قال لها:
من هؤلاء الرجال الذين يشبهون فئرانا منتفخة البطون، ماذا يفعلون بحقلي يا امرأة؟
أجابته وهي تراوده عن نفسها:
– لا تقلق هؤلاء لجنة الحوار الوطني بين الأطراف المتناحرة، ماشاء الله إنهم في ازدياد و الحوار الوطني في تقدم، كانوا مائة وصاروا منذ شهر مائة ونيف.
قال بصوت متراخٍ وكأن المراودة نجحت معه:
– لكنهم يدوسون الحقل ويقتلعون أغصان الزيتون ذهاباً إياباً، انظري إلى الأشجار كيف غدت صلعاء.
أعدت له قهوة ووضعتها أمامه مع الشاش والضمادات الطبية.
– تعال اشرب قهوتك ودعني أنظف لك الجرح، ماذا ترانا نفعل بأغصان الزيتون طالما ابقوا لنا على الزيتون، هذا هو المهم، سوف نجد ما نبيعه ونتعيش منه، اتركوا لنا الزيتون وخذوا الأغصان، ليس كما أخذتم المناصب ولم تتركوا لنا الوطن.
قال لها وهو يتألم :
– لقد قطعوا لي إصبعا للضغط عليَ، حتى اعترف لهم، وقطع خصومهم الإصبع التي تقابله في القدم الأخرى ليجبروني على قول المزيد، لقد جعلوني أكذب، هؤلاء وأولئك، بحياتك هل وجد في ليبيا سر مذ خلقها الله لا يعلم به ليبي، كأن هؤلاء الأوغاد ليسوا من هذه الأرض أو أنهم يمثلون فيلماً حبكته الأسرار وعقدته ليبيا ؟!
وبكى من قسوة مالا يعقل ولا يحتمل… فتنهدت مواسية وهي تنظف قدمه من الصديد:
– لكني سأظل أحبك أنا وولدنا وابْن شنة وزيتون الحقل، حتى وإن كذبت، وتسببت كذباتك في مزيد من التقاتل، حتى وإن فقدت إصبعين من قدميك والحبل على الجرار، حتى وإن صار حقل زيتونك بلا أغصان، ونظاراتك بلا أذنين تحملهما.
ثم ودعته في نهاية تقطيب الجراح، ودست في يده قرص مسكن 900 ملغم، لم يجد أصابع ليقبض يده عليه فابتلعه، كان يريد أن يبكي مثل طفل تركته أمه وحيداً أول أيام الروضة، وأن يسقط على الأرض ويدق نفسه بها، لكنها شجعته ومنعته أن يبكي مثل النساء، فالبكاء لا يليق بالرجال، وأي رجال؟ من إنثالوا من أنسال محاربين أقحاح، شهد لهم العالم القديم بأنهم أول من اخترع العربات ذات العجلات وساروا بها في رمال الصحراء الكبرى، وشهد لهم العالم الحديث أنهم أول من ركب مضاد الطائرات على سيارات الدفع الرباعي المدنية، وتمختروا بها في الشوارع بعد انتهاء الحرب!
كان يريد أن يسألها أو يعقل أن تسير العجلات في الرمال، أو يعقل أن تذهب السيارات للجامعة والسوق والأعراس بمضاد للطائرات على ظهرها حتى بعد انتهاء الحرب؟ غير أن صاروخا مارقاً أنساه المحاولة، ليبقى شيشنق الليبي بمعزل عن التداول المنطقي للتاريخ عدةٌ من أيامٍ آخر.
عند مضارب أصحاب الفيل قيلت له كلمات بذيئة مثل يا ابن….وابن …وابن … فكانت مناسبة ليتذكر أمه ويطلب من الله أن يسكنها فسيح جنانه، تالله لقد عاشت حياة ضنكة مع والده في غرفة 3×4 ببيت العائلة بحي سيدي خريبيش، وإنها لم تستحم خارج الطشت مرة ولم تشبع من طعام ولم تعرض مرة على طبيب كيلا يمسسها رجل غير والده، وإنها لا تستحق هذا الرجم اللعين بعد رحلة عذاب مديدة من القضاء والقدر في ليبيا، وضعت خاتمتها قشرة موز علقت بقبقابها على السلم.
