لا يصلُ صوتي المرآة
لا يصلُ صوتي المرآةَ. أكثرَ وحشةً من الماء وراء السّفينةِ ــ أقبضُ ببقايا يدي صنّارةَ الوقتِ، لأصِيْدَ الوجيفَ- ليس إلا الوجيف.
لا يصلُ صوتيَ المرآةَ، ولا أحلمُ بأكثرَ من أن لا يرنَّ الهاتفُ النّقّالُ اللحظةَ.
لا أحلم بأكثرَ من أن لا يدخلَ زبونٌ الآن فيرى صحنَ سجائري وقد طفحَ بالبياض.
لا أحلم بأكثر من أن يُكْملَ العنكبوتُ الصّغير طريقَه التي بدأها من قدمي…
لا أحلمُ بأكثرَ من أن لا أرى المشهدَ أمامي بمساميره التي تبعثرتْ في المكان..
لا أحلمُ بأكثرَ من أن لا أرى…
لا يصلُ صوتي المرآةَ-
واللـ ــ ــ ــ ــه لا أحلمُ بأكثرَ من أن يصلَ العنكبوتُ الفتيُّ رُكبتي- ولا بأكثرَ من أن أغيب.
ها أنا مقابلَ المرآةِ، أرى ظهريَ- تحيط بي جثثُ المفرداتِ كلِّها كجثثِ جيشٍ مدحور- لكم تُشبهُ الجثثُ الجثثَ….!
أترهّل، قليلاً، قبل أن يصلَ صوتيَ المرآةَ- وأنا أغادرُ مكان عملي في شارع “ديورانت”، وقبل أن يُنهيَ العنكبوتُ الصّبيُّ استراحتَه عند عضويَ الذّكريّ- إلى حيث ينتظر البطُّ والإوزُّ الكنديُّ المحميُّ، في مياه بحيرة جونسون، أمام مقعدٍ خشبيٍّ- هناك أجلسُ ويميني ممدودةٌ على جانبي دون كتفِ امرأةٍ ترتاحُ عليها. إلى جواري زوجان من الباكستان يتحدّثان عن شركة IBM وعذابِ القُبورِ، ويشيران إلى سلحفاةٍ سوداءَ رفعتْ رأسَها خارج الماء. وورائي، يعبرُ مصريٌّ في الشّورت يُمسكُ بيدِ زوجته المنقّبةِ: لوهلةٍ وددتُّ أن أطلبَ منه أن يمسحَ جبهتي ويدعني أذرف دمعتين اثنتين قبل أن تتهاوى يدي عن هواء المقعد.
رحَلَ الزوجان الباكستانيّان. صبيّةٌ قعدتْ في مكانهما، تقرأ في ما يُشبهُ كتابَ التّشريحِ…! لو أنّها جلستْ تحت يدي المُرْهَقةِ، لربّما تأجّلتِ الدّمعتان، ونفضْتُّ العنكبوتَ الرّاشدَ عن صدريَ الأيسر.
يهبطُ الظّلامُ على بحيرة جونسون.
أنثى سمراء تنظرُ من فوقِ كتابِ التّشريحِ إلى شرقِ أوسطيٍّ يفصفصُ بذورَ المعنى ويتفُّ القشورَ، واللّبابَ أيضاً، يُخربِشُ أسماءها ويصرخُ في مرآةٍ لا يصِلُها صوتُه. بينما يبدأ العنكبوتُ الهرِمُ رحلتَه من رأسيَ باتّجاه القدم. وأقْفِلُ عائداً إلى شقّتي في جادّة “كوليريدج”.
جثث تبيع الجثثَ وتنشد “يا عـ..”!
حذّرتُكَ يا شبيهي
بألا تلقي بنفسك إلى الخارج.
الخارج محفوفٌ بجلود الأرواح اليابسة.
سترى خرواتٍ يلعبون الورق
ويقلبون طاولة اللعب على العدوّ والشريك،
ورجلاً وجهه يشبه طيزاً بنظارات
يتحدث عن العمائم وبكتريا المزارات،
سترى بناتٍ من السيليكون،
أسرابَ غرباتٍ أبابيل
لا تُخيفُها فزّاعاتُ عزلتك.
وسترى، يا شبيهي الأعمى-
أعمىً يقودُ عمياناً
تُدمي مناقيرُهم صدورَهم البيضاءَ،
وتهذي بفيءٍ ونُوْقٍ
أدمغةٌ لهم جَرَّحتْها
نصالُ القصبِ المُمَلَّحَ،
فجرّحتك!
ثم ستسمع نشيج صديقكَ المغفَّلِ
وهو يبحث في هاتفه المحمول
عمّن “يهاتفه حين تتشلع الروح”،
لتردَّ الشاشة بصورة إصبع وسطى.
