عندما أغمضت عينيّ هبَّتْ نحوي رائحة رياح؛ رياح أيار المنتفخة مثل ثمرة بقشرةٍ خارجيّةٍ قاسيّة، ولبٍ لزجٍ مع العديد من البذورِ. انفتحَ اللبُّ في الهواء ناثراً البذور مثل طلقاتٍ ناريّة على أديمِ ذراعَيَّ العاريين، وتركتْ وراءها أثراً مؤلماً خفيفاً.
” كم الساعة؟” سألني نسيبي، وهو أقصر مني بثمانية إنشاتٍ، وينبغي عليهِ النَّظر إلى الأعلى عندما يتكلم.
حدَّقت في ساعتي “العاشرة والثلث.”
” هل السَّاعة تشير إلى الوقت الصّحيح.”
” أجل، على ما أعتقد.”
أمسك نسيبي بمعصمي لينظر إلى السَّاعة. كانت أصابعه النّحيلة والرّقيقة قويّة بشكلٍ مفاجئ. “هل كلفتك الكثير؟”
“لا، إنّها رخيصةٌ حقَّاً.” قلت وأنا أتطلَّع إلى جدول المواعيد.
لا جواب.
بدا نسيبي محتاراً. ظهرت أسنانه البيضاء من بين شفتيه المفترَّتين كالعظام الضَّامرة.
“إنها رخيصة حقَّاً،” قلت وأنا أنظر إليه معيداً الكلمات بحذرٍ. ” إنها رخيصة، ولكنها تخبر عن الوقت بشكل جيد.”
أومأ نسيبي برأسه صامتاً.
نسيبي لا يسمع بشكلٍ جيدٍ بأذنه اليمنى فبعد دخوله المدرسة الابتدائية بفترة وجيزة، ضربتهُ كرة بيسبول وعطبت سَمعه. لكن هذا لم يمنعهُ من العمل بشكلٍ طبيعي معظم الوقت. وهو يذهب إلى مدرسةٍ عاديةٍ، ويعيشُ حياةً طبيعيةً بالكامل، ودائماً يجلسُ في الصفّ في المقدمة، وتبقى أذنه اليُسرى منصتةً باتجاه المعلِّم، ودرجاته الدِّراسيّة مقبولة إلى حدٍ ما. فضلاً عن ذلكَ، فهو يعيشُ أوقاتاً يمكنه فيها سماعُ الأصوات على نحو واضحٍ وفي بعض الأوقاتِ لا يسمع شيئاً البتة. إنَّه شيءٌ دوريٌّ كالمدّ والجزر. وأحياناً أخرى، ربّما مرةً أومرتين في العام، لا يكاد يسمعُ شيئاً من كلتا أُذنَيْهِ، وكأنَّ الصَّمتَ في أذنهِ اليُمنى يتوغَّل عميقاً إلى الدَّرجة التي يسحقُ فيها أيَّ صوتٍ قادمٍ من الجانبِ الأيسرِ. عندما يحدثُ هذا، تصيرُ الحياة الطّبيعيَّة غير ممكنةٍ وينبغي عليهِ أن يتغيَّب عن المدرسة لبعض الوقتِ. الأطباء محتارون، فأساساً هم لم يشاهدوا حالةً شبيهةً، ولهذا لا يمكنهم فعل أيِّ شيءٍ.
” أنْ تكونَ السَّاعةُ غاليةً لا يعني أنَّها دقيقةٌ ” قال نسيبي وكأنَّه يحاول إقناع نفسه.” كان لديَّ ساعةٌ ثمينةٌ جداً، ولكنَّها معطلةٌ دائماً. حصلتُ عليها عندما بدأتُ دراستي الاعداديّة، ولكنْ فقدتُها بعد عامٍ. منذ ذلكَ الوقتِ، لم أملك أيَّ ساعةٍ، فقد رفضوا أن يبتاعوا لي واحدةً جديدةً.”
“لا بُدَّ أنَّه من الصَّعبِ المُضي قدُماً دونَ واحدةٍ.” قلتُ.
“ماذا؟” سأل.
“لا بُدَّ أنَّه من الصَّعبِ المُضي قدُماً بدونَ واحدةٍ؟” أعدْتُ ما قلتهُ، وأنا أنظر نحوهُ مُباشرةً.
