تذكارات أبي- مقامة
العدد 277 | 25 نيسان 2023
أمين صباح كُبّة


 

1

ضوء غرفة العناية المركّزة الخافت لم يكن سببًا لميل بياض جسده إلى الاصفرار.أسمع استغاثته، حادّة ومضطربة وغليظة، أسمعها مثل ضوء مباغت في العتمة، كلّما تبدّت أثقلتني، وكلّما توضّحت طرحتني.تطوّح روائح الغرفة بي. بيني وبينه عدد من الأطباء والممرضين، أدرك رطوبة أنفاسه، لكنني لا أسمعها، يفتح عينيه ثم يغلقهما، تلتقي عينينا، لكن ما أدراني أنه يراني. لا أحد يفتح فمه أمامي، للكلّ أعمالهم الهامّة، كنت أراه ولكنّ غشاوة وقعت عليّ من كيس معلّق فوق رأسه، وأنابيب موصولة به. أنحّي الأنابيب التي تقيم بأنفه وفمه، أحاول أن أفتح عينيه المتواريتين اللتين لا تشيران إلى شيء، وأعدل عن محاولة تقريب وجهي من وجهه.

ثمة بلبلة لا أعرف من أين تجيئ، لم أهتدِ إلى المنطقة التي يتوجّع فيها وحيدًا، المنطقة التي أحاول الوصول إليها ببكائي لكنّني عاجز.

آخر مرة سألت فيها الطبيب عن حالته لم يقل الكثير، رمقني بعينين مغمضتين وقال :”الله كريم”.

2

هواءٌ ثقيل يحطُّ عليّ، أسنده بفمي المعصوف به، بعينيّ وبألق زجاجهما، أدعمه بمغالبة صمتي واتّكائي على ما يشبه الكلمات، بانكساري في الحشرجة، وفيما فرّ منها من حروف، هواء ثقيل رافقني وأنا أتبع الدفّان وهو يدخله في لحده متمتمًا:

“اللهم إلى رحمتك لا إلى عذابك، اللهم افسح له في قبره، ولقّنه حجته، وثبّته بالقول الثابت، وقنا وإياه عذاب القبر”.

بعد دفنه أجلس قرب رأسه وأعيد مع الدفّان تلقينه بصوت منخفض، أضع راحتيّ على القبر ثم أتركه وأنصرف، وأستعيد مع ذلك كل ذكرياتي مع أبي، وتوبيخه المستمر لي على مبالغتي ولا مبالاتي. راودني شعور حادّ يتعذر استعادته على نحو دقيق، كان أشبه بشيئ يقول إنّ الحياة كلّها ليست سوى مبالغة.

3

أمشي وحيداً ويتركني الطريق، يلتهمني الظلام، لا كهف ألجأ إليه. أمشي والغربة غابة تسرق الوقت والنوم، مرتجفًا كضوء أعمدة الإنارة، تمرّ الليالي الشاحبة عليّ، أبحث عن آثار والدي الذي غادرني، دخان سيجارته، صوته، رائحته، وما تبقّى له من قصص في ذاكرتي، ما كنت أنحُبُه ولا أبكيه، ولكن أندب ادّخار الألم في جسمه، تجمّع الدمع في عينيه، وشحوب الغربة على جفنيه، ومرور الزمان على شيب رأسه. غريبًا يدخل السرداب، وروائح الكافور والبخور تصحبه، أغمض عينيّ على خيالات وجوه راحلة، أيّامه ،شبح المقاعد الخالية، تنهّده المحبوس في صدره، وصدى الصمت في شفتيه، وصوتي الغافي على ضجّة المعزّين.مبتهلًا أحمل نظّارتيه أنا الذي لم يعد يغريني الدعاء وأقول :”اللهم إنّي أعوذ بك من أوطان الغربة، ووهاد الوحدة، وبرودة القلب”.

4

انتفض وأتململ، أودّ أن أمسك الزمن من ثنية أثوابه، فمي مفتوح كالليل، وعيناي مصباحان ذابلان. يلمحني المعزّون كنقطة ضوء صغيرة، يحسبونها الفجر ويتبعونها.

لا أحد يشعر بيديّ الخائرتين، ولا أحد يحسّ برعشتهما. حزني نافذة تطلّ على جدار. حزني أصابع متقرّحة لعجوز أعمى ضلّ طريقه. حزني يشعّ عندما يهملني المعزّون. عندما يذهب الجميع ويخيّم السكون، أُدرك بعد أن أعود لوحدتي أنّ أبي قد رحل”كان غيابه عنّي أشدّ ما أخشى وآخر ما أتخيّل…

لكنّه مات رغم ظنّي أنّ من أحب معصوم من الموت. لم يمدّ الله في عمره كما تمنينا في الأعياد. تعجّلت السماوات في ارتحاله. اختفى…ولم ينتبه إليه أحد.

لم يكبر معنا، لم أتتبّع خطوط التجاعيد والشعرات البيض وهي تفترس رأسه. لم يشخ، لم يتقوّس ظهره، حتى موته لم يكن بيننا.

غادر والدي كما يغادر المهذّبون…دون ضجيج

لكنّه، من عاش معنا لمامًا ثم تنحّى عن أبوته مجبرًا تاركًا في قلوبنا ألف اعتلال، لقننا حبّه وزقّنا إياه باستعجال، وكأنه أدرك رحيله القريب”*.

5

كان يوماً عادياً إلّا أنّه تأخر كثيراً، فزعت عندما فتح الباب، كانت لحيته البيضاء قد طالت على غير العادة، و كان يرى بلا نظّارتيه، جسده هزيلٌ ومصفرّ، دخل متأزّراً بكفنه،عانقني وأنا أبكي ثم جلس على طرف سريره، يومها لم يشاهد التلفزيون، ولم يقرأ الصحف كما تعوّد، واكتفى بسماع أخبار الحيّ، وأمرني بأن أواظب على دراستي وأوصاني بالمرضى، ثم توضّأ ليصلي ويحمد الله على ما تبقّى، وخرج.

6

كان الضوء قوياً وأشدّ من المعتاد، ضوء يظهر تفاصيله وملامحه بوضوح. ولكنّ الظلمة عادت بغتة لتخطفه فيذهب فيها وحيدًا، كنت أطالع أكوامًا من التراب الرطب، وكان الدمع يفورُ في عينيّ ويتخبّط.

بعد أن أراقب أكوام الحجارة التي جمعها من بلدان مختلفة وسجّل ذكرياته عليها، أتأمل شاشة الموبايل وأبتسم، فهذه الحجارة ستصبح مقامة كئيبة أينما ذهبت وكيفما تصير.أكتب وأكتب ثم أمسح ما أدوّنه وأحاول مرة أخرى.

 

———-

النص مستوحى من مجموعة الشاعر إبراهيم الحسين “يسقط الآباء حجراً حجراً”.

 

*من رواية “ثوب حداد ملوّن” لسليم بطّي.

 

*****

خاص بأوكسجين

 


كاتب من العراق. صدر له "مقامات إيلاف"" 2021."