إلى بسام حجار
الوقوف على الحدود يجعلك تفكِّر في عدم السّفر أو في الرّحيل إلى الأبد، فهنا يمثّلون بجثّة فكرة العودة. ربّما كان خطؤنا أننا لم نلعب (نطّ الحبل) بالأشرطة الحدودية.
أصلُ الفندقَ وأغسل عنّي وجع المسافات الطّويلة بين بلادٍ متلاصقة. كلّما سمعت صوت الطائرة خفضتُ رأسي -بحكم العادة-، رأسي الّذي لم يستوعب بعد أنّ الطائرات المدنية مازالت تحلّق فوق العواصم.
في بيروت التقيت خلال يومين عددًا هائلاً من النّاس، وأنفقت من صوتي مقدار ما أصرفه هنا خلال عام ونصف تقريبًا. هنا يترهّل كل شيء ابتداءً بحبالك الصوتية وليس انتهاءً بلغتك.
أكثر ما يمكن أن يفسد متعة زيارتك إلى أي مدينة في العالم، رفقةُ شخصٍ من حلب أو يعرفها بشكلٍ جيّد، ستظلّ تفتّش عن دهشتك بين قسماته دون جدوى. حلب المدينة التّي أبكيها من الصّور وأحاديث الناس، المدينة التي لم أزرها كما يجب، المدينة التي كان على خاتم زواجي أن يكون مشغولاً بيدِ أحدِ صيّاغِها، مع أنّني -وياللمفارقة- رقصتُ حاملةً صحن الحنّة في أحد شوارعها، صحن حنّة عرسٍ غريبٍ. كنتُ مراهقةً حينها، أستطيع أن أرقص حتّى على شارة نشرة الأخبار، هذا قبل أن يرافق تطاير الدّم خبطات رجليَّ الصَّغيرتَين، بمقاس 36، ما أضأل جنّة ابنتي. ابنتي الّتي ستأتي مقطوعةً من مدينتين منكوبتين، إحداهما لم تزرها أمّها كما يجب، والثّانية لم تخرج بثوبٍ أبيضَ منها.
حين مررت بسوق صيدا القديم أخبروني أنّه يشبه بشكلٍ ما أسواق حلب. أكلت الفول في ساحة “باب السراي ” وشربت الشاي بالنعناع في عكّا. أخبروني أيضًا أن صيدا تشبه عكا، إذًا ندين لخيالنا بهذه الرّحلة، مقابل أن يسلِّم لنا على الأحبة ويدفع بقشيشًا سخيًّا لشتلات نعناعٍ جذرها هناك بينما تفرّخ رائحتها في القلب هنا.
القصة تشكّلت ملامحها من شعري الأشقر والمعطف الأحمر وقلق الأمهات، الغابة تنكّرت بهيئة القلعة البحرية، الذئب أكل الشمس ولبس نظارات المطر. دخلتُ قلعة صيدا بحثًا عن عبرة مبلّلة أضعها تحت وسائد أطفال المدينة قبل أن أغادر. هل ستكون أيُّ عبرةٍ مجديةٌ لأطفال لن يقتنعوا يومًا بأن هذه القلعة الصغيرة كانت تحمي مدينتهم، وهم يرون مدنًا حولهم تُدمِّر نفسها بنفسها؟. داخل القلعة حزنت، وحينها أدركت أن “البحر كان هناك،/ في كلّ اتجاه”، والمدن خلفي ليست سوى ماء.
استقلينا الحافلة وعدنا، عبر الطريق الّذي كنت تقطعه يوميًّا، ربما جلسْتَ في هذا المقعد ذاته، ربما كتبت بإصبعك مفرداتٍ على غبش هذه النافذة ذاتها ونزلت من دون أن تصحبها معك. فقط لو أستطيع تهريبها داخل حقيبتي.
كيف نكتب عن مدنٍ لا نعرفها بشكلٍ جيّد؟ أيجعلنا ذلك مثل مسّاحين يضعون خوذاتهم ويطلّون على أرضٍ غريبةٍ شاسعة من خلال عدسة؟. أعلم أنني أوجّه سؤالاً خاطئًا إليك أنت الّذي لم تجد “مكاناً/ أَرْحب من هذه النّافذة/ أضأل من هذا المقعدْ”. أنت المبشِّر بـ “سعادة الأشياء الضئيلة/ بين الغرفة والرواق”. كيف أشرح لك علاقتي بالبيت؟ صارت هذه المفردة (بيت) تثير الهلع فيّ، نعم “البيوتُ في الذَّاكِرة غُرَفٌ مُعتمَةٌ/ ومَمَرّاتٌ”. لم يعد لها مكانٌ إلاّ في الذّاكرة، كلّما هززت رأسي وقعَت طوبة. كيف أخبرك بأنني أقدّرُ الأثاث أيضًا، وأنصت إلى صمته بإمعان، الأثاث الّذي لا أملك منه سوى تلك الانحناءة في الأريكة لكثرة الجلوس.
لماذا نختار غرباء كي نرسل إليهم رسائل تشقّقت من حدّة أفكارنا؟. أخطئ في الاتجاهات بشكلٍ مضحك. قبل أن أغادر بيروت كنت أتجوّل بين الكتب، هناك وتمامًا قبل أن يلكزني الضّياع لمع اسمك، وهذه كانت من المرّات النادرة التي أصل فيها. أقدّر الأخطاء التي تقودنا إلى صوابٍ ناصع. ولأنني فاشلةٌ في الاتجاهات لم أعلم في طريق العودة كيف سأدلّك على الشِّعر؟، كيف بإمكاننا أصلاً أن نشير إلى شيءٍ بينما نحضُنه؟. لا أدّعي أنّني قارئة شعر، لكنني واثقةٌ من إجادتي لحَضنِه.
لا أعتبرك غريبًا، حتّى أنهم حين سألوني عن اسمي، قلت: مروى “التي تَحْسَبُ النّومَ عطلةً زائِفة”. نظروا إلى هويتي ولم يصدّقوني، قلت لهم: بإمكاني أن أرسم لكم “أفواها لكي تبتسموا”. عبسوا أكثر. وحين تذكّرت خطًّا لم أتركه على جبينك، قلت: اسمي نسرين. ولم يبتسموا أيضًا.
أتعلم؟ المشكلة، كلّ المشكلة أننا ذهبنا إلى الحرب ولم نغلق الباب وراءنا. فقط لو أصغينا إليك.
_______________________
*الجمل الموجودة بين علامات التنصيص مقتبسة من الشاعر بسام حجار
شاعرة من سورية صدر لها “بجرة حرب واحدة”، دار التكوين – دمشق 2015
______________________________________
شاعرة من سورية من أعمالها “بجرة حرب واحدة”
الصورة من فيلم “مكبث” 2015، إخراج جاستن كارزل.
*****
خاص بأوكسجين