ورغم أن ذلك اليوم كان يوم مرحمة بامتياز، إلا أنهم أخذوا منه المعلومات التي تقال طوعا، كرها، ثم توجسوا خيفة من أن يخفي شيئاً خاصاً في المرة القادمة إن تركوه دون مكرمة، فأكرموه وقطعوا له الإصبع الصغير في القدم اليسرى، فعزّى نفسه قائلاً: إنه مجرد إصبع قصير صغير لا يحل ولا يربط ، فماذا إن قطعوه ؟ انه حتى لا يقول شيئا ولا يصنع فصا، على العكس سوف أتخلص من احتكاكه الدائم بالحذاء ومداواته، فوداعا له.
قال لهم ذلك ودخل في غيبوبة بسبب النزيف، لكنه كان متأكداً من أن رؤوسهم المحنية عليه وهو يتكلم، ستعمل على إسعافه لسماع ما يهذي به، لعل به ما يرضي فضولهم، كما أن شعورهم الطويلة التي لامست وجهه، وضعته في أجواء حرب البسوس ومسلسل الزير سالم، في حلقة كان فيها الجميع أزياراً، حتى الضيوف الذين زاروهم وشاهدوا الحلقة عندهم، رغم أنهم كانوا تيوس جاءوا بلا موعد إلا أن متابعه الحلقة حولتهم أزيارا، ولم ينفك عن الصراخ طيلة الألم وعلى اتساع غياهب اللا صحو:
– يا زير يا ابن الزير والزيره أنت وهو، منكم لله.
قال عظيمهم الذي علمهم القصف:
– داووه واعتنوا به ثم أرسلوا معه رسائل مزيفة للعدو، وأعدوا لهم ما استطعتم من صواريخ الجراد والراجمات.
مر في طريقه إلى الطرف الآخر بزوجته وحقله وطفله وحماره، لم يعرفه الطفل، جرى مختبئا خلف الحمار، الذي أصدر أنينا وحنيناً حين شم رائحته وارتخت مفاصلة فجثا في الحقل وسقطت من عينيه الدموع.
أما زوجته فقد بحثت عن صندوق الإسعافات الأولية ما أن لمحته من النافذة، وخلعت قفطانين في طريقها إلى الباب من أصل أربعة كانت ترتديها، مهرولة إليه بالمتبقي وهي تحضنه بيد وبالأخرى تحتضن الصندوق كيلا يقع، وكالعادة كان لا يريد أن يبكي مثل النساء وهي تعد أصابعه وتذكره بأن الشيشنقيون لا يبكون.
– قطعوا الأخرى يا وردة ، يعتقدونني عميل!
بكت وردة ثم تحاملت على كلمة عميل قائلةَ:
– قبح الله سرهم، سنظل نحبك أنا والطفل والحقل وأبي شنة ولجنة الحوار الوطني.هه
وبالفعل كانوا يحبونه .
صدق الطرف الآخر رسالته ورفقاً بإصبعه المقطوع حديثاً لطموه على خده، حتى انتفخ وجراء الانتفاخ اتجه وجهه صوب المغرب بعد أن كان متجها شطر المشرق.
رأته زوجته وهي تمسك جالون البنزين واقفة في طابور طويل منذ عدة أشهر، تتبادل فيه المناوبة مع جاراتها، كان يعرج من بعيد، تعثرت في عشرات الجالونات من حولها قائلة في نفسها : يا ساتر… من العرج يبدو هو، ومن ميلان وجهه شطر المغرب يبدو ليس هو، لكن يجب أن أتأكد من صندوق الإسعافات على كل حال.
كان الصندوق حاضراً بيد الطفل الذي أصبح صبياً إلى جانب والدته في طابور البنزين، وتعلم شيئاً من فنيات الإسعاف السريع جراء ما يحدث من مماحكات في الطوابير.
كان الحمار مخلصاً لتاريخه العائلي، فذهب إليه عندما شم ريحه ونهق عدة نهقات في الهواء تزامنت مع مرور صاروخ جراد أطلقه فتية من جهة أصحاب الفيل على فتية من جهة طير الأبابيل.
