قال شيخ من قبيلة عباس بن فتراش:
علينا أن نضع لهم حداً! فالكلام لا يجدي معهم، هذه ليست المرة الأولى التي تمشي فيها بقرة لهم على أرضنا.
قال صوت مخافت من أقصى دار الندوة:
لقد مشت يا شيخ ولم تأكل من عشب ولم ترفس من زرع ولم تشرب من غدير ولم تمسح خطمها بشجر ولم تخر بقرب مريض أو نائم أو رضيع أو محتضر، ولم تتغوط بدرب ولم تأكل من قمامتنا خبزاً أو جريدة، ولم تخالط غنمنا وبقرنا ودجاجنا ،ولم تشل بذيلها طلباً لفحل رغم أنها تسر الناظرين، لقد مشت يا شيخنا وحسب.
قال الفتراش غاضباً وهو يدق عكازه بالسجادة:
لكنها كسرت كلمتنا ومشت، وهذا اختراق صارخ للهدنة المعقودة بيننا منذ سنين.
قال المخافت:
عندما عقدنا الهدنة يا شيخ لم تكن هذه البقرة قد ولدت بعد وحضرت العراك أو سمعت بالهدنة، فتجاوز عنها لتتجاوز عنهم رحمك الله، ولنحتفل بالعيد الذهبي للسلام ونلبس الجديد ونذبح الذبائح وننعم بالطعام والشراب.
رفض الشيخ الفتراش الاقتراح، ورأى فيه تجاوزاً لرأيه وشخصه وتاريخ آبائه وأجداده الذين تفانوا في الدفاع عن هذه الأرض لئلا ينقرض جنس الفتراشين.
خرج المخافت من حلقة النقاش قائلاً:
صار لزاماً عليَّ الذهاب، تأخر الوقت وغداً لدى عمل، تصبحون على خير .
قال الجمع:
اقعد مازال بدري..النقاش مازال مفتوحاً ولم نصل إلى نتيجة نوّحد بها رأينا.
وهو يحاول إيجاد فردة صندله الأخرى وسط أكوام الأحذية، قال :
ما ترونه أنا فيه، لا أعتقد أن صوتي إن خالف أصواتكم عندما تصلون إلى النصاب سيكون له تأثير.
رد بعضهم التحية وحاول حفيد الفتراش الأكبر أن يدفع جده لردها، إلا أن عكاز الجد دخل برقبته وسحبه قليلا للأمام ورده للخلف، فسكت وانهمك في تزويد محفظة الجد بالنفه.
جاءت البقرة الصغيرة لذي الصوت المخافت في المنام وقالت له شكراً، ولم يكن شكرها باللغة العربية رغم إجادتها لها من خلال ما تأكله من الصحف والكتب المدرسية المرمية هنا وهناك، هزت رأسها يميناً ويساراً كما يحدث لممثل في مسلسل عربي يري كابوساً..ثم اختفت اختفاءً وليس طيراناً بينما أكمل المخافت المشهد بصرخة، وليستيقظ على يد زوجته الصبورة تناوله كوب الماء الجاهز على “الكومودينو” منذ ارتباطهما.
قالت له : خير اللهم اجعله خير! وقد كانت ساذجة كما في المسلسل، لم تفهم رجلاً تزوجته من سنين…أي خير وقد صرخ، والرجال عندنا لا يصرخون إلا إذا كانوا مستيقظين وليسو رقوداً ؟
أجابها بصوت أكثر خفوتاً: البقرة يا امرأة.
قالت : أي بقرة؟
وكان الزر الخامس في “روبها” القطني ينتفض من المفاجأة حتى يخنق أنفاسها.
البقرة الصغيرة التي سببت خرق هدنتنا مع آل كناسهستان.
وهل ستجعل رأسك من رأس بقرة؟!
أخشى من …أن…..
قاطعته:
لا تخشَ من شيء إنما تشابه البقر عليك الليلة، أو لعلها أضغاث عشائك من الفاصوليا.. نم نم البقر مذكور في القرآن فلا تخف منه.
انبطحت على بطنها وأدارت وجهها عنه، نظر إليها وكاد أن يقول لها إن الحمير وردت أيضاً في القرآن، غير أن النوم داهمه وهو باسط رجليه بالسرير فخر نائماً.
