كنتُ مضطرباً..
تحتي سحابة تمتصّ كلّ مخاوفي وتعلو رويداً بعيداً عن ذلك المكان الموحش. قلبي هنا مع ظلي لكني أشعر أنّه فارقني واختار البقاء مع جسدي. تعلو تلك السحابة وتختلط مشاعري، أحاول أن أسدل ستائر الوحدة لأفكّر للحظة بمصيري، لكنني مُحاط بسيل من الخواطر والأفكار المظلمة.. هوّة سحيقة بلون اليأس تتوسّع وتبتلع مساحة الأمان التي ألوذ بها في أوقات الشدّة.
الظلمة تقترب وتلتهم ما تبقى من ألمي..
أستعيد كلّ الأسماء.. أحاول تذكّر الوجوه.. تلك الوجوه التي تبدو مجرّد نجوم مبعثرة في سماء ليل طويل. حقنة المورفين تبعث فيّ طمأنينة لم أعتدها.. غريب أمر هذا المورفين، يجعلك تتفكّر في كلّ شيء. لم يسبق، وأنا واع، أن شكّكت في الطمأنينة فهي تنزل ببطء على الجرح لتضمّده وتخنق الوحش الهائج الذي يزمجر في صدري ويتخبّط ليصل إلى جمجمتي محاولاً التخلّص مني..
الطمأنينة.. ليست دائماً في مصلحتنا وإلى جانبنا.. فهي التي تحيلنا إلى قوقعة فارغة بجدران بيضاء ناصعة ووحدة قاسية.. هي التي تجعلنا نتذكّر أوجاعنا ونعيد تفقّد شراييننا التي أُنهِكَتْ من الرتق بعد محاولات كثيرة للقطع..
جروح متقاطعة كطرق في وسط مدينة نيويورك
خرائط تقود أصابعي إلى صندوق الذكريات الموصد
أنفض عنه الغبار..
وأسترسل في الغوص في عذابات الوقت
الوقت الذي يترك أثره على جلدي
وأنا في كلّ مرّة..
أحاول أن أعثر على قلبي..
المورفين اتّبع تلك الخطوط التي رسمتُها له.. يمرّ تحت الجلد فأحسّ به يتدفّق جذلا ماسحاً كلّ أثر لتعب الوقت.. الآن بدأت تلك الوجوه تأخذ مكانها وسط زحام وصفير يصمّ الآذان.. أصدقائي الذين سأتركهم خلفي.. أصدقائي الذين سيتحدّثون ويحدثون عني.. أراهم بنظرات محتشمة منكسرة متوجّهة إلى داخل تلك الغرفة.
كأنّ في صمتهم كلاماً يريد أن ينفجر، وحركات يرغبون في تجسيدها بأذرعهم المنقبضة.. لكنّهم يتماسكون أمام خطورة الموقف..
الكلّ يدعوني إلى الدخول في تلك الغرفة البيضاء الباهرة لكي يوصدوا الباب خلفي ويطمئنوا عليّ مجدّداً.. ها قد عدنا مجدّدا إلى طلب الطمأنينة. ما الذي يمكن أن يكون مُطَمْئِناً في الغرفة الدافئة الموحشة؟ لماذا يعتقد أصدقائي أنّ الطريق إلى الطمأنينة تمرّ قطعاً بالعزلة؟
أنا أعرف لماذا يفكرون هكذا.. انّهم في حاجة لجرعات من المورفين ليروا الأمور بشكل أوضح..
المورفين..
ريشة ترسم على مساحة الدماغ
فتشكّل لوحات من الألوان الساطعة..
أصابع توسّع حدقة العين
فنرى أنفسنا على صفحات الماء الصافية..
ريحُ نشوةٍ تعصفُ بكلّ بنايات البؤس
وتحيلها ركاماً
تجرفه وتشيّد مكانه بطحاء واسعة..
وأشجار برتقال
وحقولا خضراء ممتدّة..
المورفين..
يفتح فجوة في الفضاء
فنلتهم الكون
ونبتلع القمر
ونضع النجوم في شبكة..
هكذا يكون العالم داخلنا
وتضيء السماء
ونرسل ألوان الطيف من أعيننا..
كنا شباباً.. نتسكّع في أزقّة الأحياء التي هجرها أهلها وسكنوا إلى الفُرُش والأغطية.. عندما نجوع نرتمي في أحضان الباعة الذين زُرعوا على حافّة الطريق كنباتات طفيليّة..
