عندما تبكي المرايا
العدد 156 | 16 تموز 2014
محمد السقاف


أجلس إلى طاولة شبه مستديرة ذات قامة متوسطة مزروعة في إحدى حجرات مقهى تعيس، أمامي مقعد فارغ وأكوب فارغة ورؤوس مستديرة تبدو للناظر من بعيد كأنها من وطأة الزمن  وأثقال الحياة أيضا فارغة.

في هذا المقهى يأتون لك بلحظات فارغة ويقدمون إلى جانبها مشروبات تتسلى بدرجة حرارتها في الغالب نرجسية الشمس والأطوار العجيبة للفصول.

عند إشرافك على مدخل هذه الحجرة تجد في بعض الأحيان سقفاً وجداراً وبينهما تلال وبحار ووجوه ومدن وعنب لا يشتهيه أحد ولا يفكر فيه أحد، وتحته بالتمام يعبر بشكل دائم حزام فاخر من الزخارف والنقوش، يزحف على محيط الجدران صعوداً ونزولاً ومن جنب إلى جنب وينساق في غاية الرقة متحاشياً اجتياز براويز اللوحات الفنية المبعثرة على الحائط، ويمر أيضا بمحاذاة شابة في أولى عذابات العمر تقرفص في هيئة غير مستوية موجهة ركبتيها صوب اللوحة المجاورة تماماً للتي تقطنها والتي زرع الزارعون فيها عنباً أسود وحشائش ضارة وسماءً –للأسف وللأسف جداً-  مكفهّرة.

الفتاة هذه رغم أنها من بنات الخيال إلا أنها ليست حلوة للأمانة ولا تشبه “الموناليزا” من كل الجهات لا من قريب ولا من بعيد، فضلا أن الموناليزا عيناها قريرتان وابتسامتها غامضة وسرمدية، أما هذه الفتاة الأسيرة بين الأخشاب فإن الشحوب فاقع في عينيها الذابلتين ربما – وهذا مجرد تخمين – من أرق أصابها ليلة البارحة وربما  أيضاً من التوتر النفسي جراء انتظار زبونة حسناء تقعد كل يوم قبالتي إلى هذه المنضدة بالذات والتي حتى الآن لم تصل بعد.

 يا الله! زبونةٌ يسطع من بلورتي عينيها سحر عجيب، يتسرب بمنتهى السكينة إلى أوعية القلب مباشرة.  تأخرت هذه الزبونة كثيراً على غرار العادة هذا اليوم ولا تدري ما السبب؟!، وتتمنى في صمتها أن تذبح ذاك الصمت في حضرتها حتى تلعن هذا الإهمال في المواعيد وكي تحضها على التخلي عن هوايتها المحببة في التأخر كل يوم، تتمنى فقط لو تتحلى ببعض الشجاعة  لتحكي لها كيف أن اللحظات هاهنا في غيابها لا تطاق.

كلما ينط بصري إلى الفتاة المعلقة في الجدار أحزن لأجلها، أتأسف على حالها من الأعماق، أشعر أنها على غلوها في الصمت ترصد حركاتي وتتابعني بدأب طيلة الساعات المديدة التي أنزفها هنا، أشعر أيضاً أنها تنطوي على أمر لم أفهمه كما ينبغي طيلة اعتكافي في هذا المقهى  وبأن ذلك الترصد البصري ليس إلا محاولة جريئة للإيقاع بي في شباكها حتى تنفرد بي شخصياً وتلقنني إياه على انفراد.

 الحق أن الفتاة هذه -لأنها عادية الجمال- لا يغازلها أحد، ولا يكترث لها – مهما نمقت ضفيرتها ومهما ترنحت في جلستها – أحد. كانت كل يوم توزع النظرات بيني وبين الحسناء التي تأخرت كثيراً اليوم على غير العادة، وكنا ثلاثتنا أنا وفتاتي المتأخرة والفتاة  المتجهمة نتبادل كثيراً من الصمت وكثيراً من النظرات الحائرات