بعد رفضها 18 مرة، “الخيانة” تحصد البوكر
العدد 202 | 10 تشرين الثاني 2016
تشارلوت هيغنز


كثرٌ هم الناشرون الذين رأوا في رواية بول بيتي الساخرة The Sellout “الخيانة” (يمكنكم قراءة “أضواء المدينة: فصل إضافي” في مواد هذا العدد وهو فصل من الرواية) سجالاً حامي الوطيس يصعب التورط فيه. أكان ذلك بسبب ما تنضح به من عنصرية؟ أم أنها أفكار العبودية؟ أم أن بيتي حقن كتابه هذا بالكثير من السخرية والفكاهة؟ كل هذا لا يهم الآن، لأنه هو من ضحك أخيراً… هو، بول بيتي، من أفرغ ما في جعبته وفاز بجائزةMan Booker.

 

أصبح بول بيتي أول أمريكي يفوز بهذه الجائزة، ويأتي فوزه هذا بعد ثلاث سنوات من تعديل قوانين الترشح للجائزة ليصبح من حق أي كاتب بغض النظر عن جنسيته الفوز بالجائزة المالية البالغة 50،000 باوند استرليني طالما أنه يكتب باللغة الإنجليزية وينشر أعماله في المملكة المتحدة. أما كاتبنا فقد كان قاب قوسين أو أدنى من ألا تنشر أعماله في بريطانيا أبداً. يقول بيتي عن روايته الرابعة بأنها “عسيرة البيع” على ناشري بريطانيا. تلك الرواية العاصفة الغنائية الشعرية كانت قد رُفضت، كما يؤكد وكيل أعماله، ما لا يقل عن  18 مرة. لكن بعد جهد جهيد، قامت دار نشر صغيرة ومستقلة تحمل اسم Oneworld – أسسها رجل وزوجته عام 1986، بالتورط في نشر هذه الرواية… وها هي الدار نفسها تحتفل اليوم بإنجاز استثنائي يتجسد في الفوز الثاني على التوالي لكتاب أصدرته بجائزة Man Booker، بعد أن كانت قد أصدرت رواية A History of Seven Killings “تاريخ موجز لسبعة اغتيالات” لمارلون جيمس التي فازت بالجائزة نفسها في العام الماضي.

 

“هذا حدث غير اعتيادي بالنسبة إلي.” يقول بيتي البالغ من العمر 54 عاماً. في الصباح الذي أعقب ليلة الفوز كان كاتبنا المولود في لوس أنجلوس والمقيم في نيويورك لا يزال في حالة ذهول إلى حد ما. متأثراً بالسهاد الذي بدت علاماته على وجهه، وخفة الظل التي تتغلب على ما عداها في نفسه، تغلب بيتي على تردده في الحديث عن عمله. “أعتقد أنه عمل جيد. كنت أتساءل في نفسي، وأقول “لماذا؟ ما سبب كل هذا؟” كنت أشعر بالضيق وأنا أخمن (لماذا لا يقبل أحد بأن ينشر لي كتابي). لطالما جلدت ذاتي. كنت تراني أقول لنفسي “حقاً؟ حتى الآن لا شيء؟! أعتقد أنهم ظنوا أن الكتاب لن يحقق لهم مبيعات جيدة.” إلا أنه ما كان ليسمح لنفسه بالانجرار أكثر، لكنه اعتبر أن الناشرين قد وجدوا كتابه هذا قاسياً وغير تقليدي وخارجاً عن المألوف بشكل مبالغ فيه، وربما يمكننا القول، أسود زيادة عن اللزوم! لكن الشيء المؤكد في النهاية هو أننا أمام كتاب سيفغر من يقرأه فاه كثيراً، ويطلق ضحكات ضارية مأزومة، وربما ستستدر بعضٌ من صفحاته بعضاً من دموعه. لا شيء مقدس في هذا الكتاب الذي يختار راويه لنفسه لقب “الداعي” “me بالإنجليزية”، ويقرر أن يعيد أفكار الفصل العنصري إلى سابق عهدها، وأن يتخذ عبداً له في مسقط رأسه في لوس أنجلوس. كل شيء، بغض النظر عن مدى قداسته وحساسيته، بما في ذلك حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، هو عرضة للاختراق والبحث والتنقيب بفعل فطنة بيتي الشرسة وحسه النقدي المتأجج.

