الصحفي: تحدث عملية تطوير قدرات الكاتب الأمريكي اليوم داخل الجامعة، ضمن مناهج الكتابة الإبداعية. هل فكرت يوماً باتباع هذا السبيل؟
فرانزين: لا، لكني تزوجت عوضاً عن ذلك بقارئة صارمة ذات ذائقة فنية رائعة. كنا نتّبع منهجاً خاصاً بنا لدرجة الماجستير، وكان يجري على مدار الساعة. استمرت هذه الحقبة من زواجنا ست سنوات، وهي أطول بثلاث مرات من منهج الماجستير العادي. أضف إلى ذلك أنه لم يكن علينا في هذه الحالة أن ننجز تلك الحلقات الدراسية الغبية التي تُطلب منا في الكلية.
وكنا قد حاولنا في وقت من الأوقات التقدم إلى بعض البرامج يدفعنا الأمل بالحصول على دعم مالي من الجامعة، وقد تم قبولنا معاً في “جامعة براون”. لكن المال الذي عرضته لم يكن كافياً. وقد أدركت متأخراً أنني كنت سعيداً لعدم الذهاب، لأن ذلك كان من المحتمل أن يروّض جموحنا في العمل الذي اتضح أنه كان مفيداً، بل وضرورياً في بعض الاماكن. أسعى دائماً كصحفي إلى أن أصبح أكثر احترافاً، لكني كأديب أفضّل دائماً أن أبقى هاوياً… أو بالأحرى جامحاً.
الصحفي: هل ابتكرتما نمطاً آخر من المناهج لنفسيكما؟ هل كنتما تذهبان لجلسات الاستماع؟
فرانزين: لا. لم نكن نرغب بالتواجد مع كتّاب آخرين. كان كلانا يدرك، بحالة شبه واعية، أننا لم نصل بعد إلى ذلك المستوى الجيد في الكتابة، وكنا بحاجة إلى أن نحمي نفسينا من المواجهة المثبّطة للهمم مع أشخاص وصلوا إلى المستوى الذي ما زلنا نحن نسعى إليه.
الصحفي: ما هي الكتب التي كنت تقرأها خلال تلك السنوات؟
فرانزين: كل ما تقع يداي عليه. كنت أقرأ الأدب لأربع أو خمس ساعات كل ليلة على مدى خمس سنوات. قرأت ديكنز، والأدب الروسي، والفرنسي، والأدب الحديث، وما بعد الحديث. كان الأمر أشبه بالعودة إلى فصول قراءاتي المطولة في الصيف عندما كنت فتياً، مع فارق واحد، هو أنني في هذه الفترة كنت أقرأ الأدب متلمساً من خلاله كل الدروب التي يمكنني السير فيها لأتعلم أصول الكتابة.
لكن تبقى أهم الكتب بالنسبة إلي هي تلك التي قرأتها في خريف العام 1980، وهي “مالتي” “Malte”، و”ميدان ألكسندر في برلين” “Berlin Alexanderplatz” ، و”الجبل السحري” “The Magic Mountain”، وعلى رأسها “المحاكمة” “The Trial”. الأسس التي بُنيت عليها قصة كل كتاب من هذه الكتب هي نفسها. إذ نرى في كل منها تلك الأنظمة السطحية… تلك الحياة التي نظن أننا نحياها ونمتلكها، تلك الحياة التي ليست سوى المنظومة التي يفرضها علينا المجتمع، والتي، سواء كانت مريحة أم لا، ننظر إليها على أنها “حياتنا نحن”. وهناك شيء آخر يتحرك في الأغوار العميقة لهذه الـ”حياتنا نحن”، والذي صوره الكتّاب الألمان على أنه “الموت”.
هذه الحقيقة المروعة، هذه الذات غير المقنّعة; العارية هي العلة الفعلية لكل شيء. والمذهل في كل الكتب العظيمة تلك هو أن كلاًّ منها استقى موضوعه الدرامي من خلال نسف الدروع التي تختبئ وراءها حياة ما. تبدأ دائماً بشخصية مغلفة بالحماية بطريقة أو بأخرى، ومن ثم تجردها من عوامل حمايتها أو تفجر السطح الذي يقيها، وتجبرها على الدخول في صراعات مع ما يعتمل في أعماقها. ذلك كان المنهج المتبع في “المدينة الخامسة والعشرون” بشكل مباشر ومفضوح، حيث يتم تناول شخصية بروبست المحاطة بكل دروع الحماية، ومن ثم البدء بتجريدها من تلك الدروع واحداً تلو الآخر.
الصحفي: وكنت ترى شخصية مارتن بروبست صنواً لشخصية جوزيف ك؟
فرانزين: في ضوء قراءتي السطحية لكافكا، نعم فعلت ذلك. هكذا فجأة، ودونما سبب، نرى مجموعة من الهنود في سانت لويس يتآمرون على تدمير حياة بروبست.
الصحفي: قرأت يوماً أنك دخلت في مخاض مؤلم في بداية “المدينة السابعة والعشرون”، كتبتها وأعدت كتابتها، وبعد ذلك كتبت الأطوار الأخيرة منها…
فرانزين: نعم، تكرر ذلك في معظم أجزاء الكتاب.
الصحفي: في معظم أجزاء الكتاب، وبهذه السرعة؟!
فرانزين: عملت لأشهر طوال على الفصل الأول، والذي كان يدور حول بروبست الذي ينزه كلبه، ويشعر بالرضى المشوب بالذنب عن كل ما أنجزه. أمضيت ساعات لا حصر لها لأبتدع جملاً منمقة وبديعة في وصف سحر الليل في ويبستر جروفس آواخر مساء يوم من أيام الأسبوع. إنه الفصل الذي ينتهي بموت الكلب. كان مكتوباً بإسهاب مفرط وبأسلوب متكلف مريع…
الصحفي: ما الذي تعنيه بالإسهاب المفرط والأسلوب المتكلف؟
فرانزين: كنت احاول أن أملأ الجملة بالصور اللفظية، وأن أتخمها بالتدبيج. كنت ما زلت تحت تأثير الكتّاب الألمان إلى حد كبير. يمكنك في اللغة الألمانية أن تتخم بنية الجملة بالكثير من المحسنات اللفظية، وهو الشيء غير المحبذ في اللغة الإنجليزية المكتظة بكل أنواع القواعد اللغوية. كنت أعبث باللغة وإمكانيات الصوت، على الرغم من أنني لم أكن ألجأ إلى الجناس الاستهلاكي. كنت قد قرأت “أركض يا أرنب” ” Rabbit