في المبنى المقابل، كثير من الشرفات، كثير من النوافذ. أنظر طويلاً إليها، أو إليه، إلى المبنى نفسه، وليس إلى شرفة أو نافذة محددة. لا أجيد وصف لون أيّ شيء. أحياناً أتمنى لو كنت روائياً روسياً كلاسيكياً أو شاعراً اسكندنافياً لكي أستطيع تقديم وصف مسهب للون السماء أو البحر أو الهواء مثلاً. لا أستطيع. استنباط لون من تمازج بضعة ألوان أو تدرجات لون محدّد ليس أكثر ما أبرع فيه. ربما لهذا السبب لم أتخذ الرسم هواية يوماً، وربما للسبب نفسه توقفت عن الاستمرار في كتابة الرواية. لعلها قلة الحيلة أو الصبر أو الضجر أو النفور البسيط من الاسترسال المضني في أي شيء، أو كل هذا معاً.
بالنسبة إليّ، الحقيقة التي لا جدال فيها، هي أن هذا المبنى يقع في دائرة نظري كلما نظرت من النافذة، أما لونه، مثلما تفهمه عيناي، فهو مجموعة من الخطوط. أعرف أنها ليست حقيقة علمية مثبتة، لكن اللون يمكن أن يكون شكلاً. تفكر في البالون، مثلاً، فيخطر لك اللون الأحمر. تفكر في اللون الأحمر فيخطر لك الدم أو فستان نسائي مثير أو أفلام ياسوجيرو أوزو. اللون في هذه الحالة أيضاً شكل. خطوط أفقية وخطوط أخرى عمودية، مشطورة إلى خطوط أخرى عمودية وأفقية، ولولا الشرفات الناتئة منها، لحسبتها رسماً بالمسطرة على دفتر هندسي. السماء فوق المبنى، الآن على الأقل، رمادية. رمادية يسطع منها ضوء شمس تحجبها الغيوم. ليس ضوءاً ساطعاً لكنه واضح بما فيه الكفاية. ما اللون الناتج عن سماء رمادية تضيؤها شمس تحجبها الغيوم؟ رمادي باهت؟ رصاصي؟ لا أعرف. لست بارعاً في وصف الألوان. لكنّني متيقن من أن هذا المبنى، هذا البرج بالأحرى، يتكون من ثلاثة ألوان رئيسية. الأخضر الفاتح لدرابزينات الشرفات. الأزرق الغامق لألواح الزجاج (النوافذ؟) والأبيض القشديّ، لكل الكتل الباطونية (الجدران؟) بين النوافذ والشرفات.
النوافذ المتشكلة من الألواح الزجاجية، ربما تكون نوافذ حقاً، وربما تكون شيئاً آخر لا أعرفه. لا أستطيع الحكم من هذه المسافة، حيث لا يمكن أن يظهر شيء خلف الزجاج الأزرق الغامق (الداكن؟). أما الشرفات، المصطفّة بطبيعة الحال فوق بعضها بعض، فمسألة أخرى. لو وقف أحد على أي من تلك الشرفات، الظاهر منها في مرمى بصري على الأقل، فإنني أستطيع رؤيته بوضوح، وأستطيع من ملامحه العامة، أن أعرف إن كان رجلاً أو امرأة أو طفلاً. العمر ولون البشرة، ودرجة القبح أو الجمال، والحالة النفسية لهذا الشخص، سواء أكان فرحاً أو حزيناً، أو بين بين، فهذه أمور لن أستطيع سوى افتراضها مثلما أفترض أحياناً لون السماء، دون أي درجة من الثقة أو اليقين. لكنّ هذه ليست المسألة. ولا المسألة أنني، منذ اتخذت هذا الركن من الغرفة، المطلة نافذته على ذلك المبنى المخطط، مجلساً ثابتاً للعمل والكتابة، لم ألمح أحداً يقف على أيّ من الشرفات الظاهرة أمامي. المسألة أنني، في أغلب الأحيان، ودون أيّ جهد شخصي، ولا أيّ مهلوسات عقلية، ولا أي رغبة حتى، أجد نفسي، من حين لآخر، واقفاً على إحدى تلك الشرفات. ليس مهماً موقع