تقديم اضطراري:
ترجمت هذا المقال عام 2004 وكنت عاكفاً حينها على قراءة كل منتج نايبول ورواياته وفي صدد أن أعدّ كتاباً أو بحثاً أو لا أعرف ماذا، بما يضعه في مقارنة مع إدوارد سعيد نقيضه التام، وكان أصدقائي الهنود يزعجهم أنني قارئ نهم لنايبول وكنت أتفهم جيداً كيف هو بالنسبة إليهم وأنا أتبين هذا “المسخ الكولونيالي” وأضعه في سياق مجاور لسعيد، وما إلى هنالك. الآن أتذكر مقاطع كثيرة من رواياته، وهو بلا أدنى شك روائي عظيم رغم كل التفاهات العنصرية التي رددها مراراً وتكراراً، حسبه أن كتب رواية مثل “بيت للسيد بيسواس” أو “لغز الوصول” وغيرهما، هو الذي فارق هذه الحياة في شهر آب الماضي.
تقديم فقط لا غير:
لن يكون عليكم إلا اعتبارها مقاربةً أو عينةً من تلك الإشكالية التاريخية المحتدمة والمستعرة بين عالمين يتخذ منهما الكاتب الإنكليزي – الترينيدادي الأصل السير ف. س. نايبول محور أدبه، لتتحول هذه المقالة إلى إضاءةٍ متمثلة بشخصه كاتباً وموقفاً للهوة السحيقة بين هذين العالمين، هوة قد تكون وهمية يحرص نايبول على تأكيدها وتعميقها.
عالم يمتدحه، ويمنحه كل جائزة رفيعة، ابتداءً بجائزة بوكر عام 1971، مروراً بجائزة ت. س. إليوت وجائزة بينيت ولقب الفروسية من ملكة بريطانيا، وصولاً إلى جائزة نوبل 2001، باعتباره “ألمع مفسري العالم الثالث لقراء الإنكليزية، وربما في أي لغةٍ أخرى” حسب مجلة “نيويوركر” الأمريكية، و” الكاتب الأكثر موهبةً، والأكثر صدقاً، والأكثر شرفاً بين أبناء جيله” كما يصفه جوزيف ابشتين.*
وعالم ثالث من الآسيويين والعرب والأفارقة والكاريبيين يقف على النقيض من العالم الأول ليكون نايبول “الخادم الخسيس للاستعمار الجديد” حسب هـ. ب. سبنغ و”المستعبد الشاطر للأساطير المريحة التي تستهوي العنصرية البيضاء” حسب شينو اتشيبي والكاتب الذي “كانت كراهيته للإسلام قد دفعته إلى التوقف عن التفكير، فأصبح عوضاً عن ذلك حالة انتحار ذهني تجبره على تكرار الصيغة ذاتها مرة بعد أخرى، وهذا ما أسميه مصيبة فكرية من الدرجة الأولى” حسب إدوارد سعيد.
وكما بدأت أنهي تقديمي الموجز هذا مؤكداً على أن مقالة نايبول التي أضعها بين أيديكم هي نوع من مقاربة لما يسمى أدب رحلاته بقدر ما يمكن اعتبارها كذلك، إذ يمكن نفي تلك الصفة عنها إن أخذ بعين الاعتبار تطويعه للمشاهد والشخوص لتكون حاملاً لأفكاره المسبقة التي “لا ترى في العالم الثالث إلا صوراً زائفة للعالم الأول”** كما يصفها إدوارد سعيد.
________________________________________
– لم يكن سحر المساحات الشاسعة والجبال الشاهقة والأنهار اللامتناهية والساعات الأربع والعشرين التي قد يتاح لي تمضيتها في جوف قطار إلا من تلك المسرات التي يهبني إياها العالم، أنا القادم من ترينيداد التي لا تتجاوز مساحتها مساحة جزيرة جوا. لكن ستة أشهر في الهند كانت كفيلة بتبديد ذلك السحر ليتحول إلى عبء مؤرق، ذلك أن المساحات المترامية هناك فاقت كل خيال، والسماء الشاسعة ومشهد الغروب كانا أكثر من أن تلتقطهما بنظرةٍ أو إطلالة، لا بل كان عليَّ تقسيم السماء إلى مربعات والتعامل معها على دفعات، هذا عدا رتابة المشاهد بمساحاتها، والمهيبة ببساطتها المفرطة، والمنهكة على طريقتها الخاصة: محاصيل فقيرة تحت رحمة البشر والحيوانات وانتشار المدن والقرى، والتي بانتشارها كانت تحمل رائحة نتانة مطبقة.
