهود إلى أميركا بدل فلسطين؟ وصديقه يجيبه لأنهم قرروا بعد الهولوكست حماية أنفسهم بأنفسهم! وغيرها من حوارات لا تنتهي لها أن تتوزع تحت مظلة البحث عن معنى الحرية، أو ثقافة “الشيكلس” المنطق الثقافي الوحيد الذي يراه ريتشارد في كل ما حوله.
_____________________________
الصورة من أعمال التشكيلي السوري جوني سمعان
****
خاص بأوكسجين