 

“أتألم عندما ألتقي بمحررين يخبروني عن كتب أحبوها كثيراً لكن لم يستطيعوا نشرها. لا أعلم ماذا أسمي هذا.” يقول كاتبنا. “أحياناً أفكر في الأمر بصورة رومانسية، وأعود بالذاكرة إلى حقبة نهضة هارلم عندما كان الناشر يقول لك: “هذا الكتاب لن يحقق مبيعات جيدة، لكنني أؤمن بك.” أعتقد أن عالم النشر ما زال ينطوي على شيء من هذا النبل. أو بالأحرى، أتمنى أن يكون قد بقي فيه شيء من هذا.”

 

يقتبس بكل إعجاب كلمات ابن نيويورك الروائي كولسون وايتهيد في إحدى مقابلاته التلفزيونية عندما سُئل عما يكتب فأجاب: “أنا أحاول فقط أن أمنح نفسي فرصة للإخفاق.” يقول بيتي: “حسدته كثيراً على قوله تلك الكلمات. اللعنة، كان ذكياً جداً بقوله هذا. كان يمنح نفسه الفرصة ليتغير… يمنح نفسه حصانة ألا ينفذ رغبة طرف آخر، وألا يحقق تطلعات أحد سوى نفسه.” مما لا شك فيه أن بيتي لا يهمه أن يكون على مستوى تطلعات دور النشر: تشعر به وكأنه يحاول دائماً أن يضع قدماً خارج حدود الممكن (أو المسموح).

 

شاعرية الجمل، أيضاً، تراها حاضرة نابضة في عباراته، وتشعر بها نابعة من نفس تراقب ذاتها بشكل صارم. يقوم كاتبنا بتعليم مادة الكتابة الإبداعية في جامعة كولومبيا. وفي عمله مع طلابه يستعين، على حد قوله، بتجربته المبكرة في دراسة علم النفس في بوسطن. من المهارات التي تمكن من اكتسابها هي “أن تستمع إلى نفسك وأنت تستمع. لا أن تستمع إليها وأنت تفكر أو تتحدث، بل وأنت تستمع. أن تفكر في ما استوعبته وما غفلت عنه، أن تحاول التفكير في الذي فاتك إدراكه، وطريقة استماعك إليه. تلك طريقة لقراءة أعمالي بحس نقدي”. يقول بول. “والأهم من هذا وذاك، يساعدني ذلك على فهم العالم.” في محاضراته لا يحب بول أن يتحدث الطلاب عن أعمال كتّاب آخرين. “لن ينفعهم شيئاً أن يقارنوا أنفسهم بغابرييل غارسيا مركيز. أقول لهم: “حاولوا أن تتفردوا.”

 

عدم الارتياح – الذي يشعر به القارئ، والكاتب، قد يقول قائل، يسري في كل صفحة من صفحات “الخيانة”. تبدأ الرواية بصورة لكرسي غير مريح يجلس فيه الراوي الذي ينتظر محاكمته في المحكمة العليا. وفي هذه اللحظة بالذات، يبدو على بيتي عدم الارتياح وهو جالس في كرسيه. “أنطلق دائماً من هذه النقطة – نادراً ما أشعر بالراحة. هذا محزن نوعاً ما، لكنه الواقع.” يميل بيتي أيضاً إلى نبذ الراحة المتأتية من التعميم. غالباً ما يوصف هذا الكتاب بأنه رواية ساخرة، وقد يكون هذا نوعاً من التمويه. يقول بول: “هو كتاب حزين للغاية، أو ربما يكون شعور الخيبة واللاجدوى مستشرياً في صفحاته.” يقبل على مضض أن تُلصق صفة رواية بكتابه هذا، وبالرغم من ذلك يضحك على الطريقة التي غالباً ما تُلصق فيها صفة “رواية”، خصوصاً في الولايات المتحدة، بأي كتاب بغض النظر عن ماهيته. “تعلمت في وقت مبكّر من حياتي أنه بإمكانك أن تفعل ما تشاء على الورق. هي رواية صحيح، لكن هناك الكثير من الهراء أيضاً على صفحات هذا الكتاب، تجد فيه قليلاً من الشعر – بعض القصائد التي سرقتها من ذاتي كشاعر. وفي بعض الصفحات أخذت وقتاً لكتابة بحث صغير لأفرغ ما في صدري من أفكار تثقل كاهله. أفكر في “المدن غير المرئية” Invisible Cities لإيتالو كالفينو، كان هذا الكتاب يحضر في ذهني كثيراً وأنا أكتب.”