“لا، ليس كذلك” أجاب، وهو يهزَّ رأسَه. “لا يعني الأمرُ وكأنَّني أعيشُ في الجبالِ أوشيء من هذا القبيل، إنْ أردتُ معرفةَ الوقتِ، أسألُ أحدهم فقط.”
“صحيح،” قلت.
صمتنا مجدّداً ولوهلةٍ.
علمتُ أنّه ينبغي عليَّ قولُ شيءٍ ما. أنْ أكونَ لطيفاً معهُ، وأنْ أجعلهُ يسترخي قليلاً حتّى نصلَ إلى المستشفى. وقد مضتْ خمسُ سنوات مُذْ رأيتُه آخرَ مرة. في هذه الأثناء كبرَ من التّاسعة إلى الرّابعة عشرة، وأنا من العشرين إلى الخامسة والعشرين. وقد خلق هذا المدى الزّمانيّ حاجزاً شفيفاً بيننا من الصّعب تجاوزهُ. فعندما توجَّبَ عليَّ قولُ شيءٍ ما، لم تأتِ الكلماتُ المناسبةُ. وفي كلِّ مرَّةٍ أتردَّد فيها، وفي كلِّ مرَّة ٍ أكبتُ كلاماً كنت على وشكِ البوحِ به، ينظرُ نسيبي نحوي، وفي قسماتِهِ نظرةٌ حائرةٌ قليلاً، وقد وجَّهَ أذنهُ اليسرى قليلاً نَحوي.
“كم الساعة الآن؟” سألني.
“العاشرة وتسعٌ وعشرون دقيقة،” أجبتُ.
كانتِ السَّاعة العاشرة واثنان وثلاثون دقيقة، عندما أصبحت الحافلة على مَرمى البَصر.
***
كانتِ الحافلةُ القادمة من نوعٍ جديدٍ، ليست مثلَ الحافلةِ الذي اعتدتُ أن أستقلها عندما كنتُ أذهبُ إلى المدرسةِ الثّانويّة. كانت النافذةُ الأماميّة أكبر بكثيرٍ. والمركبة بكاملها تشبهُ قاذفةَ قنابل هائلة ينقصُها أجنحة.
لقد كانتِ الحافلةُ مزدحمةً أكثر ممّا تخيلت، ولم يقف أحدٌ في الممر، ولكن لم نستطع الجلوس قريبين من بعضنا والمكان الذي نقصده ليس ببعيدٍ، لهذا وقفنا بجانبِ البابِ الخلفيّ. كان ازدحامُ الحافلة في مثلِ هذا الوقتِ لغزاً.
يبدأ مسارُ الحافلةِ من محطّة القطار المخصّصة لها، ويستمر حتّى المنطقة السّكنية على التلال، ثمّ يدور عائداً إلى المحطة، ولم يكن على طولِ المسار أيُّ منطقةٍ سياحيّة. كانت المدراس القليلةُ الموزَّعةُ على مسارِ الحافلة ما جعلها مزدحمةً بالأولادِ المتّجهين إلى المدرسة، ولكن في مثل هذا الوقتِ من النهارِ ينبغي أنْ تكونَ الحافلةِ فارغةً.
أمسكتُ مع نسيبي بالأحزمةِ والأعمدة. كانتِ الحافلةُ جديدةً، وقادمةً مباشرةً من مصنعِ الأسطحِ المعدنيّة برَّاقة إلى حدٍ يمكنك فيهِ رؤيةُ وجهك معكوساً عليها. وجلد المقاعد أزغب كما أنَّ أصغرَ البراغي لديها ذلك الملمس المترف والمتوقع من الآلات الجديدة فقط.
لقد اربكتني الحافلةُ الجديدةُ، وأربكتني الطّريقة التي ازدحمتْ فيها على نحوغير متوقعِ. ربما تغيّر مسار الحافلةِ مُذ ركبتها آخر مرّة. نظرتُ بحذرٍ حولي في الحافلةِ ونحوالخارج، ولكنَّه المنظرُ القديمُ نفسهُ للمنطقة السّكنية الهادئة التي أتذكرها جيِّداً.
