لماذا عند مبتدأ الأشياء يكون هناك ضوء دائماً؟ كانت أولى ذكريات دوريغو إيفانز ضوء يغمر قاعة كنيسة يجلس فيها بصحبة أمه وجدّته. قاعة كنيسة خشبية. ضوء يبهر الأبصار وهو يتأرجح جيئة وذهاباً في رحاب أليفة، يدخل فيها، يخرج منها، محمولاً على أذرع نساء. نساء أحببنه. كان كمن يخوض غمار البحر ويعود إلى الشاطئ، مرة تلو أخرى.
ليباركك الرب، تقول أمه التي تضمه إلى صدرها وتبعده عنه، ليباركك الرب يا بني.
على الأرجح كان ذلك عام 1915، أو ربما 1916. قد يكون واحداً، وربما اثنين. الظلال أتت لاحقاً على هيئة ساعد يرتفع. ترى ظله الأسود يتراقص في انعكاس النور الزلق لمصباح الكاز. جلس جاكي ماغواير في مطبخ آل إيفايز الصغير المعتم. كان يبكي. من يومها لم يبكِ أحد، سوى الأطفال. وجاكي ماغواير هذا هو رجل عجوز، قد يكون في الأربعين من عمره، وربما أكبر. وقد كان يحاول أن يمسح الدموع عن وجهه المغطى بالبثور بظاهر كفه، أم تراه كان يمسحها بأصابعه؟
كان بكاؤه الشيء الوحيد الثابت في ذاكرة دوريغو إيفانز. كان أشبه بشيء يتكسر. إيقاعه المتباطئ ذكّره بأرنب يجلد الأرض بقدميه عبثاً وهو يحاول التخلص من فخ علق فيه. لم يسمع من قبل صوتاً يشبه هذا النحيب سوى ذاك الصوت. كان في التاسعة من عمره، وكان قد دخل ليُري أمه بقعة الدم المتخثرة على إبهامه، ولم يكن في جعبته إلا مخزون ذاكرة شحيح ليقارن ما رآه بما يومض في ذاكرته. لم يسبق له أن رأى رجلاً كبيراً يبكي سوى مرة واحدة من قبل. يتذكر الآن ذلك المشهد الذي جللته الدهشة، حيث ترجّل شقيقه من القطار عائداً من الحرب في فرنسا. لوح بحقيبته العسكرية، رماها فوق غبار ملتهب يكسو سكة القطار، وانفجر بالبكاء.
تساءل دوريغو وهو يرى شقيقه الأكبر يذرف الدمع منتحباً، ما الذي قد يدفع شخصاً كبيراً إلى البكاء هكذا. مع مرور الأيام أصبح البكاء إقراراً بالشعور وحمّالاً له. الشعور الذي هو البوصلة الوحيدة في الحياة، سيصبح في ما بعد شيئاً عصرياً، والعاطفة ستتحول إلى مسرح للبشر فيه أن يمسوا ممثلين ليس لهم أن يتذكروا ما كانوا عليه بعيداً عن خشبته. سيعيش دوريغو بما يكفي ليرى بعينيه كل هذه التقلّبات، وسيذكر ذلك الزمن الذي كان فيه الناس يخجلون من البكاء علانية، ويخافون من أن يعتبر الآخرون بكاءهم تصريحاً بالضعف، ويخشون من تبعات ذلك. سيعيش بما يكفي ليرى الناس يُمجَّدون لأفعالٍ ما كانت لتستحق حتى الذكر في ما مضى، فقط لأن الحقيقة كانت تبدو مسيئة لمشاعرهم.
في الليلة نفسها التي رجع فيها توم إلى المنزل، أضرموا النار في القيصر… أحرقوه. توم لم ينبس ببنت شفة عن الحرب. لم يتحدث عن الألمان. لم يأتِ على ذكر الغاز والدبابات والخنادق التي كانوا قد سمعوا عنها. لم يقل شيئاً على الإطلاق. ليس لشعور الإنسان أن يصاحب دائماً الحياة، وله أن يكون بعيداً عن أشياء كثيرة. كان توم لا يفعل شيئاً إلا تأمل اللهب.
