حوار حي ومباشر: زياد خدّاش
العدد 194 | 07 تموز 2016
خالد بن صالح


تسعى أوكسجين إلى ضبط عوالمكم متلبسة بما تصوغه من إبداع وتتوهج فيه وهي تعيش وتحيا، على شيء من العفوية ومن دون تحضير مسبق سوى تحديد موعد للقاء في مربع “الشات” على “الفايسبوك” لنمضي في دردشة حية ومباشرة: سؤال فجواب، أسئلة سريعة خاطفة وإجابات أتطلع لأن تكون سريعة مكثفة أيضاً، كما لو أنه حديث ودي وشيّق يجري في حانة أو مقهى، أو حديث يخرج من حيث لا ندري في مشوار لا نريد له أن ينتهي.

الحوار ها هنا مع القاص والكاتب الفلسطيني زياد خداش فهلموا إليه:

 

تحدثتَ عن تحالف الله والأب في توريطك مع اللغة والكتابة، كيف تستعيد دهشة الاكتشاف الأول اليوم؟

باستمرار أستعيد طعم ذلك الاكتشاف، وتزداد الرغبة في ذلك كلما تقدمت في العمر، كأن في الأمر طلبا لحماية أو استئناسا بجماليات البداية أو استعادة للحظة تبعث على الفرح لا تتكرر.

 

هل بقي هذا الإحساس بالفرح بالكتابة مستمراً معك؟

لا، ثمة تقطع فيه، تماما مثل صنبور مياه المخيم، يتدفق فيتدفق معه جسدي ومرة ينقطع فينقطع نفَسي.

 

لكنه يبقى ماء الحياة، كيف شجعك الوالد على هذا الأمر؟ من أي خلفية كانت له هذه الرغبة؟

كان أبي مولعا بالمتنبي ومكتبته كانت مع حليب أمي أول ما ارتطمت به يداي وحواسي، بدأ الأمر في حضن أبي، أتذكر ذلك تماما، كنت أشعر بمتعة خطف الجريدة والهرب بها، فاكتشف أبي خطة لإلهائي عن ذلك، أن يستخرج كلمات معينة من أخبار الجريدة ويطلب مني أن أضعها في جملة مفيدة، بدأت أفعل ذلك وكلما ذكرت لأبي الجملة قفز وصاح برافوووووو، ثم يناولني قطعة نقود وهكذا بدأت أشعر بمتعة تركيب الكلمات مع بعضها البعض، ومتعة دهشة أبي.

 

ولحظة نشرك لأول قصة؟ كم كان عمرك “يوم ارتطمتَ بنجمة وكتبت أولى الأغنيات بحبرها” كما يقول درويش؟

كنت في السنة الثانية من دراستي في جامعة اليرموك الأردنية، أرسلت لصديق لي صحفي كان يعمل في جريدة الرأي العام الكويتية مجموعة نصوص اختار منها واحدا هو نص موت عامل (حكاية ساذجة عن حقوق المال مصاغة بشكل مباشر ورومانسي) ونشره في الصفحة الثقافية، وحين أرسل لي النص في البريد، أتذكر أني عانقت شجرة، أمام كلية الآداب وصرخت إلى درجة انتباه حارس الجامعة، واتصلت بأبي في فلسطين وأخبرته أن جريدة ما نشرت لي قصة.

 

جميل، عناق الشجرة هو عناق الحياة، الحلم والكتابة. هل كان خيار القصة القصيرة منذ ذلك الزمن نهائيا؟

نعم كان خيارا واعيا وواضحاً، كان الميل للسرد في بنيتي التفكيرية مميزا، وكنت أحلم أن أروي للعالم قصة شعبي سردا.

