هذه الحكاية أعددتها خصيصاً لحفيدي الذي أغرى أبويه بإلقائه في هذا العالم قبل مغادرتي له، وإن لم يتسن لي العيش حتى أرويها له، فها أنا قد كتبتها من أجله. والهدف منها ليس أن ينام بل أن يفتح عينيه جيداً ليقدر قيمة الإتيان به إلى الحياة حق تقدير، في قرية منفتحة وليس لها من مثيل -مهما حاول أن يكرهها- إذ بمقدور الناس والحيوانات والنباتات والأمراض والرياح من كل نوع، الانتقال إليها بيسر وسهولة، فما من أسوار أو حواجز أو حراس أو قوانين ستمنع أوتعرقل.
شرودنغر -كما سمت نفسها ولم يسمها أحد- هي استثناء كوني. ظلت ترفض كل اسم يطلق عليها، حتى مرت بها كل أسماء الدنيا ولم تقبل منها سوى شرودنغر، الذي وهبها خاصية نادرة للغاية عندما تسمته، جعلتها تدور داخل المكان والزمان مغيرة مكانها تلقائياً، وكأنها الشمس تصبح في مكان ثم تغدو في آخر.
ما على حفيدي إلا أن يقدر هذه النعمة وأن يلتزم بالشيء الوحيد الذي لم يتغير في شرودنغر، وهو قبور السواح الأمريكان الستة الذين زاروها ولم يرجعوا منها أبداً، عليه تقديم القرابين لأرواحهم في العيد الوطني احتراماً لعاداتنا وتقاليدنا في تبجيل الموتى وإحترامهم حد القداسة.
يُحكى أنهم كانوا الوحيدين من أجناس الخلق الذين زاروا شرودنغر، وعجزوا عن العودة منها إلى وطنهم، ليس بسبب ما فيها من جاذبية عالية، بل بسبب أسوار بلادهم التي ما فتئت ترتفع يوماً بعد الآخر حتى فصلتها عن العالم وفصلت العالم عنها وحولتها إلى ألكتراز مع نفسها.
فشرودنغر ما أصبحت أمام ألكتراز مرة إلا ووجدتها قد رفعت الأسوار أكثر من ذي قبل، حتى غدت الأسوار أهم ما يميزها ولم يعد يظهر منها على العالم الآخر سوى نتفة بسيطة منطفئة من شعلة تمثال الحرية، وشيئاً من خراء الطيور على رأس المرأة حاملة الشعلة.
حاولت شرودنغر الدوران من أجل السواح مرتين في الأسبوع، غير أن ألكتراز ارتابت في حركتها وافترضت أشياء سيئة تقف وراء التحركات التي وصفها خبراء في الأمن الاستراتيجي بالمريبة وبأنها ليست سوى أطماعاً رخيصة في بلادهم وعقدة نقص جغرافية ومشاعر دونية تنتاب الذين لم يستطيعوا أن يكونوا ألكترازمع أنفسهم ومع الآخرين، في حين فسر معبرو أحلام، حركة شرودنغر في ضوء نظرية الزمكان فائق الميوعة.
كانت شرودنغر في دورانها والسواح على ظهرها كأنها الشمس في مسيرها. وكانوا وهم بين طيات ترابها، يشيعون رؤسهم بعض الأحيان متسائلين: أين نحن؟ وهل وصلنا أم ليس بعد؟
كنا نجيبهم بأن الأمور لا تجري من طرفنا نحن فقط، فلكل شيء وجود آخر غير مرئي في عالم غير محدود لا يمكننا التحكم به، ثم نرش على قبورهم الماء العذب ونزرع على أطرافها الورود ونحرسها من عصف الرياح.
كنا نروي لهم القصص وأحداث حياتنا اليومية أيضاً اعتقاداً منا بأنهم يسمعوننا، ولا أعرف هل من قبيل المصادفة أم من قبيل سواها أن ذلك ما حدث تماماً، فحين صحا جوبس من بينهم يوماً وسألني ما إذا كنت قد أتممت معاملة استخراج جواز سفر جديد أم لا. أجابه ريمون من القبر الآخر رافعاً أغصان زهرة الرابسودي عن وجهه :
– كلا، ليس بعد. إنها تنتظر تصديقات الوالي ولجنة تقسيم الكتب المدرسية إلى أجزاء حتى يسهل على التلاميذ حملها على ظهورهم.
ويبدو أن هذا الكلام تناهى إلى ماركس الذي تنهد عميقاً وعقب قائلاً:
– اللعنة!! بدلاً من إصلاح الطرقات المكسرة أمام عجلات حقائبهم!
أغمض رالف عينيه في مواجهة الشمس وتساءل:
– فاتني أن أعرف لماذا؟
فقلت له :
– إن كل شيء مرتبط ببعضه ارتباطاً عجيباً وشائكاً، قد لا تصدق أن أخذ إذن بالسفر قد يكون أكثر سهولة لو طلبته للذهاب إلى القمر وليس إلى جزء من كوكب الأرض!