” هذه الحافلةُ الصَّحيحة، أليس كذلك ؟” سأل نسيبي بقلقٍ. ومنذُ صُعودنا الحافلةَ علَتْ وجهي نظرةٌ مرتبكةٌ .
” لا تقلق ” قلتُ محاولاً طمأنةَ نفسي وطمأنته أيضاً. ” لا توجد إلا حافلةٌ واحدةٌ على هذا المسار لهذا لا بدَّ أنها الحافلةُ نفسُها.”
” هل اعتدتَ أخذ هذه الحافلة عندما كنتَ تذهبٌ إلى المدرسة الثّانويّة ؟” سأل نسيبي.
” أجل، هذا صحيح.”
” هل أحببتَ المدرسة؟”
“إلى حدٍ ما،: قلت: ” ولكن استطعتُ رؤية أصدقائي هناك، وفعلاً لم تكن رحلةً طويلةَ حقاً.”
فكر نسيبي بما قلته للتّو.
” ألا تزال تلتقي بهم؟”
” لا، مضى وقت طويل، ” قلتُ مختاراً كلماتي بعنايةٍ.
” لمَ لا؟ لمَ لا تراهم ؟”
” لأننا نعيش بعيدينَ عن بعضنا.” لم يكن هذا السبب، ولكن لم أستطع أن أفكِّر بطريقةٍ أخرى لشرحِ الأمرِ.
جلسَ بجانبي نفَرٌ من العجائز، ربّما كان عددهم يقاربُ الخمسةَ عشر شخصاً. أدركتُ فجأةً أنّهم السّبب في ازدحام الحافلةِ. لفحَتهم الشّمس جميعاً، حتى إنَّ مؤخرةَ أعناقهم كانت غامقةً، وأجسادهم نحيلةٌ. ارتدى معظمُ الرِّجال نوعاً من القُمصان السَّميكة المخصَّصة لتسلُّق الجبالِ، أمّا النّساء فكنَّ يرتديْنَ سُتراتِ بسيطةً. وتجدُ حقيبةَ ظهرٍ في حضن كلِّ واحدٍ منهم، ذلكَ النَّوع من الحقائبِ الذي ستستخدمهُ في رحلاتٍ قصيرةٍ إلى التّلال. كان تشابههُم مثيراً، مثلَ جارور ٍ مملوءٍ بعيِّنات من شيءٍ ما، ومرتَّبة بشكلٍ أنيقٍ. الشَّيءُ الغريبُ، رغم هذا، كان عدم وجود أيِّ جبلٍ على هذا المسار الذي تمرُّ به الحافلةُ . إذن، إلى أينَ يذهبون؟ فكرتُ بهذا، بينما كنت واقفاً هناك متشبِّثاً بالحزامِ. ولكنْ لم أصل إلى أيِّ تفسيرٍ مقبولٍ.
” أتساءل إنْ كانت ستُؤلمُني أذُني هذه المرة- أعني من العلاج – ؟” سألني نسيبي.
” لا أعلم ” قلتُ. ” لم أسمع أيَّة تفاصيل.”
” هل ذهبتَ من قبل إلى طبيبِ أذنٍ ؟”
هززتُ رأسي. لم أذهبْ إلى طبيبِ أذنٍ في حياتي قطُّ.
” هل آلمتك من قبل ؟” سألت.
” قليلاً،” قال نسيبي مقطِّباً. ” طبعاً لم تكن مؤلمةً بالمرة، ففي بعض الأحيان اتألمُ قليلاً. ولكن ليس بالأمرِ المُرعبِ.”
” ربّما تكونُ كذلك هذه المرّة. قالت والدتك إنَّهم لن يقوموا بأيِّ شيءٍ مُختلفٍ عن المُعتادِ.”
” ولكن إنْ قاموا بالمعتاد كيفَ ستستفيدُ منهُ؟”
” حسناً، لن تعلمَ أبداً. أحياناً غير المتوقعِ يقعُ.”
” هل تعني مثلَ سحبِ السدَّادة؟” سأل نسيبي. حدقتُ فيه، ولكن لم ألحظ أيَّةَ سُخرية.