سيسعلُ صاحبكَ كي يذكِّرَ نفسَه
بأنه لا يزال في حيِّزهم فلا يتعرّى من نفسِه،
وأنه هنا، يجرُّ وراءه اسمَ “أ. م. أ.”
ويشبك بقيةَ أصابعه، بقوّةٍ،
بأصابع الانتحار.
ظلال تتفصّد بالدّم في حفل تصحيح الأخطاء
كنتُ العسكريَّ في الأرض البعيدة،
لم أعرف مع مَن، أو ضدَّ مَن، قاتلتُ!
لم أخشَ أن تنهشني جثّتي في نعشٍ واحدٍ مُحكَمٍ باهت، بقدر ما خشيتُ من فكرة أن ليس لديّ من يتذكّرني ويبكيني.
*
كنتُ القطّةَ على حافّة سطح الطابق التاسع، ورائي الهاوية، وأمامي يأتي ولدٌ شرير ملوِّحاً بعصاه!
*
حين كان الليلُ طفلاً، كنتُ أتبارى معه مَن يبزُّ الآخرَ بالسَّواد.
كان ذلك في فناءِ المنزل العتيق المهجور.
لم يكن هناك ثمة عوالمَ ــ محضَ “لا عوالِمَ” رأيتُ: تهتفُ دهماءُ الهواءِ لصورِ السيِّدِ (لا أحد) المنتشرة في كلِّ (لا مكان).
ينحتُ المثّالون تماثيل له من هواء، ويكتب آخرون بحبر شفّاف عن الأشجار الشفيفة. أتذكّرُ أنني رأيتُ امرأتين من كريستال ترتديان الماء، ورجالاً من كرتونٍ يرتدون الكريستال. وفي خمِّ الممسوسين، كان هواءان اثنان يتحدثان عن أعمدة كهرباء وقتلى حروب، وكانت عصيّ القساوسة اللا هجين بفطائر الضوء ترتفع لتنهال على أحدهم، كان اسمه بازوليني آكل العناصر.
في ردهة المنزل صورة بالأبيض والأسود لجنديٍّ دُمْيةٍ اشتغل سائس خيلٍ مع الجيش الفرنسي في المستعمرات.
الغرف الأخرى كانت مكتظّةً بأرواحٍ تتبادل السّباب لأن إحداها أخفتْ علبة السّكّر في الحمّام، حيث مات عمي البلاستيكيّ بحادثة سقوط سروال!
*
أنا أحد شخوص روايتكم، خرجتُ محشرجاً من الفصل السابع، لأفاجَأ بملصقٍ على رخام بيتي يقول: out of order!
*
أنا الذي أطفأني مخملكِ الأحمر، حين سحقتِ فلتر لفافتك البيضاء. ثم.. لا ألوان!
كان جفناك مكحّلين. كنتِ تتأمّلين في ذرواتكِ السريعة، وكنتُ أفكّر بالدود، ثم أكتبُ لأرتُقَ الخليّةَ الأولى التالِفة، أخلعَ عنّي أسمائي: أسحقها سمكةً بصقةً!
*
نعشُ فكرة بلا ثياب، بلا أصابع. كانت السيدة تتهم من داخله يديَّ بأنهما عدوّتان، لم تمتدا قطُّ إلى رمّانها.
*
أنا في نعشٍ معطَّرٍ بعطرٍ فاخر. النّعش يمرّ بنصب النعش الخالد.
*
لا أزال في النعش، ونهدها في البعيد، يقضّ نعشي.
*
أنا الذي مرّ بنعوشٍ لا حصر لها: نعوش يحملُ بعضَها مشيّعون داخلَ معلَّباتهم، وبعضها على أكتاف مشيِّعين في دواخلهم معلّباتُهم.
وعلى الأرض كانت تفرّ وتكرج محارم التواليت البيضاء.
*
أنا في نعشي الثالث، ومن نعش محي الدين ابن عربي يطلّ مارلون براندو، ويقرأ في خطبة الجمعة الشهيرة على أسماعنا، أن العالم بعدَه سيمتلئ بالأقفال والمزاليج، وسيخلو من الأبواب والأيدي. وينهي الخطبة بلعن أولئك الذين دهنوا حيطانهم بالأصفر، وأولئك الذين لم يدهنوها.
*
في نعوشنا/ المختبراتِ الميدانية، كلماتٌ محنيّةُ الظهور، لن نبرأ منها، الكلمات، تصطكُّ أسنانها ـــ تستنبتُ في الأنابيبِ دودةَ حديدٍ ستنخر أبراجَ الذكاء. وسيسكن الـ “دكتور جيكل والمستر هايد” أبداً تحت أهدابكم.
*
تتفصّدُ الظلالُ بالدمِ في حفلِ تصحيحِ الأخطاء!
*****
خاص بأوكسجين