جئت إلى هذا العالم والنور يتسرّب إليه من مكانٍ بعيد، كأنني أعيش في لحظة شروق/غروب أبدية، فولدت في زمنٍ بلا ظلال، حيث يتابع الناس حياتهم اليومية في أحلامهم، حتى في أشدّها خروجاً عن المألوف بالكاد يخرجون من زواياهم التي لا تتغير إطلاقاً. في يوم حلمت بأغصان من الشوك تزحف على الأرض بسرعة وثبات باتجاهي فيما أقف متفرجاً، أغفل للحظة في الحلم لأجد هذه الأغصان قد طوقت كل جزء مني، وكنت بدلاً من محاولة الانتفاض لعلها تطلق سراحي، أستمتع بشعوري بأنني باقٍ هنا إلى الأبد. في حلمي القصير هذا تعلمت معنى الأبدية.
استيقظت حينها عند منتصف الليل، وفيما الكون يتنفس بعمق شديد وتكاد تشعر بأنفاسه تحاصر كل شيء، طلعت الشمس إلى كبد السماء، وتذكرت كل أسلافي الذين عبدوا الشمس بينما أقف مذهولاً متسمراً في مكاني وأنا أنقب بعينيّ في المكان عن أي غصن من الشوك يزحف أو حتى ينمو ببطء، ولكن سرعان ما انزوت شمسي التي أردتها أبدية بعد إشراقها بدقائق قليلة، ولم أقو على اللحاق بها، ففي عالمي الراكد لا مغزى من مطاردة أي شيء. يومها عرفت معنى كلمتيّ الشروق والغروب أيضاً. لكن ظلّ ذلك القلق يهرش رأسي من الداخل ويتركني أرقاً في انتظار عودتها، ماذا عساه يفعل من ضلّ شمسه بعد أن رأى ظله يزحف بعيداً عنه ليصبح صورةً أقل شفافية عنه؟
الشمس في ذهني تنزف بسكون منذ شعرت بها وهي تجعل ظليّ يطلع من قلبي ويبتعد عنّي شيئاً فشيئاً حتى رحل من دون أن يلوح لي مرة أخيرةً. ولم يعلمني أحد شيئاً عن الدفء الذي يعانق الجلود العارية، ولا النور الذي يحرق عينيّ من ينظر إليه. لم أحكِ لأحد ماذا قال لي ظلي، ما الكلمات التي كان يرددها كثيراً، ولا إلى أي حد كان لصيقاً بي، وحاولت أن أنسى أنني رأيته. رددت في سري: أكان حلماً؟ أجل، كان حلماً. كانت هذه حيلة رديئة للغاية، قبل أن أجرب حيلتي الثانية، أمسك ورقة تلو الأخرى، أكتب على رأس الورقة: “رسالة إلى ظلي التائه”، وأشعر بكل ما أعجز عن كتابته، كيف لي أن أخبر ظلي بما تعجز عنه ما أعرف من كلمات؟ أمزق الورقة وأكرر الجملة نفسها في رأس الورقة البيضاء التالية دون جدوى.
كنت أهرب من كل إيمان، فأصبحت أسيراً للظلال، لتصبح خرافتي الخاصة التي تدفعني إلى تتبع خطى ظلي مرةً تلو الأخرى، كأولئك الحجاج الكثر الذي يجوبون العالم، أسخر منهم وأتابع التنقيب عن آثار قدميه بيديّ، لكنهم يؤمنون بالطقوس ومواسم الحج فيما كنت أنا كافراً بالمراسم المعقدة والزمن، كأنني أعلم أن الأبدية التي تعلمتها ترقد إلى جانبه بانتظاري. لكنني بعد كل رحلة خلف آثاره أتذكر سراً ظلي، وأشعر علانيةً بالفرح لكل خطوة قاسمني إياها، أذكر الخوف الذي تملكني حينما اكتشفت أنه يجري أسرع منّي، وأن باستطاعته الاختفاء حالما أبعد ناظريّ عنه، فأؤمن مؤقتاً أنني لا أملك سوى البقاء هنا وانتظار عودته، أو اختيار التيه سعياً خلف خطواته التي لا تنتهي.
لم يكن الزمن ما بعد ميلاد ظليّ سوى تنقيب مستمر في فجوات هوائية أتخيّلها، ومحاولة استدعائه في كل حلم يقظة وفي كل طيف للنوم يعبر رأسي، بحثاً عن ذكرى ظلّ أتشبث به في عالم يُقال فيه أن العماء قد غزا كل أركانه منذ وقتٍ طويل، أردد بصوتٍ عالٍ: “لي ظلّ ضائع سيعود يوماً، لم يكن ظلي وهماً”، أعيد تكرار ذلك لأبرر وجودي هنا، ولأجد سبباً لكل ذلك الانتظار. أسمع كلما كررت عبارتي صدى ضحكات باردة تتردد في الأرجاء، لكنني لا أصدق ضحكاتهم وأتجاهل رائحة آلامهم التي تهبّ مع رياح الضحك، فأنا أحياناً ما أشعر بظلي يجثم فوق صدري، أشعر به يمسك أنفاسي بأصابعه، ويشدها بأقصى قوته وهو يستمتع بالنظر إلى نفسه في عينيّ، وأحياناً ما أشعر به ينسحب من أحشائي، ليتركني مخلوقاً متهدلاً لا يقوى على الزحف، ولا على الحلم.
حينما أشعر بالإنهاك من البحث أو الانتظار، أرتمي على الأرض لأعيد اكتشاف كم من السهل أن تبتلعني مجدداً، لكنني هذه المرة أملك ذكرى تترك جزءاً مني هائم دوماً في السماء. أحاول إحصاء الغيوم الصفراء والزرقاء التي تعبر في السماء، ولكن كل بضعة دقائق أغمض عينيّ لأرى ظلي قابعاً يلوّح لي من بعيد فوق تلك الغيوم العابرة، وكلما شعرت بالعجز أمام رغبتي في الحلم هذه، أضرب رأسي لعلها تطير مع النسمات الباردة التي تجتاح الأماكن جميعها، لكن ضحكاتنا ودموعنا التي تعلق في أذهاننا لا تمحوها الريح إطلاقاً مهما حاولنا تحاشي النظر إليها. لم يقل لي أحد هذا، لذا كان عليّ تعلّم الأمر بنفسي.
وحينما سأكتشف أن من يراقب حوض السمك -القابع في غرفة مظلمة- الذي نعيش فيه ما هو إلا فراغ أبديّ، سأوقن أن هذه الحياة مجرد عبث منمّق، حُرم من الظلال. لكنني، وعلى الرغم من ذلك، كلما بدأت أكتب الجملة الأولى من رسالة بلا عنوان إلى ظلي الضائع، تخيلت أسراب الظلال تهاجر إلى أبعد نقطة من السماء، أسمع صوته يناديني بما يحب، وأشعر بالشمس تنغرس في جوفي دون أن تعلمني أي معنى للرحيل.
*****
خاص بأوكسجن