ذا سيركل
العدد 174 | 02 حزيران 2015
دايف إيغرز/ ترجمة: أدهم عبدالله


إنها “ذا سيركل”، شركة رقمية افتراضية، ابتلعت كبرى الشركات على الشبكة العنكبوتية مثل جوجل وفيسبوك وتويتر. وما أن علمت ماي بقبولها بالوظيفة في مقر إقامتها بكاليفورنيا، غمرتها السعادة – حتى ابتلعتها “ذا سيركل” هي أيضاً في النهاية.

فتحت ماي جهاز الكومبيوتر وبدأت عملها. كانت مصمّمة في تلك الليلة على الحصول على جميع أنواع المعلومات. كانت هناك شركة معروفة على نطاق واسع، تتحدّث عن قوائم الطعام اليومية والطقس، عن الأمثال الشعبية وحكمة اليوم كل يوم – وكان ما اقتبسته الأسبوع الماضي مأخوذاً عن “إم إل كي”، غاندي، سالك، الأم تيريزا وستيف جوبز.

كانت هناك ملاحظات عن الزيارات اليومية لحرم الجامعة: وكالة تبنّي الحيوانات الأليفة، سيناتور، عضو كونجرس من ولاية تينيسي، مدير منظّمة أطباء بلا حدود.

مع لدغة من الندم، انتبهت ماي إلى أنها قد نسيت زيارة الفائز بجائزة نوبل محمّد يونس في ذلك الصباح. نبّشت الرسائل، كل واحدة منها، باحثة عن أي شيء منطقي ليكون جواباً شخصياً متوقّعاً.

كانت هناك دراسات استقصائية، 50 دراسة على الأقل، تقيّم آراء العاملين في “ذا سيركل” بما يخص سياسات بعض الشركات، بتواريخ محددة للاجتماعات القادمة، مجموعات العمل،  وأصحاب المصالح، المناسبات وأيام الإجازات.

كما كان هناك أيضاً عشرات النوادي، تثير فضول الأعضاء من خلال إرسال الإخطارات لهم بما يخص كل الاجتماعات: كان هناك مجموعات لمالكي القطط – 10 منهم على الأقل – القليل من مجموعات الأرانب، ست مجموعات للزواحف، وأربع منهم مخصّصين للثعابين بشكل حصري.

معظمهم كانوا مجموعات لمالكي الكلاب. عدّت 22 مجموعة، ولكنّها كانت متأكدة من وجود المزيد. إحدى هذه المجموعات كانت مخصّصة لمالكي الكلاب الصغار، لاكي لاب دوغ، أرادت أن تعرف عدد الأشخاص المحتمل انضمامهم إلى نادي عطلة نهاية الأسبوع لنشاطات المشي والتسلّق والدعم. تجاهلت ماي هذه المجموعة.

لاحظت حينها، أن التجاهل لن يدوم إلا ثوانٍ. بعجلة أكبر، ذهبت إلى الرسائل وكتبت واحدة، تشرح من خلالها، أنها لا تمتلك كلباً. طُلب منها أن توقّع على عريضة، تُطالب بتوفير خيارات طعام نباتية أكثر على وجبة الغداء، فوقّعت. 

ظهر العدد 9 على أيقونة الرسائل في جهازها، كانت 9 رسائل من مجموعات عمل مختلفة من داخل الشركة ذاتها، كانت رسائل بفحوى واحد “نرجو انضمامك إلى مجموعتنا الفرعية لمعرفة آخر الأخبار والمعلومات التي نشاركها”. فانضمّت لثلاث مجموعات فقط، كانت الأولى متخصّصة بالكروشيه والثانية لمتابعي كرة القدم أمّا الثالثة فكانت لمعجبي هيتشكوك.