” أشعر بشيءٍ مختلف حيالَ الذهابِ إلى طبيبٍ جديدٍ. أحياناً تغييرٌ بسيطٌ في الإجراءات قد يحدثُ كل الفرقَ. لا تستسلمْ بسهولةٍ.”
” أنا لا أستسلمُ،” قال نسيبي.
” ولكنكَ ضجرٌ بعضَ الشيء من هذا؟”
” أعتقدُ ذلكَ،” قال ثم تنهَّد. ” الخوفُ أسوأ الأشياءِ. الألم الذي اتخيَّلهُ أسوأ من الألمِ الحقيقيّ. هل تدركُ ما أعنيه ؟”
” أجل أعلمُ.”
جَرى الكثيرُ في ذلكَ الرَّبيعِ. طرأ أمرٌ ما خلالَ العمل، وانتهى بي مُستقيلاً من شركةِ إعلاناتٍ صغيرةٍ في طوكيوإذ عملتُ هناك لسنتَينِ. في الوقت ذاتهِ انفصلتُ عن صديقتي التي كنتُ أخرجُ معها منذُ أيام الجامعة. بعد شهر توفيت جدّتي جراء سرطانِ الأمعاءِ. ولأوَّلِ مرّةٍ منذُ خمسِ سنواتٍ، عدتُ إلى هذه البلدةِ مع حقيبةٍ صغيرةٍ في يدي. كانت غُرفتي القديمة على حالها كما تركتُها، والكتبُ التي قرأتها لا تزال على الرَّفِ. وسَريري في مكانهِ. والمكتبُ والاسطوانات التي كنتُ أستمعُ إليها، لا تزالُ هناكَ. ولكن كلُّ شيءٍ في الغرفةِ قد جفّ، وفقد لونهُ، ورائحتهُ منذُ زمنٍ. الوقتُ وحدَهُ بقيَ ثابتاً.
لقد خطَّطتُ أنْ أعودَ إلى طوكيو، لبضعةِ أيامٍ، بعد جنازةِ جّدتي للقيام ببعض مقابلاتِ العملِ. قرّرتُ الانتقالَ إلى شقةٍ جديدةٍ أيضاً. لقد احتجتُ إلى تغييرِ ما أُشاهدهُ. وهذا بدا صعباً مع مرورِ الأيّامِ؛ النّهوضُ عن مؤخّرتي والانطلاق. ولتوضيحِ الأمرِ على نحوأفضلَ ، وحتى إنْ أردتُ النّهوضَ والانطلاق فلنْ أستطيعَ. قضيتُ وقتي محشوراً في غرفتي القديمة، أستمعُ إلى تلكَ الاسطوانات، وأقرأ كتباً قديمةً، وبين الحين والآخر، أقوم ُبتعشيبِ الحديقة. لم ألتقِ بأحدٍ، والناس الوحيدونَ الذين تكلمتُ معهم، كانوا من أفراد ِ عائلتي.
في يومٍ من الأيام، عرّجتْ علينا عمّتي، وطلبت منّي أنْ آخذَ نسيبي إلى المستشفى الجديدِ. كانَ عليها أنْ تأخذهُ بنفسها، كما قالت، ولكن طرأ أمرٌ ما في يومِ الموعدِ، و لم تستطعْ. كان المستشفى بالقُرب من مدرستي الثانوية، ولذلك فعلتُ ما طلبتهُ مني. ولأنّه لم يكن لديَّ شيءٌ أقومُ به، لم أستطعِ الرّفضَ. وسلَّمتني عمتي مَظروفاً فيه بعضُ النّقودِ لكلٍ منَّا، مثلَ نقودِ الغداءِ.
وكان الانتقالُ إلى مستشفى جديدٍ، بدافع عدم الاستفادة من العلاجِ الذي كان يتلقاهُ في المستشفى القديم. في الحقيقةِ، كان يعاني من مشاكل أكثر من ذي قبل. عندما اشتكتْ عمَّتي للطبيبِ المسؤولِ، رأى أنَّ مشكلةَ الفتى لها علاقةٌ ببيئة ِ المنزل أكثرَ من تعلُّقها بأمرٍ طبيٍّ. وتجادلَ الاثنانِ حيالَ الأمرِ. ولم يتوقَّع أحدُ أنَّ تغييرَ المستشفى سيقودُ إلى تحسنٍ سريعٍ في السَّمعِ. لم يقلْ أحدٌ شيئاً، ولكنهم يئسوا تماماً من أمل تحسُّنِ وضعهِ.