نقله الحمار سريعا وقد بات يدرك مسألة قطع الأصابع، المهتمة بها هذه الأمة، المهتمة بقطع دابر المشركين من كوكب الأرض، كان الحمار رغم ذلك سعيداً بعودة صاحبه ويتمنى لو أن الصبي يعتد والده مثله.
قالت وردة وهي تسلم جالوناتها لجارتها، بأنها لطالما انتظرته يأتي مثل حلوى الزوايا وخبز التكايا في مواسم المديح، مثل بحر الشابي يحتجب ويعود، وأنها ما فقدت الإيمان به مثل قرآن مجيد يكتب ويمحى على ألواح الكتاتيب، ولا فقدت الأمل به ولا ببنزين الوطن طرفة عين، رغم أنها فقدت ناباً وضرسين حتى الآن.
عطست جارتها فتكلم طابور الجالونات” يرحمكم الله” ورد سكان العاصمة التونسية “يهديكم الله ويصلح بالكم” .
قال لها : أَنَّى يكن ما فقدتِ فأنت ما تزالين بنظري وردتي الحبيبة.
وبكيا عند خط العرض والطول الفاصل بين وطنهما والبلد الشقيق المجاور، ومن باب الدعابة قال لها على ظهر الحمار المختال بما حمل:
– أمازلت تطمحين إلى الهرب وتقفين في طابور البنزين؟ يا لك من شقية، كأن هذا الوطن لم يعلمك شيء سوى أن تتعلمي كيف تهربين منه!
– أنت لا تعرف ما يخبئه وطن المرء له، تحسباً حتى وإن لم يصلني الدور في بنزين بلادي، فأنا محظوظة بدخولي في الصورة الكونية التي نقلها بالأمس رواد الفضاء من سابع فضاء، فقد قالوا بأنهم بالإضافة لسور الصين العظيم يمكنهم الآن رؤية طابور البنزين الملتوي من طرابلس حتى تونس، وقد أثنوا على ألوان الجالونات الزاهية به، حيث شكّلت من أعلى لوحة فنية تاريخية في عمر كوكب الأرض.
يجب أن يكون لدينا أمل رغم كل شيء.
وعانقته بيد واحدة بعدما تعسر عليهما شبك الأصابع، وكادت فرحته تُطير لفافة الشاش عن إصبعه المحزوز حديثاً.
قال لها اضحك الله سنك حين ضحكت..
فاكتشف فقدانها لأحد نابيها، فعبس قليلاً، لكنه لم يتولَ عن محبتها واحترامها كأيقونة صمود ليبية عريقة، سرق رأسها بأحد المواقع الأثرية. كان الاحترام المتبادل بينهما من قبل كبير، ثم جعلته الأيقونة يكبر أكبر وأكبر.
فالله أكبر.
وعلى صعيد القصف، ففي الطرف الذي سيطر عليه أصحاب الفيل، كانوا رحماء فيما بينهم أشداء على الآخرين، أخذوا منه كل المعلومات الجاسوسية عن الخصم ولكيلا يلعب بذيله ويعتقد بأنهم صدقوه، عذبوه ملياً بصفعه على خديه، وقطع له من بلغ الفطام منهم للتو، أذناً.
حين عاد لبيته مر بلجنة الحوار الوطني التي تعبر حقله فحياهم لحملهم أغصان الزيتون وتركهم الزيتون، جاءته امرأته بصندوقها الثمين وساعدته في دفن إصبعه على الطريقة الإسلامية، وبعد مواراته الثرى، بكيا معاً حتى لكأنه أحد أصابعها، وكان آخر دعواها أن يجمعه الله بما فقد يوم القيامة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار بعدما تعسر عليه ذلك في وطنه، ثم عادا للبيت وكأن جرحاً قد اندمل، تناولا حساءَ بالقديد وكانت حريصة على استبعاد العصيدة والبازين من قائمة الطعام حتى تجنبه ذكر أصابعه.
كان القمر مكتملاً في السماء مثل رغيف خبز في صباح بنغازي الباكر، له رائحة بداية الخلق في الأثير، وكان ابنهما يرابط في ثغور البنزين بالجالون إثر الجالون مثل أي رجل في العاصمة، فسمح لهما رباط الجالونات بشيء من الحب والخبز والبكاء.