اليوم في أعقاب يوم آخر، من دون أن أميز قطاراً عن آخر، الوجهة مواراة بمكر، الإنطلاق من … الوصول إلى، حيرة وارتباك يمازجهما الازدحام والصخب؛ والرحلة مستمرة، إلى أن توقفت المساحات عن الإيحاء بشيء، وصارت لا تطاق، وتمنيت النجاة من هذا التكرار الممض للفراغ المتحلل.
من البديهي أن أعرب عن ذلك. فالبداهة في الهند شيء يستحوذ عليك لدرجة أوصلتني حافة الهستيريا في أثناء الأشهر الستة التي أمضيتها هناك، لتطالني وتتسرب إليّ في غرفة انتظار مسافري الدرجة الأولى أو النوم في عربة قطار تنقصها الخصوصية والراحة والأمان، محاولاً الابتعاد عن مشهد الأجساد النحيلة المسجاة على أرصفة محطة القطار، والكلاب الشاردة التي تلعق وتنظف أغلفة الأطعمة الخالية من أي أثر لطعام أو ما شابه، ونباح تلك الكلاب الجريحة. تعرفت على هكذا لحظات مع وصولي إلى بومباي، وأحسست أن الهند إهانة للحواس. تلك المشاعر عاودتني مجدداً بعد خمسة أشهر في جامو، حيث جغرافية البلد البسيطة والمرعبة أمست بلا معالم – شمالاً تترامى التلال وصولاً إلى المدى؛ جنوباً، من خلف أبراج المعابد تغدو الأرض منبسطة بذلك الانبساط الشاسع الممتهن، المثير للقلق فقط.
تخلل هذه المشاعر مشاعر أخرى، استبدلت الحماسة والمسرة بالخوف والضيق متى بدت المدن تنفجر مترامية بأكثر مما يحيطه الناظر من نافذة القطار، وأن الهواء مشبعٌ فقط برائحة الإنهاك، وأن ذلك ملتصق بالهند أكثر، من أي بلد آخر زرته، فكل شيء قابل للحدوث هنا. طرقات المطارق على المعادن في البنجاب، معمل المواد الكيماوية في حيدر آباد الذي صممته وأنجزته آيادٍ هندية، ليعتريك الشعور بأنك في صدد التعرف على ثورة صناعية، والذي سرعان ما تكذبه أمام رداءة الترويج لذلك. ومن ثم تعود إلى ذلك الشعور أمام التجمعات السكنية الجديدة، بعيداً عن مقولات مثل الثقافة الهندية الموغلة قدماً وانبعاث الحس الجمالي الهندي القادر على تحويل المواد العالمية إلى شيء يحمل خصوصية الهند (الثقافة الهندية العريقة، البراعة الجسورة، أنجزت فندق أشوكا في نيودلهي باعتباره أكثر الأبنية تفاهة، والذي لا يضاهيه تفاهة سوى مبنى المفوضية الباكستانية المتجاسر لترسيخ هذا الاعتقاد).
قمت بزيارة القرى النائية، نصف المتطورة والبدائية منها. الأمكنة التي ولدت اليأس في داخلي، والذي أشعر به الآن كامناً في المراقب أكثر منه في الناس. تعلمت أن أتبين علائم التحسن والأمل من هجوع وقذارة الأجساد على الأسرة المعلقة – مهما بدا ذلك مضللاً- من القرميد القذر؛ من محاصيل الأرز الممتدة إلى ما لا نهاية؛ من علامات الراحة على وجوه القرويين أو الزوار. دقائق الأمور هذه التي تعلمت أن ألاحظها بالعين التي تتحرى.
بقيت البداهة منهكة. رهبة بعض المقاطعات استحالت إلى شيء عادي، إيذاناً بالرحيل إلى مناطق شاسعة أخرى من الصعب أن تألفها: والشعور بضرورة النجاة سرعان ما يطفو.
وهكذا فإن المساحات الشاسعة ومن عدة جوانب تشكل حقيقة حسية، وربما بسببٍ من هذه المساحات تعتبر الشخصية الهندية التصنيف مطلباً كردٍ على الإذعان للتشابه وللتقليل من أهميته.
“من أين أنت” السؤال الهندي التقليدي، والموجه لمعرفة القرية، المقاطعة، الإقليم، الطائفة، الطبقة. وجوابي غير المتوقع كان “أنا من ترينيداد”.
