الإنسان حيوان قصصي، مفطور على “كان يا ما كان”، وكل ما يتحلق حول هذه العبارة يضيء ويفتن، ويفتح الباب على مصراعيه أمام المتخيل والخرافي والأسطوري، وهنا يمكن القفز فوق محددات الواقع من مكان وزمان واستحضار ما يلوي عنقه، ولعل هذا ما فعله المخرج الإيطالي ماتيو غاروني في فيلم “حكاية الحكايات” Tale of Tales عائداً إلى القرن السادس عشر، مستخلصاً ثلاث حكايات من كتاب بعنوان الفيلم نفسه للشاعر الإيطالي جامباتيستا باسيلي (1566 – 1632).
ولعل هذا الفيلم قفزة مغايرة عن ما قدّمه غاروني من أفلام، هو الذي عرفناه مع “غامورا” 2008 و”واقعية” 2012، وهو يضعنا أمام فيلم مدجج بحكايا خرافية إلا أنها أيضاً تلوي الخرافة وتلطخها بالأسود وتحمّلها شحنات مجازية دامغة، متأسسة على تناغم القصصي مع البصري، وهذا لب ما يحتاجه فيلم يمضي خلف هكذا أسلوب حكائي.. ثم أليس الفيلم في أبسط تعاريفه هو سرد الحكاية عبر الصورة!
الملكة (سلمى حايك) عاقر هذا ما سنعرفه بعد تسع دقائق من الفيلم لا يُنطق فيها بحرف واحد، لكن هناك حل للأمر آت من عراف أو ساحر، يسأل الملك أن يصطاد كائناً بحرياً أسطورياً وأن يستخلص منه قلبه، ثم تقوم عذراء بطبخه وتأكله الملكة فتنجب في الحال. وهذا ما سنشاهده بمتعة بصرية أخاذة، إلا أن الملك سيموت بعد أن يصطاد تلك السحلية البحرية هائلة الحجم، وبدل أن تنجب الملكة لوحدها، فإن طباخة القلب الفقيرة ستنجب أيضاً وهكذا نكون حيال ولدين توأمين طبق الأصل عن بعضهما، سنقع عليهما في قفزة مونتاجية بعد 16 عاماً والملكة تلاحق ابنها فإذا هما اثنين أبرصين وهذا ما جناه عليهما قدومهما من قلب سحلية بحرية.
فيما تقدم معبر إلى الحكاية الأولى مع التأكيد أن الأمومة هنا قوية وجارفة ومدمرة لكنها في الوقت نفسه لن تصمد أمام الأخوة، والملكة تسعى للفصل بين ابنها وابن الطباخة. في الحكاية الثانية نحن حيال ملك داعر (فينسنت كاسل) لا يفارق القصف واللهو والنساء العاريات من حوله كما في الجنة متكئات على الأرائك رهن إشارته، وكما هي اللذات كلما انغمس فيها المرء أمسى ساعياً للمزيد منها، فإن الملك وحين يسمع من شباك قصره امرأة تغني يقع في غرامها على الفور، ويصبح ولهاناً بها يترقب ظهورها، إلا أن هذه الصوت الذي سمعه ليس إلا لامرأة عجوز تعيش مع أختها العجوزة أيضاً وكلاهما محتكمتان على قدر من القبح مع كل ما يخلفه مرور الزمن تجاعيد وترهلات، هذا عدا عن عملهما في دباغة الجلود. بينما تأتي القصة الثالثة بملك وابنته يحيط بهما الملل وقصرهما في مكان ناء، ولا يجد الملك (توبي جونز) ما يبهج أيامه سوى تربية برغوث سرعان ما يصير بحجم خروف كبير وحين يموت يحزن عليه كثيراً.
يسلخ الملك جلد البرغوث، ويسعى إلى تحقيق رغبة ابنته الملحة بالزواج، واضعاً شرطاً يتمثل بأن من يحزر لمن يعود هذا الجلد من الحيوانات فإنه يكون عروس ابنته، ويعجر الجميع عن ذلك باستثناء غول يحزر أن الجلد لبرغوث فيحمل ابنته مفرطة الرقة على كتفه ويمضي بها إلى كهف في أعالي الجبال.
تلك هي الخيوط الأولى للحكايا التي يسردها الفيلم، والتي لها أن تحمل الكثير من المنعطفات والمفاجآت، ولعل أول ما يستوقفني في تلك القصص هو كسرها للمألوف في الحكايا الخرافية، وخلخلة بساطتها، لتكون هنا ذات أبعاد درامية متشابكة ومفاجئة ولعل ذلك يتضح في أن تكون صاحبة الصوت الجميل قبيحة وعجوز، ومن يحظى بزواج الأميرة ليس بذاك الأمير الوسيم وغير ذلك من خصال تهب الفيلم جرعة جمالية مشوقة على مستويات متعددة.
بالعودة إلى أن الإنسان حيوان قصصي، فإن اطلاق بازوليني على أفلامه “الديكاميرون” 1971 و”حكايا كانتربيري” 1972 و”ألف ليلة وليلة” 1974 اسم “ثلاثية الحياة” يضيء بقوة على فطرة الإنسان القصصية، لتكون حياة الانسان حيوات مترامية وهو يتلقى القصص ويقرأها ويشاهدها، وخاصة حين نكون حيال كلاسيكيات الأدب العالمي المفصلية وتحديدا تلك الراسخة في المخيلة الإنسانية و”دونكي خوته” تقتبس سينمائياً لعشرات المرات، بينما يقدم المخرج الانكليزي توني ريتشاردسون على تحويل روايتي هنري فيلدينغ (1707 – 1754) “جوزيف آندروز” و”توم جونز” إلى فيلمين استثنائيين.. على كل كثيرة هي الأفلام التي اقتبست من أمهات الأدب العالمي، خاصة تلك التي أقول بيني وبين نفسي كيف لي أن أموت ولم أقرأها بعد؟ ولتأتي مشاهدتها مجسدة سينمائياً على شيء من تسكين ذلك الهاجس وإن كان تسكيناً جزئياً.
تريلر الفيلم:
*****
خاص بأوكسجين