في جبهة طيور الأبابيل، مر من أسفل ماراثون الصواريخ وتعرف على بعض أنواعها حتى تمنى أن هذا الفهم كان له ما يماثله أيام الدراسة، لكنه لم يتحسر على قطار التعليم كلما فاته لأنه فاته، فالبلد أصلاً لا تتحرك من مكانها ناهيك عن أنه ليس بها قطارات.
لا يهم قال لنفسه وهو يشيع نبظره صاروخاً عريضاً قصيراً ويتساءل عن جنسه، روسي أم أوكراني أم تشيكي أم … آه يلا هذا الوطن الذي تحول إلى مطارات للصواريخ، إنه لجدته يلمع وسوف يكون غنيمة ممتازة لتجار النحاس بعد انفجاره، قال في عقب الصاروخ الذي يمضي:
– سبحان مقسم الأرزاق، أتاكم به من حيث لا تعلمون، فاشكروه، إن الشكر يديم النعم.
ما أن أكمل قوله حتى سمع صوت الصاروخ يدخل بشيء ما لزج، وعلا معه نهيق موجع لأحد الحمير، فقبضه قلبه وهو يدير وجهه الكروي صوب حقله، وبيض الهند وروسيا وبلاروسيا تقطر من دمه.
لقد كنتُ إنساناً يا أولاد الكلب، فلماذا حولتموني إلى وقود للحرب بينكم ؟
في سنة سبعمائة وثمان ألف وتسعة عشر للهجرة، كان ذلك العجوز الذي اختفت من جسده الأطراف، مصدر فخر لعائلة الأبتر وفي نفس الوقت موضع ازدراء وتهكم من عائلة البتار، وكانت زوجته وردة مصدر فخر لعائلة المسعف وموضع ازدراء وتهكم من عائلة أبو جالون، وكان حقله موضع إجماع وطني بالعمالة والكراهية لمساعدته على فشل الحوار الوطني بسبب كبره تارة، واستنزاف جهود اللجان المارة به في جمع أغصان الزيتون تارة أخرى، لكنه في المقابل كان نقطة التهرب لعائلة النحاس التي كونت ثروة من أفران الصهر بين فريقي الصراع على ترابه، كلما سئلوا عن مصدر ثرائهم ، وكانت ذرية حماره من البغال والحمير هي الذرية الوحيدة المنسجمة والمتناغمة فيما بينها، فلا البغال تعير الحمير ولا الحمير تعير البغال، أما القمر فلم يكتمل أبداً منذ ذلك الزمان وما عاد يشبه رغيف خبز طازج في صباحات بنغازي الوليدة، يستهوي الراغبين.
وحدها زوجته التي فقدت جميع أسنانها لأنها فقدت رأسها مرة واحدة، انتظرت مجيئه كل لحظة عند باب الآخرة وسألت عنه القادمين من ليبيا، ألم تروه، إنسان بلا قدمين، بلا يدين، بلا أذنين، بلا لسان، بلا أنف، بلا شفتين.
أوصافه ليست معقدة، ألم تقابلوه؟
وفي يد كانت تحمل صندوق الإسعافات الأولية، وبالأخرى صورة وكالة ناسا للفضاء، تبدو فيها مثل وخزه إبرة لا يميزها سوى لون الجالون، مقبلة غير مدبرة وفي قلبها إيمان رسولي بأنها تزوجت من إنسان لم تساعده الأقدار على أن يحيا كانسان، وإنه بالذي أمات وأحيا، ضحى بجميع أطرافه الشخصية من أجلهما معاً لئلا يقتربوا من شيء آخر، اختلفا فقط في تسميته، فسمته هي خلاط “المولينكس” وسماه هو خلاط ” براون” وأن الاتفاق الوطني الوحيد الناجح في تلك الحقبة من العراك، هو الذي كان ينص على عدم المساس بالخلاط وما حوله، ما يشار إليه اليوم، مراعاة لتقاليد مجتمعنا المسلم المؤمن المحافظ، الطيب، المتكبر، بسنوات اتفاقية حماية الخلاطات الوطنية.
________________________
روائية وقاصة من ليبيا
الصورة من أعمال معرض للتشكيلي السوري ثائر هلال أقامه عام 2012 تحت عنوان In Army We Trust.
*****
خاص بأوكسجين