وبينما نبتة البقلة الحمقاء تتابع نموها على القبر المحاذي له، قال ريمون:
– من الحسن أننا متنا قبل أن نعاصر العصر الينايري
مع هذه الخاصية التي وهبتنا الحياة جميعاً، لم نشعر بالضياع داخل قريتنا الأليفة، وإنما بالضياع خارجها، كانت التي تسافر بنا ما دمنا فيها وتسافر بكل رقودها لا فرق في المعاملة بين حي وميت وبين عربي وأعجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح .
استطاعت أخذنا لكوكب اليابان ذات مرة، كانت ساعاتنا هناك أشبه ما تكون بساعات قضيناها مع الرب والأزرار والابتسامات، حققنا فيها معدل تبسم مرتفع لم يسبق له مثيل.
كما كانت الساعات التي أمضيناها جيراناً لليبيا حافلة بمثيرات الضحك وغياب الأزرار وربها، فالناس هناك بمقدورهم أن يكونوا الرب نفسه، بلا حدود لما يمكنهم صنعه ببعضهم، أحد أولئك الأرباب الذين ترتكز ربوبيتهم في شكل كروشهم، جعلهم يسافرون وفقاً للنوع وليس للقدرة أوالاحتياج، احتفظ بالنساء كما يحتفظ الراعي بالنعاج للتكاثر، لذا كانت طريقتهم في التحقق من هوية المسافرين هي التعرف على الأجهزة التناسلية التي يحملونها، وليس وثائق السفر التي يحوزونها. كما كانت حركة الطيران دخولاً وخروجاً من ذاك البلد، تسير بالقسم.
يقسم رجل أن الطائرة لن تقلع بالركاب فلا تقلع. ويعود الركاب لمنازلهم وكأن شيئاً لم يحدث سوى أن عاصفة رملية منعت الطائرة من الإقلاع. ثم بعد عودتهم، يقسم رجل للآخر شاهراً عليه السلاح أن الطائرة ستقلع، فتقلع إلى وجهتها وهي فارغة من الركاب، كما لو أن شيئاً لم يحدث سوى أن السماء صارت جميلة تملأها طائرات ورقية في أيدي أطفال يحتفلون بالحياة.
كنت حاملاً بأبيك تلك الآونة. وكنت أسافر لألتقي جدك عندما استوقفتني شرطة مطار دولة المستطيلات، لأنني أسافر دون محرم، رغم أن والدك كان في أحشائي، وهو عملياً يمكن أن يعمل بمثابة محرم لمن يفسرون النصوص الدينية تفسيراً حذافيرياً، إلا أنهم طلبوا مني أن يسافر معي زوجي أو ابني. لم يفهموا أبداً أنني أسافر مع ابني لرؤية زوجي، فكيف لي آخذ زوجي معي لمقابلته؟
لقد كان شرطهم لسفري إليه غريباً، عليه أن يأتي هو أولاً ليخرجني من عندهم كي أستطيع السفر إليه!
ثم تحقق سفري إليه لأني دفعت رشوة لحراس البوابات، قتلت الفتوى في أروقة المطار كلها وكأنها لم توجد، وأوصلتني إلى دولة المثلثات. هناك، وجدت الناس يهتمون بتثليث كل شيء، الطعام، المقتنيات، الألبسة، الأثاث، الأحلام إن أرادوها سارية، كل شيء، كل شيء. ولابد من الحفاظ على قيمة الزوايا في المثلثات كي لا تقع فريسة المخالفة.
ثم ليسمحوا لك بالعبور. يجب ألا تنتمي الأرقام في تواريخ ميلادك إلى مثلث من مثلثات الرعب لديهم، وهي تلك المناطق الخطرة من العالم التي منحوها في حساباتهم قيمة مثلث ما حسب تصنيفهم لدرجة خطورتها.
وبدون أن أعلم كيف، بدا لي أنني وفقاً لنتائج أرقامي اجتزت الشرط بنجاح، حتى سمحوا لي بالمغادرة، على أن أستبدل ثيابي بأخرى مثلثة، فاضطررت لخلع غطاء رأسي المقلم وعبرت بسلام.
بلغت بعد ذلك مطاراً متديناً للغاية. كان جميع موظفيه يتكلمون بلسان الله، ويلبسون السراويل القصيرة ويطلقون لحىً غير مهذبة ويحتقرون النساء المسافرات وحدهن وحتى اللائي كن في عهدة أزواجهن.
سألني موظف الجمارك لماذا أسافر بلا حجاب، فذكرت له صعوبة التفتيش في المطارات السابقة، والإهانات المتراكمة في قلبي، فقال لي إنني كافرة والله سيعذبني في نار جهنم لا محالة، وسيشويني حتى أتلاشى.
