تسعى أوكسجين إلى ضبط عوالمكم متلبسة بما تصوغه من إبداع وتتوهج فيه وهي تعيش وتحيا، على شيء من العفوية ومن دون تحضير مسبق سوى تحديد موعد للقاء في مربع “الشات” على “الفايسبوك” لنمضي في دردشة حية ومباشرة: سؤال فجواب، أسئلة سريعة خاطفة وإجابات أتطلع لأن تكون سريعة مكثفة أيضاً، كما لو أنه حديث ودي وشيّق يجري في حانة أو مقهى، أو حديث يخرج من حيث لا ندري في مشوار لا نريد له أن ينتهي.
الحوار ها هنا مع الكاتبة الأردنية نوال العلي فهلموا إليه:
سأبدأ من آخر ما كتبت على صفحتك الفايسبوكية، كيف هي حالة قلبك مع المسافات؟
كل من أحب يقيمون في أمكنة لست فيها، ولا أستطيع أن أكون.
والمسافة تستحق اللعنة هنا وأكثر. ..
أنا كلب دُرّب على البعد، صحيح أتحرك كرهاً وأبتعد كرهاً، لكن هذا الفعل حولني من الداخل إلى صنم، الحركة المفرطة من الخارج ثبتتني من الداخل.
يذكرني هذا بعبارة جاءت في كتابك “سيرة النائم” تقولين فيها “المشي هو الفعل الذي أعرِّف به نفسي” حدثينا عن خطوتك الأولى في عالم الكتابة؟
كنت أكتب مقاطع زمان، وكنت أعتقد أنها شعر، الآخرون ساعدوني على تربية هذا الوهم، لكن السفر و”الابتعاد” رجّع لي عقلي، وصرت أعرف ما أستطيع أن أكتب وما لا أستطيع، لست شاعرة بالمرة، من هنا أعتبر أن الخطوة الأولى كانت الأخيرة، الآن لا أكتب سوى أمور لا أحسبها تجعل مني كاتبة بالمعنى الجدّي الذي أفهمه وأحتكم إليه مع نفسي، هكذا أرى الأمر.
لكنك بشكل ما تتواطئين مع الشاعر أنطونيو غامونيدا حين يعلن أن الشعر ليس أدبا بالمعنى التصنيفي للأنواع؟
لا أعرف .. بالنسبة لغامونيدا أظنه لم يكن يقصد التصنيف كنوع وحسب، بل يتحدث عن الشعر الذي ينأى عما وصلت إليه باقي الأشكال الأدبية، خاصة الرواية، والشعر كطريقة تفكير بالثقافة وكمقاومة لسوق العصر… أنا أتحدث عن الشعر هنا على مستوى أبسط بكثير، كشكل كتابة فقط؛ لم آخذ نفسي كشاعرة على محمل الجد أبداً.
لهذا كتبت: قصائدي قليلة ولا تساوي عندي باكيت دخان؟
مممممممم
نعم،
الكتابة مُمْرضة، وأنا صحتي على قدي.
في “سيرة النائم” هناك البوح الجريء الذي لا يخلو من الإحالات الأدبية والفلسفية بحضور أسماء كتاب وشعراء وعناوين كتب وأفلام وأغنيات، على ماذا تنفتح الكتابة لديك؟
سأتحدث بأثر رجعي عن “سيرة النائم”، لأن ما سأقول نتيجة تفكير بعد سنوات، وسؤالي لنفسي عن سبب كتابة هذا النص؛ أظنه نصاً عن اكتشاف الخلل.
وكانت محتوياته كلها بهدف التفكير في الخلل ومكوناته؛ والكتب التي قرأتها والحياة التي عشتها هي هذه المكونات.
كنت أعتقد أن قراءاتي هي واقع أعيشه بمحاذاة اليوم العادي، لكنهما لا ينفصلان ولا يتحرك أحدهما دون تدخل من الآخر.
مصدر كتابتي الأصيل هو ما أقرأ هو ربما أكثر مما أعيشه.