كان نسيبي يعيشُ بالجوار، ولكن كنت أكبر منهُ بعَقدٍ. ولم نكن قريبين من بعضنا أبداً. عندما يلتقي الأقرباءُ، كنتُ آخذهُ إلى مكانٍ آخر، أو ألعبُ معه، وكانَ هذا الحدَّ الأقصى. مع ذلك، بدأ الجميعُ، ومنذُ زمنٍ، بالنظر إلينا – أنا ونسيبي- مثلَ ثنائي، معتقدينَ أنَّه مرتبطٌ بي، وأنَّه المفضّلُ لديَّ. ولوقتٍ طويلٍ لم أفهمِ السَّببَ. رغمَ هذا أجدُ الآنَ أنَّ الطريقةَ التي يميِّل بها أذنه اليُسرى نحوي مؤثرةٌ على نحوٍ غريبٍ. مثل سماعِ صوتِ المطرِ بعد مدَّةٍ طويلةٍ، هزّت غرابتهُ وتراً داخلي. وبدأتُ أفهم شيئاً فشيئاً لِمَ أرادَ أقربائنا ربطنا ببعضنا البعض.
*********
اجتازَتِ االحافلةَ سبعةَ أو ثمانيةَ مواقفَ، عندما نظرَ نسيبي نحوي مُجَدداً وبقلقٍ.
” أهوأبعدُ من هذا ؟”
” أجلْ، مازال هناكَ مسافة. إنَّه مستشفى كبير لذلكَ لنْ نتَجاوزه.”
أخذتُ أراقبُ بشكلٍ اعتياديٍّ الرِّياحَ القادمة َمن النَّافذةِ المفتوحةِ، وهي تتصارعُ بلطفٍ مع أطرافِ قبّعاتِ العجائزِ، والأوشحةِ حول أعناقهم. من هؤلاء الناس؟ وإلى أين يذهبونَ ؟
” هل ستعملُ في شركةِ والدي ؟” سألني نسيبي.
نظرتُ نحوهُ متفاجئاً. والدهُ، عمي، يديرُ شركةَ طباعةٍ كبيرةً في كوبي. لم أفكر بالأمر من قبل، ولم يُلمِّح لي أحدٌ بذلكَ .
” لم يقلْ أحدٌ شيئاً عن الأمرِ،” قلت. ” لِمَ تسألُ ؟”
احمرَّ وجهُ نسيبي خَجلاً. ” اعتقدتُ أنَّكَ فعلتَ،” قال. ” لكنْ لمَ لا تفعلُ ؟ ليس عليكَ المغادرة. وسيكونُ الكلُّ سعداءَ.”
الرسالةُ المسجَّلة أعلنتِ المحطَّةَ القادمةَ، ولكنْ لم يضغطْ أحدٌ على الزّر للنّزولِ. لم يكنْ هناك أحدٌ في محطة ِ الحافلةِ ليصعدَ.
” لكن هناكَ أمورٌ عليَّ القيامُ بها، لذلكَ يتعيَّن عليَّ العودة إلى طوكيو،” قلت. هزّ نسيبي رأسهُ بصمتٍ.
لم يكنْ هناكَ أمورٌ عليَّ القيام بها، ولكنْ لم يكن باستطاعتي البقاء هنا.
عندما صعدَتِ الحافلةُ المنحدرَ الجبليَّ، بدأتِ المنازلُ تتناثرُ. وبدأتِ أغصانٌ كثيفةٌ تُلقي ظل كثيفٌ أسود على الطَّريقِ. تجاوزنا منازلَ ذاتِ شكلٍ أجنبيٍّ، مطليَّةٍ مع واجهةٍ بجدرانٍ مُنخفضَةٍ.