انتقلت ماي بحلول العاشرة مساءً إلى حسابها الخاص في “ذا سيركل”، بعد أن قرأت جميع الرسائل والتنبيهات المتعلّقة بشؤون الشركة الداخلية. كانت زيارتها الأولى منذ ستة أيام، كان هناك 118 تنبيهاً في ذلك اليوم فقط، قرّرت الغوص فيهم بالترتيب. بدأت بالأحدث. كان من صديقة لها في الجامعة، حيث شاركت رسالة عن إصابتها بمرض في معدتها، وتبع ذلك الكثير من التعليقات، اقترح بعض الأصدقاء أدوية متنوعة، وأظهر آخرون تعاطفهم، بينما وضع بعضهم صوراً لتشجيعها.

قامت ماي بوضع إعجاب “لايك” على اثنين من الصور، وثلاثة تعليقات، وكتبت تعليقها الخاص متمنية الشفاء العاجل، كما أرسلت رابطاً لأغنية وجدتها بعنوان “Puking Sally”، ما أثار موضوعاً جديداً للتحدّث به، فأتبع بـ 45 ملاحظة حول الأغنية وعن الفرقة التي كتبتها. كتب أحد الأصدقاء، أنه يعرف عازف الغيتار في الفرقة، فقام بإدراجه في المحادثة الحاصلة من خلال ذكر اسمه. “دامين غيلوتي”. وعلى الفور ظهر عازف الغيتار، وقد كان يعمل مهندساً في أحد الاستوديوهات في نيوزيلاندا. لم يستطع إلا أن يبدي سعادته، لأن أغنية “Puking Sally” ما زالت تتردّد في مثل هذه المناسبات. بمجرّد مشاركة دامين في المحادثة الجارية، ظهر 129 إشعاراً على الفور، أبدى الجميع سرورهم وحماسهم بمشاركة عازف الفرقة بنفسه. حصل داميان عند نهاية المحادثة على دعوة حضور حفل زفاف والعزف إن أراد. وعلى الكثير من الدعوات المفتوحة لزيارتهم في أي وقت في بودلير، باث، غاينيفيسل، سانت تشارلز وإيلينوي، وأبدوا فرحتهم الغامرة لاستقباله في بيوتهم ومشاركته طعامهم الذي سيحضّرونه خصيصاً له.

على ذكر سانت تشارلز، سأل أحدهم إن كان أي من الموجودين قد سمع عن تيم جينكينس، المقاتل الذي كان في أفغانستان، فقد سمعوا عن مسلّح أفغاني، كان متنكّراً بلباس شرطي، قام بإطلاق النار على طفل حتى أرداه قتيلاً.

تبع ذلك 6 رسائل مجيبين على التعليق السابق، ومؤكدّين أن تيم جينكينس الذي يتحدّثون عنه، هو من رانتول، إيلينوي وليس من سانت تشارلز. 

عمّ شعورٌ بالارتياح بعد ذكر ذلك. لم يلبث الهدوء إلّا بضع دقائق حتى نُقل النقاش إلى جدل متعدّد الأطراف، حول فعالية تلك الحرب السياسية الأمريكية الخارجية، وما إذا خُدعنا في حرب فيتنام وغرينيداد وحتى الحرب العالمية الأولى أم انتصرنا حقّاً، وعن مدى قدرة الأفغان من حكم نفسهم بنفسهم، وتمويل المتمرّدين بتجارة الأفيون، وعن إمكانية إضفاء صفة شرعية على جميع أنواع المخدّرات في أمريكا وأوروبا.

ذكر أحدهم فائدة الماريجوانا في علاج زرقة العين، وبعضهم ذكر أهميتها في معالجة التصلّب العصبي أيضاً. تبع ذلك تبادل محموم بين ثلاثة أفراد من أسرة واحدة أصابها مرض التصلّب العصبي، شعرت ماي حينها بضيق في صدرها وأن غمامة سوداء بدأت تلقي بظلالها، فأغلقت حسابها.

شعرت ماي بثقل لا يحتمل بجفونها، كانت حينها قد تفقّدت ما فاتها على الشبكة الاجتماعية حتى ثلاثة أيام مضت فقط، أغلقت جهازها وتوجّهت إلى موقف السيارات.