بالعودة إلى الجرأة والبوح اللا مشروط، أتذكر نصك “طفلة مقطبة العينين” في أوكسجين وردّ زوجك السابق أحمد الزعتري عليه، وكان ما حدث أدبياً سابقة عربية، ما تعليقك؟
أنا مع قتل الحياة الخاصة، في ذلك الوقت نظرت إلى الأمر كنصوص مشحونة ومنفعلة ومضطربة، لكنه اليوم يؤلمني. إنما الألم مسألة هامشية عندي، شيء من قبيل الثمن المدفوع سلفاً في كل تجربة.
بالمناسبة لا أحب كلمة “بوح”، خصوصاً أنها لا تستخدم عادة إلا مع الكتابة التي تكتبها المرأة، أرى في “البوح” حاجة عاطفية وليس تعبيراً إبداعياً أو تكنيك شغل يعني.
ومع ذلك فكتابة الاعتراف في العالم العربي نادرة وإن وجدت فهي تنتصر للذكورة وعدم الانكسار. ما رأيك كامرأة في هذا؟
انا مش امرأة
بالمعنى القائم في الذهن الاجتماعي والثقافي والجنسوي والديني و و و
منذ البداية، ومشكلتي مع العالم المحيط بي والقريب مني أنني لم أجد نفسي في النوع وأدائيته.
ولم أفهم يوماً الطريقة التي يراني من خلالها الآخرون امرأة، ولم أر نفسي أبداً في هذه الهوية بمواصفاتها الدارجة؛ بمعنى كيف أكون مرئية للآخرين وغير مرئية لنفسي.
لا أستطيع تفسير ذلك
ما بعرف
فعلا ما بعرف.
ولكن بحكم اقترابك من المشهد الثقافي والأدبي العربي، هل تستطيعين العيش بهذا الاعتقاد؟
أنا مش قريبة من المشهد
انا شخص شديد الانعزال.
متابعتك؟
أعيش كما أفهم العيش.. المشهد ما بيتحمل شي الحقيقة.
عنده حساباته
أنا لم أنسجم مع أي مشهد في حياتي
لا الاجتماعي ولا الثقافي ولا غيره.
مع ذلك أنت معروفة بأرائك الجريئة والقوية في الكثير من المواقف والكتابات؟
هناك قدر من الأعراف والاعتبارات التي تحكم “المشهد” ولعلها تجعل أي رأي نافر يبدو جريئا وقوياً.
ببساطة، أقول ما أشعر به، ما أفكر فيه، وأحتمل أن كثيرين ربما يعتبرونني بغيضة
هذا شرط يأتي رفقة الحرية
أن يعتبرك الآخرون بغيضاً
وألا يزعجك ذلك
يزعجهم هم مش أنا.
صحيح، هل حدثت لك صدامات واقعية؟
نعم في قصص كثيرة
لكن لا يهم .. أنا اخترت التمتع بعقلي وجسدي، وبطلاقة التفكير والقول والتصرف، وبنفس المقدار أفهم حرية الآخرين في ردود أفعالهم
أكبر صدام في حياتي أنني لا أستطيع التواصل مع أحد من عائلتي
من عشر سنوات تقريبا
أعيش مثل لقيطة، مثل موسى في يم، دون أن تكتب لي النجاة
كنت سأسأل: هل يعود ذلك لمزاجك أم لأسباب أخرى تتعلق بأرائك غير المواربة؟
لكن أظنني سأسحب سؤالي ..
الأمر أعقد من مزاج.
حسناً ما الذي يوجد في عزلتك؟
عندي كتب كثيرة لازم أقرأها، عندي كلبين: مشمش ونانا، عندي يومياتي
كل يوم أكتب يومياتي
والأمور العادية من عمل ودراسة وملاحظات هون وهون.
وأثناء الكتابة هل لديك عادات معينة؟ إلى ماذا تحتاجين؟
وسكي
بحب الوسكي كتير.
صحتين ..