كانَ النَّسيمُ الباردُ جيِّداً، وفي كلِّ مرَّةٍ تتجاوزُ فيها الحافلةُ منعطفاً، يُطلُّ منظرُ البحرِ في الأسفل إلى العَيانِ، ثمَّ يختَفي. وقفتُ مع نسيبي نراقبُ المَنظرَ يمرُّ أمامَنا إلى أنْ وقفَتِ الحافلةُ عند المُستشفى.
” ستأخذُ المعاينةُ بعضَ الوقتِ، وباستطاعتي تدبُّرهُ لوحدي.” قال نسيبي : ” لمَ لا تذهبُ، وتنتظرُ في مكان ما ؟” بعد تبادلِ تحيَّة ٍ سريعة ٍ مع الطَّبيبِ، غادرتُ غرفةَ المعاينةِ، وذهبتُ إلى الكافتيريا. فما تناولتهُ على الفطور كان شيئاً قليلاً، وكنتُ أتضوَّرُ جوعاً، ولكنْ ما من شيءٍ على اللائحة ِ أثارَ شهيَّتي. اكتفيتُ بكوبٍ من القهوةِ..
كانَ صباحاً من صباحاتِ أيَّام الأسبوعِ، وقد شغلتُ المكانَ مع عائلةٍ صغيرةٍ. كانَ الأبُ في منتصفِ الأربعين، ويرتدي ثياباً مخطَّطةً بلونِ الأزرقِ البحريِّ، وخفَّينِ من البلاستيكِ. والأمُّ وفتاتانِ توأمان صغيرتان، تقومانِ بزيارته. ارتدت كلٌ من الفتاتينِ فستانينِ أبيضينِ متطابقينِ، وانحنتَا فوقَ الطَّاولةِ، تعلوهُما نظرةٌ جادةٌ. وهما تشربانِ عصيرَ البرتقالِ. بدتْ إصابة ُ الأب غير خطيرةٍ، كما أنَّ السأم غيرُ بادٍ على وجهِ الأبوينِ والطفلتين.
كانَ هناك مَرجةٌ خارجَ النافذةِ، ومرشَّة ماءٍ تُتكتكُ بينما تدورُ، تُرطِّبُ العشبَ برذاذٍ فضِّي. وزوجٌ من الطُّيورِ الصاخبة، ذاتِ الذُّيولِ الطَّويلة. قفزَتْ فوق المرشَّة، واختفتْ بعيداً عن الأنظارِ. بعدَ المرجةِ كان هناكَ عددٌ من ملاعب التنسٍ المهجورة، من دونَ شباكٍ. وبعيداً عن ملاعب التنسِ، تجدُ خطاً من نبات الزلكوفا، وبين أغصانه، يمكنكَ أن تلمحَ المحيطَ.
تومضُ شمسُ الصَّيفِ المبكرةُ هنا وهناك على شكلِ موجاتٍ صغيرة. والنَّسيمُ يصارعُ الأوراقَ الجديدةَ للزلكوفا، ويحني قليلاً رذاذَ المرشَّة.
شعرتُ بأنني رأيتُ هذا المَشهدَ من قبل، منذُ سنواتٍ مَضتْ : مرجةٌ واسعةٌ، وفتاتان توأمانِ تتجرَّعان عصيرَ البرتقالِ، وطيورٌ بذيولٍ طويلةٍ تطيرُ إلى مكانٍ لا يعلمهُ أحد، وملاعب تنس بلا شبكاتٍ، والبحرُ في الأفقِ. ولكنْ كانَ هذا وهماً، ونابضاً بالحياةِ بما يكفي، مشهدٌ قاسٍ في الحقيقةِ، ولكنَّه وهمٌ رغم هذا. لم أدخلْ هذا المستشفى في حياتي أبداً.
بسطتُ ساقيَّ على المقعد المقابل، وأخذت نفساً عميقاً، ثم أغلقتُ عينيَّ. في العتمةِ، استطعتُ رؤيةَ كتلةٍ بيضاءَ متمدَّدةٍ بصمتٍ، تقلَّصتْ كمايكروبٍ تحتَ مجهرٍ، وغيَّرتْ شكلَها وتوسَّعتْ، وتفتَّتْ وأعادتِ التَّحولَ .
______________________________
يتبع في العدد 167
اللوحة للتشكيلي الروسي Igor Moniava
*****
خاص بأوكسجين