كان تدفّق الإشعارات والرسائل يوم الثلاثاء صباحاً، أقل عمّا كان يوم الاثنين، ولكن شاشتها الثالثة أبقتها على كرسيها طوال الساعات الثلاث الأولى من خلال النشاطات الظاهرة عليها. بنهاية الصباح، كان الوضع تحت السيطرة بل حتى أنه كان مبهجاً بعض الشيء.

كانت الشركة مليئة بالأحداث والمشاعر الإنسانية الراقية، كما أنها كانت الرائدة على جميع الأصعدة، ما جعل ماي تعتقد بأنها تتطوّر بمجرد كونها قريبة من “ذا سيركل”. كانت كمتجر للمنتجات العضوية المنسّقة بعناية: تشعر بأنك صحّي أكثر بمجرد تسوّقك هناك، فمهما اخترت، لن يكون خياراً سيئاً، لأن كل شيء قد تمّ فحصه وفرزه مسبقاً. كذلك الأمر في “ذا سيركل”، فقد تم اختيار الجميع بعناية فائقة، وبالتالي فإن جيناتهم غير عادية ومتميّزة، بقدرات عقلية هائلة. كانت مكاناً سعى جميع من بداخله لتحسين أنفسهم باستمرار، وتبادل المعرفة مع بعضهم البعض ونشرها للعالم. 

 

كانت قد التهمت طعامها بحلول موعد الغداء، وكانت متحمّسة لتحرير نفسها وعقلها لساعة من الوقت بالجلوس مع آني التي أصرّت على اللقاء في المساحة الخضراء.

عند الساعة 11:50، ظهرت رسالة من دان على الشاشة الثانية:

هل لديك بعض الوقت؟

أخبرت آني أنها من الممكن أن تتأخر عن الموعد قليلاً. كان دان متّكئاً على عضادة الباب عندما وصلت ماي إلى مكتبه. بدت على وجهه نظرة التعاطف مع حاجبين مرفوعين، كما لو أنه كان محتاراً بخصوص أمرٍ ما متعلّقٍ بماي، شيء لم يستطع أن يحدّد ما هو تماماً. مدّ ذراعه فاتحاً المجال لماي بأن تدخل المكتب، ففعلت وأغلق دان الباب.

تفضّلي بالجلوس ماي. أظنّك تعرفين أليستير، أليس كذلك؟

لم ترَ الرجل الجالس في زاوية المكتب، ولكن بعد أن رأته، أدركت أنها لا تعرفه. كان طويلاً في آخر عقده الثاني، بشعرٍ بنّي كالرمل مسرّح بعناية. كان يجلس بشكل مائل مصطنعاً الراحة على كرسي دائري بحواف رقيقة. لم يقف ليتعرّف بماي، فقامت بمد يدّها لتسلّم عليه.

“يسعدني لقاؤك” قالت له.

تنهّد أليستر والانزعاج بادٍ على وجهه. مدّ يده وكأنه على وشك أن يلمس شيئاً متعفّناً. عندها جمدت معالم ماي وجفّ حلقها. هناك خطبٌ ما. شيء سيّء للغاية.

جلس دان وقال. “آمل أن نحلّ هذه المشكلة بأسرع وقت ممكن، هل ترغبين بالبدء يا ماي”

نظر الرجلان إليها. كانت نظرة دان ثابتة نحوها، بينما نظر أليستر إليها نظرة جارحة ولكنها متوقّعة. لم تعرف ماي ما تقول، لم يكن لديها أدنى فكرة عمّا يحصل. ساد الصمت قليلاً قبل أن يبدأ أليستر بالكلام بعينٍ مرتجفة تحبس الدموع.

“لا أستطيع تصديق ذلك” قالها بعد معاناة.

نظر دان إليه وقال. “أليستر، على رسلك، نعلم مدى ألمك، ولكن دعنا نضع الأمور في نصابها.” نظر دان إلى ماي وقال “سأتكلّم بوضوح يا ماي، نحن نتكلّم عن الإفطار البرتغالي المتأخر الخاص بأليستر.”