يشبه الأمر، الممارسة الجنسية تماما، كلما أنهيت جولة جنس محمومة، أشعر بالشبع الشديد، وأتمنى (وهذه أحقر عاداتي وأمنياتي) أن تنشق الأرض وتبلع صديقتي، وبعد وقت معين تتجدد الرغبة وأصير ثورا من جديد، فأتصل بالصديقة التي تأتي فورا فقط لأنها تحبني، وهكذا هي الكتابة تماما، الكتابة الصبورة التي لم تفكر يوما بالتخلي أو الانتقام تماما كصديقاتي الرائعات.

 

بعد أكثر من ثمان مجموعات قصصية إلى أي مدى تحقق هذا الحلم؟

حلم سرد عذاب شعبي العام، وجدته أعقد وأعمق من قدراتي، فاستبدلته بحلم سرد حكايات مخيمي الشخصية ثم اكتشفت ان أسئلتي الشخصية المتعلقة بهموم وقصص الناس اليومية تصب بشكل مباشر في العذاب القومي لشعبي.

 

احتفاؤك بالمرأة بالجسد والشهوة، ينز من بين السطور إن لم أقل الكلمات في كتاباتك، حدثنا عن صديقاتك؟

ما يجمع بين صديقاتي هو أنهن على حافة اتخاذ قرار بالهرب من البلد أو الانتحار، محطمات، خائفات، أشعر أحيانا أني حائط مبكاهن، يأتين معتقدات أني بوذا أو سقراط، وأن كوني كاتبا، يعني أن كل الحلول لدي، أسوأ واحدة فيهن هي التي تأتي لتفضفض لي عن رجل تحبه بجنون وهو لا ينتبه لها، هذه بالذات أطردها فورا غير نادم.

أما أجملهن فتلك التي تصل لهذا السؤال: هل لديك طريقة تنسيني فيها عذابي؟

 

سؤال الطريقة هو قبول كل المقترحات وأظنك لا تتردد في البحث عن أجملها؟

أقبلهن كلهن بكل أشكال عذابهن، وأحيانا أنخرط معهن في بكاء أو صمت، حين أتذكر أسبابي الكثيرة للبكاء.

 

هل عذَّبك الحب يوما؟

مرتان، فقدت فيهما عقلي، نحفت حتى ارتعب أبي ولطمت أمي خديها، وخاف أصحابي.

 

وبعدها؟

تركنني مع نحافتي، إحداهما شاعرة عربية معروفة جميلة جدا، ضحكت علي، قالت لي أنها تعشق أكتافي الضخام، دققت نصوصها، وساعدتها في طباعة ديوانها الأول وعرفتها على أدباء كبار، ثم هربت مني. الثانية قالت لي أنا لست بعذراء وأنت شرقي وأخشى أن تفضحني ثم اختفت في حضن رجل أعمال سمين.

 

وأنت الأعزب إلى اليوم، كيف تعيش الحب؟

تخليت عن الحب الذي يُنحف، استبدلته بالحب الذي يطور وينمّي وينضج ويأخذني إلى الابداع.

تخليت عن صيغ: أشعر أني أحبك، ولماذا لم تتصلي بي هذا اليوم، ومن هذا الذي يضع لك لايكات كثيرة. صرت أقول لها ما آخر رواية قرأتِها؟ هيا نشاهد فيلما معا، أو هيا نكتب نصا معا، أو متى آخر مرة فحصت فيها نهديك؟

 

لهذا لم تتردد في طرد المرأة التي جاءتك منذ قليل تشكو حب رجل لا يهتم لها؟

تعبت من حل قصص الصديقات العاشقات لغيري، قمت بهذا الدور كثيرا، مللت منه. أريد امرأة تشكوني إليّ. ممتع، أن تأتي امرأة وتقول لي أشكو لك زياد.