على قلبك
خلصنا؟
لا لسه بلشنا
يا لهوي
على رأي المصريين
مين من الكتاب تأثرت بتجربته وحياته ولا زال يلازمك إلى الآن؟
كير كيجارد
القائل: “لقد سرت في الحياة متمتعاً بكافة المميزات”، وماذا تقولين أنت؟
أمشي في العالم، ومن مشيتي الكل يعرف أني سكرانة.
عبارة عجبتني كثير في “سيرة النائم”
أكتب على دفاتر أصغر من راحة اليد، لأن أفكاري صغيرة جداً
لا أرغب بسرد الأكاذيب
وليس لدي ما أقوله
هل تكتبين على دفاتر كتابة، ورق، أم على الجهاز؟ ومن يطلع على يومياتك؟
ما زلت أكتب على ورق
عندي هوس بالقرطاسية
أحياناً أنشر يومياتي على فيسبوك
عندي ثمانين صديق
ولما ضفتك صاروا 81.
رغم أننا كنا أصدقاء منذ زمن بعيد…
آه، لغيت حسابي القديم
أوعى تكون زعلان؟
يعني لم أفكر في الأمر بعد (أمزح معك) أعتبر هذا حرية شخصية ..
أنا لما وصلوا أصدقائي في حسابي القديم إلى 300 شخص وقعت في حيص بيص
شو أعمل؟ وكيف أوجد في أي مكان فيه 300 شخص؟
فألغيته.
الأقسام الثقافية في الصحف العربية أشبه بغرف التدخين في المطارات، وصف مدهش كيف تتعاملين مع هذا الواقع؟
بصعوبة شديدة
أعتقد أن أقسام الثقافة في الصحافة العربية بصورتها الحالية يمكن إقفالها، فعلياً تجب إعادة النظر في
دورها بجدية.. لكني مضطرة للعمل مثل كثيرين في نفس المجال.. لا أجيد فعل شيء آخر.
الأمر أنها في حالها الراهن أقسام لا تخدم الثقافة ولا تخدم الصحافة أيضاً
وجودها لزج وغير حقيقي
ولا ينظر إليها بجدية..
أنت عشت في أماكن متعددة، ماذا يعني لك المكان كتابة وحياة؟
انتهيت منذ أيام من كتابة نص للمسرح
سؤاله الأساسي عن المكان
عن العلاقة مع الأمكنه وأثر ذلك على الذاكرة
واسمه، مبدئياً، “الحياة ليست رمادية كالدنمارك”
أظنني مضطربة بخصوص المكان
أعيش في بيروت منذ عام تقريباً
تنقلت بين ست شقق.
عندي فزع من الألفة
في بيت شعر للمتنبي
“غني عن الأوطان لا يستفزني إلى بلد سافرت عنه إياب”
يعني بيقول أنا المنفى، وما بيرضى يحكي عن المنفى بنفس الوقت.. طريقة لقول كس أخت الأوطان.
وما الأوطان التي تنعدم فيها الحرية والعيش الكريم إلا أسماء أخرى للمنفى
من بين الرسائل العميقة التي قرأتها رسالتك إلى الروائي الأردني غالب هلسا، هل وصلته الرسالة كما وصلك طرد الكتب؟
غالب بشكل خاص يعني، هو تصوري عن أبي لو كان يحق لي أن أتخيل أباً
فيه ناس بيعيشوا مثل صرخة
قلّة
صرخة قصيرة وحادّة
غالب هكذا.
لا شك أنه يقرأ كلماتك الآن ويبتسم هناك، بالحديث عن الروائيين والكتاب تقولين التهافت هو أحد ملامح الاُثر الذي تخلفه الجوائز الأدبية عندنا؟
نعم،
الجائزة قد ينالها مستحق فعلاً، لكن ضررها أكبر من نفعها
أثر الجائزة لا يقتصر على من ينالها
مثل رمي حجر في بركه
يسقط في مكان واحد ومحدد
لكن فوضى السقوط
تجعل النفايات أيضا تطفو إلى الأعلى
خصوصاً
إن من يمنح الجوائز أو الدول التي تحتضنها
دول غير منتجة للثقافة
دول تستخدم المشهد الثقافي كجزء من إكسسواراتها الحضارية وكبزنس
لو كانت الجائزة في سياقها
وبيئتها وفي دولة تنتج أدب وفن ومسرح وتشكيل ربما يبدو الأمر حينها أكثر توازناً ..