الشرفة، فهو يتغير باستمرار، المهم هو أن الأمر لا يقتصر على التخيّل، بل إنني أصبح فعلاً واقفاً هناك، لأنه أحياناً وبعد فترة من الوقوف على الشرفة دون فعل شيء سوى النظر بلا هدف إلى لا شيء في الهواء أمامي، أشعر بالحاجة إلى الدخول ثانية إلى البيت، وبصرف النظر عن الغرفة التي تؤدي إليها الشرفة، سواء أكانت الصالة أو غرفة النوم أو المطبخ (وهذا احتمال مستبعد)، فإنني أكاد أحسّ بيدي وهي تعاود فتح باب الشرفة، وبقدمي وهما تخطوان إلى الداخل، ثم بيدي وهما تعاودان إقفال الباب. وبعد ذلك لا شيء. بعد ذلك أختفي، كجميع البشر الذين لابدّ أنهم يشغلون تلك الحجرات في الأوقات التي لا أجد نفسي فيها. أختفي داخل حجرة شخص آخر. أختفي بمعنى أنني أتبخّر. بمعنى أنه لا يعود لي وجود. بمعنى أنني لا أعود قادراً على إيجاد طريقي خارج الظلمة التي تكتنفني داخل تلك البقعة المحددة (أو غير المحددة) من الحجرة. وحده الرعب يعيدني من تلك الحجرة، وتلك الشرفة، وذلك البرج، إلى مقعدي، في هذا الركن المحدّد من غرفتي. ولثوان أجد نفسي في حال من الذهول التام، إذ تظلّ هناك أجزاء من نفسي تحتاج إلى أن تجمع نفسها بصلابة داخل جسدي أو عقلي، حتى أعود كاملاً هنا، حتى أستطيع صرف نفسي عن النظر إلى تلك الشرفات، وشغلها بشيء آخر، كالعمل أو القراءة أو الكتابة أو تصفّح الهاتف أو لعب كاندي كراش.
ماذا لو كان المبنى فارغاً بالفعل؟ ماذا لو كانت المدينة برمتها فارغة بالفعل؟
نحن كائنات افتراضية بامتياز. نفترض أن المطر شيء جميل، فنحتفي بالمطر حين تمطر ونشتاق له حين لا تمطر. نفترض أن المطر شيء كئيب، فتحدث العملية نفسها، إنما بالعكس. شخصياً، افترضت مثلاً، منذ فترة ليست قليلة أن الدجاج الذي أتناوله ليس إلا… لن أكمل حتى لا أعدي أحداً بهذه الصورة المقززة. لكن العبرة أنني توقفت نهائياً عن تناول الدجاج، وكل هذا بسبب افتراض لا أعرف كيف استنبطه عقلي فجأة، لكنه صار موجوداً وملموساً ومحسوساً. أي صار للافتراض قوة الحقيقة، وعواقبها أيضاً. ألم نفترض في وقت ما أن الدجاج صالح للأكل، وبدأنا نطور الأمر شيئاً فشيئاً حتى صار كل كائن يطير قابل للأكل، بما في ذلك الخفافيش؛ أتساءل أحياناً، وقبل النصوص الدينية التي تحدّد ما يؤكل وما لا يؤكل، أترانا حكمنا معياراً ذوقياً منحرفاً بطبيعة الحال، حول ما يجب أن يدخل إلى معدتنا، وما لا نسمح له بذلك. مثلاً الدجاج ظريف، وكذلك الماعز والخرفان والأبقار والبط والإوز والعصافير والأسماك (معظمها على الأقل).. تؤكل إذن.. أما الخفافيش والجرذان والسناجب والسحالي ومعظم الحشرات، فهي بشعة دميمة.. لا تؤكل إذن. لكن ماذا بخصوص القطط والكلاب؟ لماذا قرر بعضنا أنها لا تأكل، وقرر بعضنا الآخر أنها تؤكل؟ لابدّ أنه اختلاف الثقافات الذوقية، فما نجده في شطر من العالم قبيحاً منفراً يجده غيرنا في شطر آخر مليحاً ظريفاً شهياً. الخلاصة أن المسألة كلها تبدأ من افتراض؛ افتراض قابل لأن يصدّق ويغدو حقيقة، وافتراض آخر لا يصدّق فيدخل عالم الأكاذيب والخيالات.