انتظر دان قليلاً، متوقّعاً مداخلة من ماي، ولكن مرّة أخرى لم يكن لماي أدنى فكرة عمّا تعنيه هذه الكلمات: الإفطار المتأخر البرتغالي الخاص بأليستر؟ هل تستطيع أن تقول بأنها لا تعلم شيئاً عن ذلك؟ كانت تعرف أنها لا تستطيع قول ذلك، فقد كانت متأخرة بالاطّلاع على آخر التحديثات والأخبار. بالتأكيد هذا هو السبب.

“أنا آسفة” قالت ماي. كانت تعرف أن عليها أن تكسر الصمت لتعرف عمّا يتكلمون.

قال دان: “بداية جيّدة، أليس كذلك يا أليستر؟”

تجاهل ذلك أليستر.

تابعت ماي التخمين. ماذا تعلم؟ من الواضح جداً أنه قد كان هناك إفطار متأخرا، ومن الواضح أنها لم تحضره، لقد قام أليستر بالتخطيط لهذا الشيء، والآن هو مجروح. كان من السهل افتراض كل ذلك.

غامرت ماي مرّة أخرى وقالت “أتمنى لو استطعت التواجد هناك” وبمجرّد قول ذلك، رأت علامات التأكيد بادية على وجهيهما. علمت أنها على الطريق الصحيح نوعاً ما. “ولكنّي لم أكن متأكدّة إن …” أكملت ماي بعد أن أخذت نفساً عميقاً. “لم أكن متأكدة من أن أكون مرحّباً بي كوني جديدة هنا” 

تغيّرت معالم وجهيهما وأصبحت أكثر سماحة. حينها ظهرت على ماي ابتسامة خبيثة، لقد نجحت بتخمينها. هز دان رأسه، كعلامة منه على صواب رأيه – بأن ماي لم تكن شخصاً سيّئاً بطبيعته – تم تأكيد ذلك. قام دان عن كرسيه واقترب ليستند على مكتبه أمام ماي. 

“ماي، هل شعرتِ بعدم الترحيب من قبلنا؟” سأل دان. “لا أبداً، على العكس” أجابت ماي وتابعت “ولكنّي لست عضواً في فريق أليستر ولم أكن أعرف القواعد المتّبعة تماماً هناك، هل فهمتني؟ ما أعنيه هو أن يقوم أعضاء فريقي بحضور حفلات الإفطار المتأخر “برنش” مع أعضاء الفرق الأخرى الأكثر خبرة.”

أومأ دان برأسه وقال” ألم أخبرك يا أليستر؟ من السهل شرح ذلك.” تغيّرت جلسة أليستر لتصبح مستقيمة أكثر وكأنه على استعداد للتكلّم.

“أنت مرحّب بك بالتأكيد” قالها أليستر ضارباً يده على ركبة ماي بشيء من المزاح والعتب في نفس الوقت وتابع قوله “حتى وإن كنت غافلة بعض الشيء”

“والآن يا أليستر…”

قالها دان وتبعها “أنا آسف” ثم أخذ نفساً عميقاً ليكمل حديثه مرتاحاً. “ها قد أوضحنا الأمور وكل شيء تحت السيطرة الآن. أنا سعيد جداً.”

تبع ذلك بعض الاعتذارات والضحكات حول سوء التفاهم والتواصل بين الأشخاص، وانتقلوا بعدها للتحدّث عن شتى المسائل بما فيها نظام الكون. حتى أصبح الجو أكثر راحة وحان وقت العودة للعمل.

“دعونا نتعانق” قالها دان وفعلوا ذلك فعلاً، مشكّلين دائرة ضيّقة، ناهين معها سوء التفاهم.

__________________________________

من رواية “ذا سيركل” الصادرة عام 2012، والتي ستحول فيلماً من بطولة توم هانكس.

الصورة من الأعمال الفوتوغرافية للكاتبة الليبية نجوى بن شتوان

*****

خاص بأوكسجين