“لكنك تبدو هندياً”
“حسناً، أنا هندي، لكننا عشنا لأجيال متعاقبة في ترينيداد”
“لكنك تشبه الهنود”
لثلاث أو أربع مرات يصادفك هذا السؤال، وأحرص الآن على تجاهل التوضيح بالقول “أنا مكسيكي”
“ها” حالة من الرضى. يتوقف للحظات. “ماذا تعمل”
“أكتب”
“ما المواضيع التي تتناولها، وسترن، جرائم، رومانس؟ ما عدد الكتب التي ألفتها؟ ما الأرباح التي تجنيها؟”
لفقت الآن بأني مدرس
“ما هي مؤهلاتك”
“بكالوريس في الآداب والفنون”
“بكالوريس في الآداب والفنون فقط، ما الذي تدرسه؟”
“الكيمياء، والبعض من التاريخ”
“جميل”، “أنا أيضاً مدرس كيمياء” يخبرني الرجل الذي يرافقني في باص باثنكوت – سرينغار، ويجلس بموازاتي، لا يفصل بيننا سوى ممر الباص، وقد بقي الكثير من الساعات لانقضاء الرحلة.
في الأراضي الشاسعة والمترامية الأطراف للهند من الضروري أن تفصح عن نفسك، أن تعرّف وظيفتك على سطح هذا الكوكب، يا لصعوبة ذلك!
إن كانت أفكاري تتخذ من العرق والمجتمع بنيتها، فإن تجربتي في الهند كانت كفيلة بتبديد تلك الأفكار، فأنا كهندي، لم أكن يوماً في شوارع جميع من فيها هنود، حيث ذبت بين هذه الحشود دون أدنى انتباهٍ من أحد.
عشت طوال حياتي في إحساس بالتميز، إلى أن وصل ذلك الاحساس ذروته في الهند، مع إدراك عارم بأهميته في مجتمع متعدد الأعراق كترينيداد ومن ثم في بريطانيا. فلطالما كان انتمائي للأقلية آسراً. أن تكون واحداً من أربعمائة وتسعة وثلاثين مليون هندي شيء مريع.
المُسْتَعْمَر سواءً كان ممن يحمل مشاعر سكان المستعمرات أو مشاعر من اقتلع من الحواضر، وسواءً كانت هذه الحاضرة في الهند أو بريطانيا، فقد جئت الهند وكلي أمل بانها التربة الصالحة للأراء الحضرية. تخيلت بأن مساحة الأرض الشاسعة ستنعكس على مواقف الناس. لكنني وجدت، ما أسميته، سيكولوجيا الزنزانة والخلية. وأدهشني التشابه. فكما ترينيداد الصغيرة، كذلك كانت الهند، وأحسست بأن الحاضرة توجد في مكانٍ آخر، في أوروبا أو أمريكا. وكل ما توقعته شاسعاً، واثقاً، أصيلاً، وجدته غارقاً في سلوك مُسْتَعْمَر يعزز انعدام الثقة بالنفس.
“مهووسة أنا بكل شيء أجنبي” تخبرني زوجة أحد المقاولين الناجحين. وهذا الهوس يمتد ليشمل إضافةً للوجبات والأطعمة، المرحاض الألماني الخاص بزوجة ابنها الأوروبية المستقبلية، والذي بدوره أي ابنها لم يتوان عن التباهي على وليمة العشاء “أوه، بالمناسبة، “هل أخبرتكم بأننا أنفقنا ثلاثة آلاف روبية في شهر واحد”.
“أنت سائح لا تعرف حقيقة الأمور” قال لي مدرس الكيمياء في باص سيرنيغار “إنه بلد مريع. امنحي أية فرصة في بلد آخر، وسأتركه في الحال”
تحرص طبقة معينة من الهنود أكثر غنىً من غيرها على توضيح مسألة بغاية الأهمية بالنسبة لها لكل زائر يصادفونه، ألا وهي نفي انتمائهم إلى الهند الفقيرة القذرة، ذلك أن قيمهم ومعاييرهم أسمى، وأنهم يعيشون حانقين على البلد الذي يعتاشون من خيراته. فاعتقادهم الراسخ يتجسد بتفضيلهم لكل ما هو أجنبي سواءً البشر أو الصناعات أو المنتجات ذات النخب الثاني عن كل ما هو هندي. كما أنهم يعتبرون الهند بلداً يستثمرونه مؤقتاً مثلهم مثل التقني الأوروبي. يا للغرابة يا لغرابة أن تجد في الهند الحرة مثل هذا الموقف من المستعمر، أن تجد هكذا سلوك انتهازي – سلوك مسعور، كما لو أن فرصهم قد تزول في أي لحظة – لدى هؤلاء الذين وفر لهم المجتمع المتطور العديد من الفرص.