يجبره عمله في الإطفاء على النوم المبكر رغم عدم وجود حرائق، منذ تم استبدالها بالهدم، وهو لا يخشى من التقاعد لكنه يخشى من فقدان لياقته البدنية وعجزه عن حمل خرطوم الرش يوماً، مثلما حمله وهو شاب قبل سنوات وتدخل به في مشادة بالأيدي والأرجل عجزت فيها الشرطة عن تفريق المتشادين، كانت يده على خرطوم الرش أقوى من أيديهم، فغلبتهم وفرقتهم بالقوة اللينة للماء، ومنذ تلك الحادثة طالب البعض بضمه إلى “لجنة المصالحة الوطنية”، وحسن بسببه البعض الأخر ثقتهم بالخراطيم التي طالما شاهدوها فارغة عند الحاجة، بينما فتحت له وزارة الداخلية تحقيقاً حول استبداله البودرة والغازات الخاملة بالماء، في تلميح إلى أنه يهرّب ثروة الوطن، أي أنه مشروع خائن؟
راود الشك أهل القرية أن أحداً حاول سرقة البقرة ليلاً فلما قاومته قتلها، لأنها وجِدت ميتة في مكانها، لكن الطبيب البيطري أكد أنها غير مقتولة وأنها استوفت أجلها، فيما أصرّ شيخ من شيوخ آل المفري له خبرة في الأبقار بأنها مقتولة خنقاً، وقد حاول الطبيب إقناعه بأنها ميتة جراء سكتة دماغية طارئة، كما حاول هو إقناع الطبيب بأنها قضت خنقاً حيث ببساطة لا دماغ للأبقار، استمرت محاولات إقناع الطرفين كل منهما للآخر الصباح بأكمله، وكان يتابع المحاولات جزّار مخاتل عينه على البقرة المعنية، إلا أن طول الجدل حمى الناس ذلك اليوم من أيمانه الغليظة بأنها مذبوحة صباح هذا اليوم وليست جيفة، بل ولا صلة قرابة لها بالبقرة الميتة.
كان المخافت يذهب لأداء تمارينه الصباحية، حينما استوقفه جمع من رجال عشيرته يحملون فؤوساً، قال أحدهم :
أيها الرجال لنمضي لقطع الأشجار الميتة قبل أن ترتوي بالمطر ويصعب قطعها.
خاطبه شيخ من الشيوخ:
يا للعار… أتستقوون على أشجار فيما يستقوي عدوكم على أبقاركم !!
غضب بعض الرجال ممن ترتفع شواربهم وحدها عند الطوارئ:
ماذا يقصد هذا الخرف؟ ألا من يفهمنا غاية ما يقول؟
وأرسلوا في طلب فتى القرية الوحيد القادر على تأويل معاني الكلام:
قال الفتى :
إنه يقول لكم دعونا نتلافى حمل الفؤوس ولا نحتكم إلى السلاح ولنتكلم حتى نصل إلى حل.
سأله أحد المشوربين:
قل له وهل تعلم ما هي المشكلة؟
قال له الفتى:
يقولون لك ما نحن بقتلة.
قال الشيخ :
وهل وصلت بكم الوقاحة إلى الاستهزاء بكباركم..تعساً لكم. ستعلمون أي منقلب تنقلبون.
إنه يقول لكم امضوا إلى شغلكم حفظكم الله .
إنهم يعدونك بزراعة أشجار النارنج و الليمون والبرتقال واللوز بعدد الأشجار الميتة التي سيقطعونها.
اختفى الفتى الذي يفهم تأويل الكلام، فتطورت البقرة إلى طائرة حربية بعدما كانت أول أمس مجرد بقرة تسرّ الناظرين، وفي الأمس فأساً، وفي غضون أسبوع طارت طيراناً وأصبحت كل شيء لم يكن له من وجود، بل إنها كبرت في كل بيت وشارع وزقاق حتى جاءت في هيئة صاروخ ضخم يستوعب القرية كلها، واختفت بهيجة والكومودينو وكوب الماء المخصص للكوابيس، فهذا الثلاثي المترابط لم يعد له من جدوى بعد اختفاء المخافت علة وجوده، اختفاءً وليس طيراناً، كما اختفت الشوارب ونصف آل عباس بن فتراش وأكثر من نصف آل المفري وأصبحت البقرة في وقت قصير حرباً أهلية، وتضاعف الطلب على الأكفان بدلاً من ملابس العيد والمدرسة، وصارت عبارة”رحمه الله – الله يرحمه” بالطابور فيما نقص الخبز والرحمة والمرحمة حد الانقراض.
وفي خضم التناقص والانقراض والتحول، لوحظ أن صفحة ابن عمة زوج بهيجة من أمه، على الفيسبوك مكتوب فيها أسباب أيروتيكية للحرب، وصفحة خال زوجها الرابع مكتوب فيها تحليلات برونزية للقتال، وصفحات أخرى ليست ذات قرابة تقتل القتيل وتسير في جنازته، أما ضحكة بهيجة فلم يمشِ في جنازتها أحد لأنه لم يعد ثمة أحد.
رحمهم الله!
________________________________
روائية وقاصة من ليبيا
الصورة من أعمال السينمائي والفنان التشكيلي السوري رائد زينو
*****
خاص بأوكسجين