قبل بضعة أيام أفقت من النوم، مع إحساس عميق، بأن كل ما جرى حتى الآن (كورونا، العزل، الموتى، الخوف.. إلخ) كله كان مجرد كابوس وقد صحوت أخيراً منه. كنت أظن أن هذه الأمور لا تحدث إلا في الأفلام، لأنني لم أرها سابقاً إلا في الأفلام. يصحو “البطل” فيكتشف أن زوجته التي قُتلت في انفجار مروّع، في كابوسه المروّع، قبل ثوان فحسب، تنام بهناءة بجواره، فيدرك أن كل ما عاشه في ذلك المنام ليس حقيقياً وأنه عاد أخيراً إلى أرض الواقع. نهضت من السرير واتجهت إلى الشرفة ونظرت إلى الشارع، وللمفارقة وجدت بضعة أشخاص يمشون في الشارع، وسمعت أصوات مطارق العمال في المبنى الذي يستكمل بناؤه على بعد مئات الأمتار من مبنانا. وأذكر أنني، لوهلة، حدثت نفسي، بشيء من السعادة الحذرة: هل يعقل أنني كنت أحلم؟ لكنني لم أكن أحلم. كان افتراضاً رائعاً، لكن للأسف لم تكتب له الحياة، ولم يستثمر فيه ما يكفي من التفكير، أو الوهم، ليصبح حقيقة.
كثير من الروايات (لا حاجة للتذكير بكافكا ولا بأورويل) أو الأفلام (لا داعي للتذكير بهيتشكوك أو داوود عبد السيد) تبدأ بفرضية ما. نشأة الكون نفسه، وتطوره، وفناؤه الافتراضي أيضاً، حافلة بالفرضيات. ربما لهذا السبب اخترعنا السرد، ولاسيما السرد المتخيل، بمختلف أشكاله وأنواعه. لا لنفهم الواقع أكثر، مثلما يرى بعضهم، بل لنبتعد قدر الإمكان عن الواقع. لنقيم حاجزاً بين الحقيقي والمتخيّل، المفترض والموجود بالفعل؛ حاجز يقينا الجنون أو الارتياب المطلق الناجم عن عيشنا في دوامة لا تنتهي من الافتراضات. لهذا السبب ايضاً اخترعنا الأساطير والآلهة الأسطورية والكائنات الخرافية. ولهذا السبب اخترعنا الأسباب نفسها. هناك أدبيّات كاملة حول الأسباب. ولو وضعنا في غوغل كلمة “لماذا” أو “كيف” فقط، لحصلنا على ملايين، إن لم يكن مليارات النتائج. لكن، ورغم هذه الآلة المخيفة والرائعة من الأسباب، التي يوفرها غوغل، فهناك أسباب بسيطة لا أحسب أنها نالت حقها من البحث والتفكير. لماذا، مثلاً، تظهر فجأة ذبابة في غرفة الجلوس؟ لأنها جاءت من الشارع. لماذا جاءت من الشارع؟ لأنها كانت تحوم في الجو أو بجوار مكب النفايات، ووجدت شرفة أو نافذة مفتوحة، فدخلت. لماذا اختارت هذه الذبابة أن تحوم حولي، ثم أن تدغدغ ساقي من وقت لآخر ثم أن تهرب قبل أن يتسنى لي قتلها بضربة من يدي؟ سؤال يتضمن العديد من الاحتمالات. أولاً، لأنك في الغرفة، لأنه ليس من شخص آخر في الغرفة، لأنك حين شعرت بوجود الذبابة، قمت بقفل النافذة أو باب الشرفة (حتى لا تدخل ذبابة أخرى) فلم تعد الذبابة قادرة على الخروج، ممكن لأنها جائعة مع أنه من غير الواضح أي غذاء تتوخى الحصول عليه من ساقيك… الاحتمالات لا تنتهي، لكنها جميعها تفضي إلى سؤال واحد: لماذا الذبابة؟ أنا متأكد أنه لو كتب أحدهم “لماذا الذبابة؟” على غوغل فسيحصل على ملايين النتائج، لكن جميع هذه النتائج لن يجيب عن السؤال الحقيقي حول السبب الحقيقي للذباب في هذا العالم، ولن يجيب عن سؤال آخر أكثر تعقيداً، لماذا هذه الذبابة المحددة، في هذا الوقت المحدد، في هذه الحجرة المحددة، تحوم حول هذا الرجل المحدد؟ ليس من غوغل لهذا النوع من الأسئلة. ليس من غوغل، حتى الآن على الأقل، يمكن أن يجيب عن السؤال: لماذا كورونا في هذا الوقت بالتحديد؟ هناك آلاف الاحتمالات والأسئلة والأجوبة الأخرى. هل جاء كورونا من الخفافيش، من الكلاب، من الحشرات، من المختبر؟ هل ينتقل كورونا في الهواء؟ عبر التكييف؟ من التنفس؟ من الكلام؟ من ممارسة الجنس؟ من مجرد التفكير به؟ أسئلة لا تنتهي، تجعل كورونا ينتقل في وقت قياسي، من مجرد افتراض مجنون، أو فكرة متخيلة، إلى واقع ملموس.