 

استعدت وزنك وما زلت تكتب دائماً، هذا أهم شيء. أشم في كلامك رائحة حديث بين سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر عن الأدب والوجود والعشق اللامحدود. هل يمكن لهكذا علاقات أن تنمو في مجتمعنا الشرقي؟

للأسف لا وجود لسارتر وسيمون العربيين، كم أعشق هذه الصيغة في الحب والحياة، الحياة العربية لا تحتمل هذا الجنون، قلت مرة في لقاء تلفزيوني أرغب في بنت من خارج مؤسسة الزواج فتطايرت فوقي الأحذية والحجارة والبيض. نعم استعدت وزني ومكتبتي أيضا استعادت وزنها، وتوقفت المريضات عن زيارتي. فقد تحول حائط مبكاهن إلى مجرد رجل يرغب في الضحك.

 

هل من كاتب تأثرت بتجربته ولاحقتك كتاباته ولغته؟

إدوار الخراط، نهبته نهباً، ثم نصحني هو بقتله فأطلقت عليه النار وصار أجمل جثثي.

 

كاتب له مكانة إعلامية ورواج ويعتبر عند العامة أنه كاتبٌ كبير بينما ترى أنت كتاباته أقل من عادية وربما تافهة؟  هل صادفت هذا النموذج في حياتك؟

نعم

الأسواني مثلاً

لا أفهم شهرته أبداً، كتابة مباشرة واقعية بشكل مهين.

 

مع ذلك حقق أعلى المبيعات وتحولت روايته إلى فيلم وغيرها من النجاحات التي يحلم بها أي كاتب؟

نعم وهنا المصيبة، ثمة خلل كبير يعصف بالذائقة العربية.

كما أن الموضوع لا علاقة له باختلاف الأذواق

أنا أتحدث عن غياب الحد الأدنى من الذوق، أتحدث عن ضرورة وجود معايير للتفريق بين مقال عن الفحم وقصيدة عن الفحم.

 

هل من طقوس لديك أثناء الكتابة؟ متى تكتب، ماذا تحتاج لتكتب؟

أحتاج للكتابة ورقة وقلماً، أكتب ملاحظات في أي وقت وفي أي مكان. أما الكتابة نفسها فتكون في مكان مغلق جدا.

ولا مجال لشراء وقت الكتابة حتى لو كان الثمن نهدي صديقتي الكبيرين.

 

يمكن لنهدي صديقتك الكبيرين أن يكونا طقسا بحد ذاته لكن لتضييع الوقت؟

نعم

الكتابة مقدسة

ولها وقتها

لها حياتها

لا تحب الكتابة أن تقايض بالنَّهدين

لله وقت وللقلب وقت وللكتابة وقت وللنهدين وقت.

 

في إحدى قصصك كتبت: “لكل منا غرباؤه الذين سيطرقون بابه في منتصف نعاس أو عتمة”… ماذا يفعل غرباؤك في هذه اللحظة من الحياة؟

يبحثون عن فرائس جديدة في كل مكان، هكذا هم يعيشون على التطفل على سعادات وأخبار وبيوت الأخرين.

 

كيف تبدأ يومك عادة؟

الاستيقاظ عند الخامسة صباحا، فطور دسم، رياضة خفيفة، قهوة ثم المدينة.

 

بالحديث عن المدينة، كيف هي رام الله في عين وقلب القاص زياد خداش؟

مدينة من نار، شهوانية تحرق عشاقها حبا، محتشدة بالمريدين والمحتفلين، في آخر الليل حين يتفرق الحشد من حولها تعود الى سريرها وحيدة.

 

تكتب القصة بلغة شعرية لا تخلو من الإسقاطات الفلسفية على واقع قد يختزل في مشهد أو لقطة عابرة، كيف تولد لديك هكذا تفاصيل؟

لا أدري أنا فقط أشهق انفجاراتي فتسيل التفاصيل.

 

ألمس ذلك في عناوين المجموعات المحملة بالإحالات، كيف يأتي العنوان؟

أختاره بمتعة، العنوان قبلتي العميقة، أول الارتعاشات، دونه لا تفاصيل، لا حب، لا نص.