فكرت في أبيك لحظئذ، كيف سيشويني الله وهو في بطني لا ذنب له، ولا علاقة بين شعري وبينه؟!
ثم سألته متوسلة أن يرحمني قليلاً من أجله فقط، ويخفف عني عذاب جهنم، فرفض الاستجابة وأعتقد بأنه كتب توصية إلى الملائكة على الكمبيوتر أمامه كي تحرمني من دخول الجنة.
أصبحت بموجب عدم رضاه عني محرومة من الجنة بكل درجاتها، فالأوامر هناك صارمة جداً والتوصيات المرفوعة للسماء كذلك، هكذا عبرت بلا أمل إلى مطار دولة المربعات التي تحول قوانينها من الدخول إليها بأي شيء مثلث، أو ما يكون انطباعاً عن التثليث. ليس ذلك وحسب بل على المسافرين خلع معاطفهم وساعاتهم وأحذيتهم والتخلي عن أجهزتهم الالكترونية ونزع السراويل التحتانية إذا ما كانت مثلثة، قبل المرور من أجهزة الكشف، وهو مالم يعد محرجاً حدوثه في ذلك البلد بعد صدور مرسوم يجرم الشعور بالوقوع في الحرج.
عندما التقيت جدك أخيراً، ظننت أن المطارات انتهت من حياتي وإن بشكل مؤقت، وأن حضنه الدافئ سيكون لي المأوى والمنفى معاً. كنت أفكر في كلمات من هذا النوع أقولها له بدون تكلف وأنا أعانقه شوقاً وولهاً، لكني كنت كمن يعانق عمود خرسانة في مستشفى للحوادث، كان خامداً بلا شعور أو كأنما نسي شعوره في سيارة الأجرة التي أقلته إليَ. أحسست بيديه ترتفعان إلى أعلى وتلمسان رأسي ولم أشعر قط بأنه كان هناك أو وصل فعلاً، فالمسافة بيننا لم تكن طريقاً إنما حريقاً.
انتفض عني قائلاً بغضب:
– أين حجابك؟ هل خلعتِ حجابك؟
وبدلاً من أن يغدو لقاءنا لقاء عاشقين محبين، انقلب إلى خصومة. صار يذكرني بكل اللحظات غير الجيدة بيننا، وكأنه أعد فيها مفكرة صغيرة الليل الفائت، لقد جعلني أردد على نفسي خلال كلامه:
ياإلهي كيف أحببت هذا الرجل الغريب، ياإلهي اشفع لي.
كان يتكلم ويتكلم من دون توقف، حتى خشيت منه أن يتذكر تلك الحادثة التي تخاصمنا فيها بسبب برنامج تلفزيوني عن نظام الانتخابات في بلاد لم نعد نتذكر اسمها، وهو ما سبب عراكاً فرعياً آخر، حيث قلت أنا إنها نجمة الصباح، وقال هو كلا إنها بلاد الطائر الذهبي. استمرت المشكلة حية في قلبه ولم تمت بالتقادم. لذا اجتهدت في ألا يتذكرها وطلبت منه الصفح عني ثم سكت.
كان والدك في بطني ينظر لي متعجباً طالباً مني تغيير هذا الأب القاسي، طويل اللسان، عديم الإحساس. كان يردد هذه الكلمات وينتزع من نفسه الشبه الوحيد بينهما وهو شعر الرأس.
لقد نزعوا ثقة زوجي بي عندما نزعوا الغطاء عن شعري، ونزعوا شعر ولدي للأبد في نفس اللحظة.
إنهم لا يتوقعون نتيجة أفعالهم وقراراتهم على حياتنا، بل لو كانوا يعلمون وتركهم الله أحياءً، فتلك هي الكارثة بعينها.
هكذا انتهت الجولة الأولى العائلية ونحن ما نزال في المطار، تلاها ما لم أتوقعه، عندما اكتشف جدك أني بلا سروالي الداخلي أيضاً.
استشاط فوراً وطلقني. فاحتضنت فعلاً أقرب عمود خرسانة لي وبكيت لعدة سنوات، لم أغادر فيها عتبة المطار. ظللت امرأة بلا حاضر وبلا مستقبل، هدمها الجميع من بوابة لبوابة، ومن مطار لمطار، وكانت من دون سروالها الداخلي تحمل جنيناً نتف شعر رأسه احتجاجاً.
نمت هناك ألف مرة على كراسي الانتظار، وبعت مناديل الورق للمسافرين حتى أتمكن من شراء تذكرة العودة إلى شرودنغر. ثم حين اشتريتها، اخترع العالم دواءً للموت، ولم يستطع اختراع دواء يجعل الحياة ممتعة ويسيرة.
*****
خاص بأوكسجين