“يمكنك أن تصبح أي شيء وتعيش في أي مكان لن يعبأ بك أحد صدقني”.
هكذا ختم حديثه معي، وحمل حقيبته وغادر. يا للوباء الجديد الذي اكتسحنا، أحسست فجأة أن دمي يحاول أن يفر من عروقي، ولأنني لا أسمح بأي شعور أن يُقصى، فقد تناولت السكين الصغيرة على الطاولة وجرحت إصبعي، تاركًا الدم يأخذ مجراه كما يريد! توقف دمي وجف مكوّنًا خطًّا داكنًا حول الإصبع، الصفائح الدموية لا تكف عن فرض وصايتها فهي لا تسمح للدم أن يبقى متدفقًا على هواه دائمًا. غسلت يدي ولم أغطِّ موضع الجرح، وكان منظر الجرج يؤلمني رغم صغر حجمه و عدم تأثيره، فماذا لو انشق جلدي وأصبح لدي نزيف حادٌّ وفقدت الصفائح قدرتها على السيطرة؟
يا إلهي، كيف أستحضر كل ما يخيفني بلا رأفة؟ لا بدَّ أن أحمل نفسي وأفر خارج الغرفة قبل أن يهوي السقف على رأسي لشدة ما أنا فيه.
تركَ ظرفًا أبيضَ على الطاولة دون أن يخبرني بشيء، لا بدَّ أنها رسالة إلى أبيه، ياله من شاب مازال يعيش في كهوفه، ماذا لو أرسلها له عبر البريد الإلكتروني أو عبر وسائل التواصل الاجتماعية، وجنبني الموقف المؤذي الذي لم يستطع هو أن يشهده ويعيشه بنفسه..
آآه.. ربما يريد أن يحتفظ بها والده كذكرى تحمل خط يده، نعم قد يكون في الأمر وجهة نظر كما نشاهد في الأفلام. بقيت أسير في الشوارع واحدًا بعد الآخر، وأختار أطولها وأضيقها ، حاولت أن أمرَّ في طرق وعرة وغير آمنة عل أحدهم ينتشلني قبل أن أصل بيته وأرى ملامح وجه أبيه، وربما أسمع صياح أمه، وأشهد على فزع إخوانه وعندها قد يجتمع الجيران ويعتقدون أنه مات. هو صاحب مقالب يجيد صنعها بطريقة عجيبة ماذا لو كان الأمر مقلبًا من مقالبه المجنونة؟! ماذا سيفعل أهله بي؟ هل أرجع وأرمي الرسالة لا أعتقد أن لديه شيئًا مهمًا ليكتبه لهم سوى العبارات المعتادة: “سامحني يا أبي ليس بيدي ورغمًا عني وأنت تعرف ما أمر به” إلى ما لا نهاية من بكاء و نحيب و محاولة للتملص من مسؤولية اتخاذ القرار و كأن قوى العالم قد دفعته دفعا لقراره، وهو رافض له. أرى باب بيتهم يطل عليّ آخر الشارع، وكأنما بقي منتصبًا طوال عمره في انتظاري حاملًا الرسالة، ما إن مررت عند الدكان في الزاوية حتى أشار عليّ العامل: مستفهمًا إلى أين؟ وهو يحمل البضاعة إلى الخارج، يضعها فوق بعضها في سيارة شحن كبيرة، فأشرت ناحية الباب فقال لي: ليس هناك أحد، إذن ورطة جديدة، جئت أريد الخلاص من هم الرسالة والموقف وردود الفعل والآن سأحمل الهم إلى يوم غد متخيلًا سيناريوهات عديدة، إنه لأمر خانق حقًّا يعني ليلة سهر طويلة. اقتربت من العامل، وهو يحدّق في وجهي مستغربًا ولم أعرف ما سبب استغرابه هذا: إلى أين ذهبوا؟ فأجابني: المطار!!
هل عرفوا أنه سيسافر اليوم وذهبوا لوداعه؟ من أخبرهم يا تُرى؟ هل كان بيننا جاسوس سرّب الخبر؟ لا بدَّ أن أذهب علَّني أستطيع فك نزاع قد يحصل، وربما سيعود معهم.. لن يتركوه يسافر. سيارتي المركونة التي لم أرغب في المجيء بها صارت بعيدة، وسيارات الأجرة التي تجاهلتها أثناء قدومي هاهي تتاجهلني و أنا بحاجتها، وصرت أهيم في الشوارع كمن يطلب النجدة و بيته يحترق، بعد مضي بعض الوقت وجدت سيارة تقلني إلى المطار، لم أستطع حينها التفكير بأي شيء، العرق بدأ يمارس دوره المعتاد في حال ارتفاع درجة حرارتي أو حرارة الجو، حمدت الله أنني ارتديت صندلًا، ولم أحشر قدمي في حذاء ثقيل. وصلت المطار وبدا لي الزحام شديدًا على غير عادته، والحقائب مصطكة ببعضها، والموظفون وجوههم عابسة، ومشاهد غريبة لأول مرة أراها، لماذا يرمون بجوازات السفر هكذا في سلة المهملات؟ كيف سيسافرون دون جوازاتهم؟ لم أسمع بقرار جديد يلغي استخدامها في السفر بين الدول، و بينما أمشي داست قدمي على بعض الجوازات المبعثرة هنا وهناك، أحسست بوخزة، أحنيت رأسي لقد جرح إصبع قدمي، فاجأتني الصورة في جوازات مفتوحة.. إنها أربعة جوازات مختلفة حملتها، وتصفحتها إنها لشخص معروف، بلى لقد رأيت صورته في الجريدة، إنه يحمل أربع جنسيات ويكتب مقالات عن الوطنية والمواطنة! انتبهت لإصبع قدمي وقد فرّت قطرات دم منه، رميت بجوازاته على الأرض، وأخرجت المنديل من جيبي لا أريد أن أهدر قطرة من دمي الآن، جلست على الأرض ذات الرخام البارد الأملس، بقيت أضغط على إصبعي دون أن يعيرني المسافرون الذين يتهافتون على السفر أي اهتمام، وقفت ودست على تلك الجوازات حانقًا، ثم رحت أبحث عن صديقي أو عن أحد من أسرته، أريد أن أعرف ماذا حل بهم؟ بقيت أركض من جانب إلى آخر حتى وصلت إلى آخر صالة، وجدته أخيرًا، وتمنيت لو رأيت وجهي حينها أحسست أن عضلاته قد تصلبت، وفمي وعينيّ اتسعوا بما لا يسع ضياعي هذه اللحظة، رأيته يقف حاملًا حقيبته بذات الهدوء الذي خرج به من غرفتي، إنه سيغادر في مشهد أشد غرابة من رمي الجوازات إن أهله بقربه أيضًا يحملون حقائبهم، فهل كانت رسالته لي؟! رأيت وجوهًا كثيرة أعرفها.
كلٌ يحمل حقيبته عند بوابة المغادرين.
_________________________________
قاصة وكاتبة من السعودية
الصورة من أعمال التشكيلي السوري جوني سمعان
****
خاص بأوكسجين