2
كل من لا ماضٍ له هو رجل سعيد، أما الشقي فهو من ليس لديه إلا الماضي. لن يعرف دوريغو أبداً في سنوات عمره المتقدمة ما إذا كان قد قرأ تلك العبارة أم أنه قد خلص إليها بنفسه. الخلاصة، الخلط، الإنهيار. إنهيار بلا كلل. صخرٌ يصير إلى حصى يستحيل رملاً فطين، والعالم هذا دأبه، وكما تقول أمه حين كان يطالبها بتوضيح أو سبب لحدوث ما يحدث في العالم. كانت تقول، “العالم موجود. العالم موجود وكفى يا بني”. كان يحاول أن ينتزع صخرة من نتوء صخري ليبني حصناً يلهو به عندما سقطت صخرة أكبر حجماً على يده مخلفة تخثراً دموياً كبيراً تحت ظفر إبهامه.
رفعته والدته ووضعته على مائدة المطبخ حيث ضوء المصباح متوهجاً. متفاديةً نظرة جاكي ماغواير الغريبة، رفعت إبهام ابنها وقربته من الضوء. في فترات الراحة التي سمحت له بها شهقاته الباكية، كان جاكي ماغواير يقول بعض الأمور. ومنها أن زوجته استقلت القطار إلى “لاونسيستون” منذ أسبوع حاملةً معها طفلها الأصغر، وذهبت إلى غير رجعة.
التقطت والدته سكين التقطيع، ومسحت بنصلها بعضاً من دهن الغنم الجامد، ووضعت رأسها بين جمرات الموقد. تصاعدت سحابة صغيرة من الدخان من الموقد، وعبقت في المطبخ رائحة لحم الغنم المحروق. سحبت السكين بعد ذلك. كان طرفها الأحمر المتوهج يومض بذرات من الغبار الأبيض الملتهب. مشهدٌ سرعان ما بدا لدوريغو ساحراً ومرعباً في آن معاً.
ابقَ ثابتاً، قالت ممسكةً يده بقبضة قوية روعته.
كان جاكي ماغواير يروي كيف استقل قطار البريد إلى لاونسيستون ليبحث عنها، وكيف أنه لم يعثر لها على أثر في أي مكان. بينما كان دوريغو إيفانز يراقب ما يحدث حوله، لمس رأس السكين الأحمر الملتهب ظفره، وبدأ الدخان يتصاعد منه بعد أن فتحت أمه ثغرة في الغشاء بفعل الحرارة الحارقة. سمع جاكي ماغواير يقول-
وكأنها اختفت عن وجه الأرض يا سيدة أيفانز.
الدخان ترك وراءه نزفاً صغيراً تدفق على أثره دم أسود من إبهامه تسرب معه الألم الذي خلفته بقعة الدم المتخثرة، آخذاً معه رعب رأس السكين الملتهب.
انصرف، قالت والدة دوريغو، دافعةً إياه عن الطاولة، انصرف الآن يا ولد!
اختفت! قال جاكي ماغواير
حدث كل ذلك في الأيام التي كان العالم فيها ما يزال رحباً، وكان العالم، كل العالم، يُختَصر في جزيرة تُدعى تسمانيا. من بين مراكزها الحدودية العديدة النائية والمنسية، بضعة مراكز فقط كانت منسية وقصية أكثر من قرية كليفلاند التي يقطنها أربعون شخصاً أو أكثر، وهي البقعة التي عاش فيها دوريغو إيفانز. قرية قديمة اتُخذت معتقلاً للمنفيين والمدانين حلّت عليها أوقات عصيبة فسقطت من الذاكرة، ولم يبقَ فيها الآن سوى تحويلة السكة الحديدية، وبضعة أبنية جورجية متهتكة، والقليل من الأكواخ الخشبية ذات الشرفات الأمامية، وملجأ لأولئك الذي تمكنوا من احتمال قرن كامل من النفي والضياع.