كما في ترينيداد ولد هذا السلوك الانتهازي المرتبط تاريخياً بالمجتمعات المستعمرة ما يسمى سطحية التنصل المثيرة للشفقة renoncant (الكلمة الفرنسية المثالية لتوصيف المواطن الذي يتبرأ من ثقافته ويخطو باتجاه الثقافة الفرنسية). وفي الهند امتزجت هذه السطحية مع كل ما هو سوقي في الشرق والغرب – المراقص الكئيبة، الملاهي الأوروبية، واستقرار الراديو لدى الجميع على محطة سيلان، والدون جوانيه بمعاطف الجلد وبدلات التويد- والتي كانت مظهراً مريعاً بحق. فتنة خاصة رافقت هذه السطحية، كتلك التي تعتري الهنود عندما يعيشون لسنتين أو ثلاث في بلد أجنبي ليجاهروا بعد ذلك بأنهم لا ينتمون لا للغرب ولا للشرق.
يجب الاعتراف بذلك، نادراً ما يلمّ المراقب بمصاعب الحياة. زوجة المقاول تخشى الإقرار دائماً بغربيتها، وتواظب على استشارة منجّمها وزيارتها اليومية للمعبد للاطمئنان على حسن طالعها. المدرس المتشكي من سذاجة وفوضى الهنود لم يتوانَ عن تبديل ملابسه لدى وصولنا إلى سيرينغار وعلى مرأى الجميع.
وهكذا فإن الترينيدادي، مهما كان عرقه، فإنه يحمل صفات المسْتَعْمَر الحقيقي. الهندي، مهما كان ادعاؤه، فإن جذوره ضاربة في الهند. لكن بينما الترينيدادي، مُسْتَعْمَر يخطو باتجاه الحاضرة، فإن الهندي اعتماداً على من أوردتهم، “حاضري” بناءً على فضيلة خصوصية بلده، ومآثرها الماضية، وإنجازاتها في مجالات متعددة في العقود الأخيرة، يخطو باتجاه أن يكون مُسْتَعْمَراً.
ستجد هناك بدل الإباء روح الاستلاب، والتي كنت تحسبها حاضرة لن تكون سوى مستعمرة ليس إلا، وحيث الاتساع والمساحات الشاسعة يكمن الضيق. جوا التي بالكاد نالت استقلالها استحالت إلى حالة من توتر موارب لا يليق بمن نال استقلاله. خمسة عشر عاماً استبدل خلالها السياسي كزعيم وطني بالسياسي بوصفه مختار قرية (النمط الذي كنت اعتبره متمثلاً على نحوٍ خاص في المجتمع الهندي الاستعماري في ترينيداد، حيث السياسات لعبة تشبه عقود دائرة شؤون العمل) هند مختار القرية هي فقط عبارة عن تعددية القرى وتنوعها. وهكذا فإن الرؤية الخاصة بالهند باعتبارها بلداً عظيماً بدت كافتراض لا أساس له، وأن المساحات الشاسعة لهذا البلد صارت إلى خداع لا مثيل له.
يبقى لدينا مفهوم الهند – بوصفها ماذا؟ شيء يتخطى الطبقة الوسطى المدنية، السياسيين، الصناعيين، القرى المتناثرة. ليست بهذه أو تلك، وقد تردد على مسامعنا توصيف الهند بالحقيقية “الهند الحقيقية”. كم هو رائع معرفة السبب الذي يدفعهم لاستعمال هذا التوصيف! ربما لأن الهند ليست سوى كلمة، أو مجرد فكرة صوفية تتماهى مع كل الأنهار اللامتناهية والسهول الشاسعة التي يعبرها القطار، كل تلك الأشكال النائمة على رصف محطات القطار وأعتاب بومباي، كل تلك الحقول المجدبة والحيوانات المتفسخة، كل تلك الأرض المنهكة والمستلبة. ربما هي كذلك، مساحات شاسعة لن يدركها أحد: الهند بوصفها ألماً ووجعاً لكل من كان مرهفاً حساساً، والتي بامتدادها يتمنى المرء أن ينأى عنها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المقال من كتاب “الكاتب والعالم” THE WRITER AND THE WORLD الصادر عام 2002 والذي يجمع بين دفتيه مقالات (رحلات) الكاتب بين عامي 1962 – 1992. كتب مقال “عند منتصف الرحلة” عام 1962
* مجلة الكرمل: صيف 2001، صبحي حديدي، نايبول: سولجنتسين العالم الثالث.
** إدوارد سعيد: تأملات حول المنفى1، ترجمة ثائر ديب، دار الآداب، بيروت 2004.
*****
خاص بأوكسجين