كنا أجسادا تحتوي على كواكب مشعّة، نتبختر سكارى في الحانات الشعبيّة ثمّ نغوص، ونحن نحمل زجاجات البيرة، في دهاليز المدينة أين تقبع الجرذان التي سئمت البشر وفضّلت الظلمة.. كم أشتاق إلى تلك الأيام التي مارسنا فيها الجنس مع بائعات الهوى المسنات في سلالم العمارات القديمة..
كنا نمرح ونصرخ ونعلن للجميع تغلّبنا على العالم.. ذلك العالم الذي كان كعجوز شمطاء تطرد الصبية من أمام منزلها وتحرمهم من اللهو.. المقابر كانت الأماكن التي يعاقب بها العالم محبّيه.. نحن تبوّلنا على النواميس وعلى المبادئ، مارسنا الجنس مع الرجال والنساء، لحقنا بالباص في آخر لحظة وأمطرنا سيارات الشرطة بالحجارة دون سبب وهربنا.. ركضنا كالغزلان الشاردة من فهد هائج.. كنا على وعي بأنّ الحياة مغامرة وأنّ تلك المقبرة، حتّى وان خضعنا لقواعد العالم، سنزورها لامحالة.. فقررنا التمرّد..
كنا نهوى التشبّث بأحلامنا، نعلّقها على جدران غرفنا ونتأملها ليال طويلة ونرسم خططا تمكننا من التحليق عاليا فوق نظرات المارة الفضوليين.. نجتمع في كلّ لحظة، حتى ونحن فرادى، كان كلّ منا يفكّر بعقل الآخر.. كنا نخاف الوحدة ولا نريد أن ننعزل.. نمقت الصّمت ولا نحبّذ الصخب المبالغ فيه والفارغ من المعنى.. كنا مغرمين بذلك الصخب الجنونيّ الذي يعيدنا أطفالا نلهو بالحصى والرمل، أصوات تنطلق كالسيل الهادر من أسفل بطوننا لتستقرّ في آذان السامعين من حولنا.. كنا نريد أن نغطي العالم بهرجنا.. نترك بصمات أحذيتنا على اسفلت المدينة.. كنا نريد أن يتذكرنا أناس مجهولون بعد خمسمائة سنة ويقولون: “هنا، مرّ صعاليك لم يولدوا في الوقت المناسب..”
لم نحتج من يرشدنا، كنا نهتدي بتلك الكواكب التي تدور داخلنا، نحيا بدفء شمسنا ونحتفل برأس السنة في اليوم الثالث من كلّ شهر.. كنا جامحين كأحصنة والأمل يطوّقنا ويحمينا من سهام الحقيقة..
لا نتمنى أن نكون مكان أحد، بل نفتك الشخصيّات من أصحابها ونتقمّصها.. عشنا ألف حياة وحزنا بسبب أمور لا تعنينا على الاطلاق ولكن الأمر كان مسليا..
غينزبرغ، بوروز وكيرواك.. كانوا ثالوثنا المقدّس.. ندين بدين جيل البيت ونحاول العيش على طريقتهم.. لم نزر أميركا أبدا ولكننا قرأنا روايات كيرواك وقصائد غينزبرغ ونحن عراة نمسك زجاجة البيرة باليمنى والكتاب باليسرى ونضاجع نساء قبيحات لا يفقهن من الأدب شيئا..
مرّ الزمن صامتا، وفي صمته كانت الضربة القاضية.. أعيانا الدّهر، ومزّق المرض ستار المسرح وحطّم الجدران التي بنيناها..
اليوم..
أصدقائي ليسوا هنا.. أو ربّما حضروا بأجسادهم لكنّ تلك الشعلة انطفأت وها هم يدعونني إلى التريّث والدخول إلى تلك الغرفة مجدّداً..
مازال المورفين يتدفّق في عروقي كنهر منساب، يمرّ من فخذي الأيمن ويدغدغ أسفل القدم.. أعجز عن المشي، أرغب في النهوض ولا أقدر.. حتى لو نجحت في الانتصاب واقفا هل سأقدر على السير وحدي؟ أنا الذي تعوّدت أن أكون مسندا من أصدقائي.. يبدو أنّ نعمة المشي لا ترتبط بالشخص ورغبته بل بأصدقائه الذين لا يستطيع المشي دونهم..
هؤلاء ليسوا أصدقائي..
هي أشباحهم ترمقني من بعيد بحذر وريبة.. ربّما يخشون على أنفسهم ويعتقدون أنني لازلت أحمل فيروس الحياة الذي تخلصوا منه منذ زمن..
الآن..
أنا وحدي أمام الأفق والبحر، سأرتجف.. سأبكي ولكني سأتذكّر ألمي وسأُغرق قلبي بحقن المورفين المتتالية..
*****
خاص بأوكسجين