ترى في خلفية المشهد هناك غابات من أشجار الفلفل، وسياجاً فضياً يلوح متراقصاً في القيظ. كانت بقعة حارة وقاسية في الصيف، وقاسية، قاسية فقط، في الشتاء. لم تكن الكهرباء ولا الراديو قد وصلاها، ولو لم يكن ذلك في عشرينيات القرن الماضي، لكان في ثمانينيات أو خمسينيات القرن الذي سبقه. بعد ذلك بعدة سنوات، توم- هذا الذي لم يولد من استعارة أو مجاز، لكن دُفع إلى ارتكاب قصة حياته تحت وطأة موته الوشيك المصحوب برعب التقدم في العمر، أو ربما هذا ما كان يعتقده دوريغو في ذلك الوقت، فبالنسبة إليه، كانت الحياة كلها عبارة عن استعارة، والقصة الحقيقة ليست موجودة –توم هذا كان يقول أن الأمر كله أشبه بخريف طويل لعالم يُحتضَر.
كان والدهم يعمل في ترميم السكة الحديدية، وعاشت عائلته في الأكواخ التابعة لشركة السكك الحديدية الحكومية المقامة إلى جانب الطريق. وعندما كانت تنفد مياههم في الصيف، كان عليهم أن ينقلوها بالدلاء من الصهريج المخصص للقاطرات البخارية. كانوا يتدثرون بجلود حيوانات الأبوسوم التي يصطادونها. وكان غذاؤهم قائماً بشكل أساسي على لحوم الأرانب التي يتمكنون من الإيقاع بها، وحيوانات الكنغر التي يصطادونها ببنادقهم، والبطاطس التي يزرعونها، والخبز الذي يخبزونه. والدهم الذي نجا من الكساد الذي ضرب البلاد في تسعينيات القرن الـ18، وشاهد بعينيه الرجال يموتون من الجوع في شوارع مدينة هوبارت، ولم يصدق كيف ابتسم له الحظ وانتهى به الحال في جنة العمال تلك، كان يردد في لحظاته الأقل بهجة: “تعيش هنا ككلب وتموت ككلب”.
___________________________________
من رواية ” الدرب الضيّق إلى عمق الشمال” الفائزة بجائزة “بوكر” العالمية لعام 2014.
ولد الكاتب الأسترالي ريتشارد فلاناغان عام 1961 في جزيرة تسمانيا. وكان الطفل الخامس بين ستة أطفال. يتحدّر فلاناغان من عائلة توماس فلاناغان، انتقل جده الأكبر إلى تسمانيا بعد أن أدين بسرقة ثمانية أرطال من دقيق الذرة. كانت نشأة فلاناغان في مدينة نائية تكثر فيها المناجم تدعى روزبيري، وتقع على الساحل الغربي لجزيرة تسمانيا.
ترك المدرسة في عمر الـ16، لكنه عاد إلى الدراسة في جامعة تسمانيا، حيث ترأس الاتحاد الطلابي للجامعة عام 1983. ألّف أربعة كتب تنتمي لأدب السيرة قبل أن ينتقل إلى الرواية. من بين هذه الكتب السيرة الذاتية لجون فريدريك “أعظم لص في أستراليا”، وقد أمضى 6 أسابيع فقط في تأليفه ليجني نقوداً تعينه على كتابة روايته الأولى.
من أعماله “موت دليل النهر” Death of a River Guide (1994)، “صوت يد تصفّق وحدها” The Sound of One Hand Clapping (1997)، “الإرهابي المجهول”، The Unknown Terrorist (2006).
الصورة من أعمال التشكيلي الفرنسي جورج رووه (1871 – 1958م)
*****
خاص بأوكسجين