هل هناك مدينة في الخارج؟
أشاهد وثائقياً بريطانياً عن شمال إيطاليا التي ضربتها الجائحة بقسوة غير مسبوقة. المراسل يمشي في زقاق قديم رائع. يقول: هذا الزقاق فارغ تماماً كما ترون، لكن وراء هذه الجدران ثمة بشر، لكننا لا نراهم فحسب. أقف على الشرفة كل يوم، قبيل سريان حظر التجول، وأرى سيدة آسيوية تجرّ طفلها بعربة تدور بها حول ملعب الكرة. يخال إليّ أنها، في رأسها، اعتمدت خطّة ما للمشي تقضي ضمن أهدافها، بوضع حدود معينة، وحدها قادرة على فهمها، لرحلتها اليومية في الشارع. لكنها توظب على المشي يومياً، هذا ما أعرفه معرفة اليقين. ماذا يحدث قبل هذه الرحلة وبعدها، لا أعرفه. الخطوط الافتراضية التي ترسمها السيدة بعربة طفلها، قد تكون طريقة ما لحماية نفسها وطفلها من الهجوم غير المتوقع للفيروس. لقد أعاد لنا كورونا غريزة كنا قد نسيناها منذ عصور ما قبل تاريخية، وهي غريزة تحديد الأمكنة، ربما ليس للاستحواذ عليها مثلما كنا نفعل في السابق، بل ببساطة لحماية أنفسنا مما هو غير متوقع، لأن ما حدث بالضبط هو غير المتوقع، وما نواجهه الآن هو المجهول الناتج عن غير المتوقع. كلاهما، أي اللامتوقع والمجهول، ضربان من التدرجات اللونية لليأس، يصعب أيضاً وصفهما. في المخزن التمويني، رأسي يعمل كآلة حاسبة في رأس عالم رياضيات. أحسب الاحتمالات، وأحدد الاحتياجات بناء عليها. كم كيلوغرام من الأرز، من الطحين، كم علبة فول وسردين وتونة.. إلخ. لكن بجانب هذا الرأس، ثمة رأس آخر يحسب طوال الوقت المسافة من الآخرين، محاولاً باستمرار رسم تلك الحدود المتغيرة دوماً لحيزي المكاني الخاص، ذلك الحيز الذي سأكون آمناً فيه من أولئك الموبوئين (افتراضياً) من حولي. في أفلام الزومبيز، يكفي أن يعضك الزومبي في أي مكان من جسدك، وخصوصاً رقبتك، ولو عضة بسيطة، حتى تنتقل إليك العدوى وتغدو وحشاً غير فان يهيم في الأرض بحثاً عن رقبة يعضها. لو أن كاميرا سرية، التقطت مشهدنا، نحن المتسوقون في المخزن التمويني، من الأعلى، لرأت منظراً مشابهاً لمنظر الزومبيز وهم يمشون، وفي رأس كل واحد منهم، جي بي إس خاص به، يجعله يبتعد عن الزومبيز الآخرين، ويتجه نحو شيء آخر غامض هو نفسه لا يعرفه.
بالعودة إلى المدينة، وإلى السيدة الآسيوية التي تجرّ العربة. كان يمكن لمنظرها الموصوف أعلاه، أن يكون عادياً في أيّ زمن آخر. أما الآن فليس إلا شاهداً وتذكاراً على غياب المدينة. ذلك الكليشيه القديم، “جنة دون أناس، لا تداس”، ينطبق تماماً على هذه الحالة. مدينة بلا أناس ليست مدينة. هي مجرد خطوط ورسوم هندسية ومخططات على دفتر. نستطيع أن نفترض وجود أناس خلف الجدران، وهم موجودون فعلاً، لكننا نستطيع أيضاً، خصوصاً في لحظات اليأس التام، أو الإحساس بأننا داخل دوامة لا تنتهي، أن نفترض عدم وجودهم. لا فرق. من مسافة كافية قد تتمكن من رؤية المخرج من الدوامة، أما وأنت في داخلها، فلا يمكنك سوى أن تواصل الدوران إلى ما لا نهاية.