 

كيف تقرأ واقع القصة العربية، خاصة ومجال التجريب أكثر انفتاحا اليوم على النوع المتعدد. هل من أسماء إن من فلسطين أو غيرها؟

هناك تجارب مهمة جدا في عالمنا العربي: أنيس الرافعي المغربي والفلسطيني مازن معروف والعراقي حسن بلاسم. هؤلاء الثلاثة أقرب القصاصين العرب إلى قلبي وذهني.

 

حتى أنا أعتبرهم كذلك، هل من مشروع جديد لك؟

نعم هناك خطة للكتابة عن بنتين صغيرتين فلسطينيتين ذهبتا بملبس المدرسة إلى القدس تحملان مقصات وطعنتا عجوزا تبيَّن فيما بعد أنه عربي.

الهدف ليس تمجيد فعل الطعن وبحثاً عن الأسئلة الوطنية بقدر ما هو بحث في الخيبة وسوء الحظ والطفولة الضائعة.

 

هل تشتغل على مجموعة جديدة؟ وبالمناسبة كلمة عن النشر العربي؟

نعم ثمة مجموعة جديدة ولا أعرف شكلها ومبناها بعد، النشر العربي في أردأ الأوقات، في مجمله هو نشاط تجاري بحت وما نحن سوى مشترين وزبائن.

 

طبعاً ونادرا ما ننجو من سوق السماسرة هذه بأقل الخسائر، ماذا تقرأ هذه الأيام؟

في أكثر من كتاب: أهمها كتاب مهم جداً: حياة متخيلة-عن جيل الخيبات والأحلام.

 لدكتور العلوم السياسية في جامعة الكويت شفيق الغبرا وهو فلسطيني لاجىء من حيفا، الكتاب مذكرات للكاتب عن تجربته في الكتيبة الطلابية التي قاتلت بشراسة في حروب بيروت.

 

هل تقتطف لنا جملة أو عبارة؟

(إن العمل على مقاطعة اسرائيل ودور الفنون وإحياء الذاكرة وتثبيت الهوية والمقاومة بالفن، وتثبيت الحقائق على الأرض والمقاومة بالغناء والرقص هذه الوسائل يمكن أن تكون مصادر ملهمة، لمقاومة مدنية رديفة من نوع آخر أكثر فعالية وشمولا.)

 

ماذا عن وظيفة المعلم؟ إلى أي درجة الأمر متعب وممتع خاصة في كسر القوالب وتحرير أفكار الأولاد؟

هي ليست وظيفة، بذلت جهدا خارقا لأجعلها بساتين أغان وفضاءات حب وفنون، كان ثمن ذلك صعبا جدا، ممتع جدا تحطيم عادة سيئة، والأجمل ابتكار أسلوب جيد للحياة، هكذا أنا وطلابي نعمل، تحطيم وبناء، تحطيم وفق رؤية لا وفق استعراض؟

 

كلمة عن مجلة أوكسجين الثقافية؟

 أول طعم لحليبي الثقافي رضعته من ثدي أوكسجين، ثم تنفست هواءها وأنا أحبو ثقافيا ونشرت على حبلها جنون غسيلي.

 

أختم بعبارة أحببتها في كتاب “خطأ النادل” وأترك التعليق الأخير لك:

“لم يخطئ النادل يا صديقي، لم يخطئ، لقد أعطانا قهوتنا بعد ثلاثين عاماً من الآن”

النادل اللَّعين ما زال يخطئ لكن أجلّ ما في خطئه أنه يؤكد لنا أنَّنا أحياء جدا وننتظر بشغف قهوته اللذيذة.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر من الجزائر صدر له "سعال ملائكة متعبين" 2010، "مائة وعشرون متراً عن البيت" 2012، و"الرقص بأطراف مستعارة" 2016، و"يوميات رجل إفريقي يرتدي قميصاً مزهراً، ويدخن L&M في زمن الثورة" 2019. و"مرثية الأبطال الخارقين" 2023.