توصيف خطير ومهم .. تقصدين دول البترودولار؟
أقصد الدول الحاضنة للغاليريهات والمزادات والجوائز.
عندي سؤال يخصني كذلك، أنا متشائم من الوضع الثقافي في الجزائر وغيرها من بلدان العالم العربي، هل يمكن أن نبقى كتاباً وشعراء دون أن تطالنا الرداءة وهذه الأمراض المنتشرة كالوباء؟
ما بعرف إذا عندي إجابة، لكن عندي فكرة صغيرة تخصني فقط
الفرق لازم يظل واضح
بين أن تكون مبدعاً ومنشغلاً بذلك
وأن تكون مبدعاً معروفاً أو تريد أن تكون معروفاً وتنشغل بذلك
لما تبحث عن متطلبات الشق الثاني
أعتقد أنك بالضرورة ترضخ لشروط ليست إبداعية
أو شروط تمس إبداعك
أؤمن بالعزلة
كتير كتير أصدق العزلة
وعدا الويسكي والكتب والأوراق، ماذا تسمعين في عزلتك؟
كتير شغلات
والدخان طبعاً
مثلا؟
أنا طول الوقت عندي موسيقى
بحب الأوبرا كتير
بحب نصوص الأوبرا
وبترجمها لنفسي
بحب البلوز والجاز كمان.
ماذا تقرأين هذه الأيام؟
أقرأ “بعد الحرب” لـ جي. لوْيْس دكنسون
عندي سلسلة قراءات عن الحرب
علي أن أنتهي منها قبل نهاية العام.
هل تقتطعين شيئا هنا؟ جملة أو عبارة أو أي شيء؟
“بعد الحرب” هو شبه سكتش كُتب سنة 1915 لما يمكن توقعه لأوروبا بعد الحرب، وهو يعود لتفاصيل ووثائق واتفاقيات وأحداث ومعناها وأثرها على الحرب. هذه الكتابات تهمني أكاديمياً، كما أن قراءة تاريخ الحروب لدى الأمم وفي حقب مختلفة أمر بات يشغلني في الأعوام الأخيرة.
على ماذا تشتغلين كمشاريع إبداعية حالياً؟
أنهيت كتابة النص المسرحي وأنوي أن أمثل فيه دور نفسي، إن رأى المخرج أني أصلح للدور،
وأعمل حالياً على الرتوش الأخيرة من ترجمة رواية إلياس كانيتي “الإعدام حرقا”
وأعتقد أنني أفكر بنشر بعض يومياتي، لدي صديق يصر على ذلك.
فكرة رائعة ، كنت سأختم ولكن ذكر كانيتي ومثله آخرون ممن لم نحظ بترجمتهم إلى العربية، مأساة هذه حقاً؟
آه طبعاً
لكن أعتقد مؤخراً
صار في التفات لترجمة أسماء لم تطرقها الثقافة العربية من قبل
كانيتي كان مبغوض وبغيض في وسطه
لما ما تفي ناقد بريطاني عمل دراسة عن حجم الكراهية في المقالات التي كتبت عن وفاته.
كلمة في الأخير عن مجلة أوكسجين الثقافية؟
أوكسجين لكثيرين، وأنا منهم، هي تنفس ملء الرئتين. على المستوى الشخصي، لي فيها غرفة تخصني، فيها ذكريات ومر منها أصدقاء، وفيها آخر مرة حاولت أن أكتب نصاً شعرياً.
كلمة لنوال العلي؟
ليس لدي ما أقوله.
*****
خاص بأوكسجين