الجميع منكبّون هذه الأيام على التواصل مع بعضهم بعض. الخوف على الأرجح يدفعنا إلى ذلك، لكن وفي خضم تواصلنا المحموم، وتنقلنا من محادثة فيديو إلى أخرى، لا أستطيع تجاهل الإحساس الكامن بعدم التصديق. ربما تكون هذه أكبر حالة عدم تصديق جماعي. لا أحد في الحقيقة يصدّق ما يجري، ولا ما سيجري. ما زلنا في مرحلة الصدمة. أولئك منا الذين يصدقون حقاً هم الذين سبقونا إلى الكوابيس والانهيارات العصبية. البقية يدافعون عن وجودهم، وعن تماسكهم العقلي، بعدم التصديق. إنها لعبة تواطأنا جميعاً على لعبها، حتى يأتي فجأة خبر يقول لنا إن الأمر انتهى، فجأة مثلما بدأ. حالة عدم التصديق هذه هي خطوط أخرى نضع بها حدوداً وهمية أخرى، ونستعين بها على سيولة كل شيء من حولنا. لكنّ الموتى يذكروننا دوماً بأن الأمر حقيقيّ، ولذلك ربما يختار معظمنا، في هذه المرحلة، ألا يصدّق تماماً عداد الموتى هذا الذي لا يتوقف. التفجع والحزن الحقيقيان لهما وقت لاحق، أما الآن فالوقت الحقيقي هو للنجاة، وما الأفضل من عدم تصديق وجود الخطر للنجاة منه، لأننا لو صدقنا فعلاً، لو أننا تخلينا عن كل الألاعيب الذهنية وغير الذهنية التي نحاول من خلالها السيطرة على الأمور، فإننا سنستسلم للحقيقة التي نرويها الآن مزاحاً، وهي أن العالم الذي نعرفه، الذي كنا نعرفه، لم يعد هو نفسه، وأن عالماً آخر، أو ربما لا عالم، يتشكل الآن أمام عيوننا. وهذا ليس مرعباً فحسب، بل هو التجسيد الحقيقي، لكلمة أخرى نرددها مزاحاً أغلب الأوقات، وهي الفناء، ولا أحد يحب فكرة الفناء خصوصاً في خضم انشغاله بحساب ما نقص من مؤونة البيت، وما الذي نحتاج إليه للاستمرار أسبوعاً، شهراً، آخر.
أنكبّ في الأثناء على “البازل”، هوايتي البيتية المفضلة وإحدى سبل النجاة التي أستعين بها. كل قطعة أضعها في مكانها الصحيح، تحدث في قلبي نقرة من نقرات المسرة العابرة. أعمل على أحجية من ألف قطعة للوحة فان غوغ “ليلة مقمرة”. أضطر إلى التعامل مع الألوان، إلى التدرجات والفروقات البسيطة داخل الأصفر. دون هذه الفروقات سيكون مستحيلاً إنهاء الأحجية. فان غوغ رسم لوحته هذه، وعشرين لوحة أخرى، من نافذة غرفة نومه في المصحة النفسية. النجمة المشعة التي تظهر في اللوحة، والنجوم الأخرى الأقل سطوعاً، حقيقية على الأرجح، كذلك الشجرة والسفوح الجبلية. سيبقى لغزاً لماذا قرر فان غوغ إضافة قرية إلى اللوحة. قرية جميلة دافئة تحتضنها الجبال ويغمرها ضوء النجوم، جميع بيوتها نائمة، باستثناء بيوت قليلة تشع من نوافذها أضواء المصابيح. ربما أحسّ فان غوغ بالوحشة فقرر إضافة هذه القرية. ربما كان يريد أن يتخيل نفسه خلف أحد تلك النوافذ المضيئة المقطونة بالبشر، بدلاً من نافذة غرفته الموحشة في المصحة. أتشوق لإنجاز هذه اللوحة حتى أنتقل إلى تركيب أحجية ميدان “تايمز سكوير” في نيويورك. على عكس قرية فان غوغ، فإن الميدان، مثلما تشير الصورة، يضج بالحركة والألوان والسيارات ولافتات النيون والبشر، على عكس صورة الميدان اليوم خلال فترة العزل، حيث بدأ بعض الفنانين، من رسامين ومصورين فوتوغرافيين، يوثقون هذه المرحلة الكئيبة التي ما كانت لتخطر بالبال، من حياة الميدان. أحجية “الموناليزا” التي أنهيتها خلال الأسبوعين الأولين من العزل، معلقة الآن في الصالة، وبعد أسبوعين أو أكثر بقليل، ستوجه نظراتها الحائرة إلى سماء فان غوغ الحاشدة بالنجوم، وصورة “تايمز سكوير” المليئة بالحياة.
*****
خاص بأوكسجين