 

ناقشنا معاً الخطاب الأخير الذي ألقته ليونيل شرايفر، والذي يدور حول “الاستحواذ الثقافي”، وهو مصطلح لا يحبذ بيتي استخدامه، حيث أكدت شرايفر على حق الكاتب بالحصول على القصص من أي كان ومن أي مكان. وناقشَت أيضاً واقع الأدب في عصرنا الحالي الذي بات يُنظر فيه إلى أي تسليط للضوء على مسألة حساسة على أنه إهانة وعنصرية، ويبحث فيه الجميع عن المواضيع الحيادية الآمنة، ويُدافَع فيه عن الانتماءات باستبسال دموي، هذا الجو ينذر بخطر تحوُّل “ذلك النوع من الأدب (المسموح لنا) ارتكابه إلى أدب مليء بالمحاذير وبالغ المحدودية والتصنع لدرجة سيكون من الأفضل معها ألا نكتب أياً من هذا الهراء المسكّن من الأساس.” يرد بيتي على ذلك بقوله: “أنا أتفق معها – يجب أن تكون لديك الحرية لتكتب ما تريد.” لكن ما أقلقه في حديثها كان “كل الأمثلة التي ذكرتها تدور حول كتّاب بيض يستحوذون على ثقافات أخرى، وهذه الحركة لا تسير من الأعلى إلى الأسفل فحسب، بل تتشعب في كل الاتجاهات. هذا هو الجانب الوحيد الذي أزعجني فعلاً في وجهة النظر التي طرحَتها: من يحدد من يُسمح له بأن يأخذ ما يريد وممن.”

 

يتذكّر إحدى القراءات التي قدّمها يوماً، والتي سُئل فيها عن “مسألة التأثّر”. تحدّث عن حبّه للأدب الروسي والياباني. (والدته، الممرضة، كانت من محبي الثقافة الآسيوية). استغرب أحد الحاضرين ذلك قائلاً: “غريب أن يتأثر كاتب أمريكي من أصل إفريقي بالأدب الياباني. كنت أعتقد أن الثقافتين على طرفي نقيض.” لم أردّ، قلت فقط: “طيب، السؤال التالي.” لم أكن مستاءً، لكن جعلني هذا أتساءل: كيف لأحد أن يعتقد أن الشعوب ممكن أن تكون على طرفي نقيض ثقافياً؟! أيحمل هذا القول أي معنى؟ يذكر لي أحد الصفوف الدراسية التي حضرها مع الشاعر غريغوري كورسو. إحدى الطالبات كانت تقرأ عملها الأدبي، فما كان من كورسو إلا أن سألها: “أين هي شموليتك؟” يضحك بكآبة على ما يُسمى (شمولية تجربة الذكر الأبيض). “أذكر كيف أدركتُ حينها محدودية نظرته. كان يظن أن ما يقوله، مهما يكن، يسري على الجميع.”

 

يعجب بيتي بفنانين مثل كورت فونيجت وكينجي ميزوجوتشي، ويتحدث عن اللحظة التي “يصعقك” فيها أحد الأشخاص بتأثيره. التأثّر، يقول، لا يتجسد في رغبة المرء بأن يتشبه بغيره، بل في “أن يُلهب من تتأثر به شيئاً في داخلك.” “أحب هؤلاء الذين لا يكترثون لشيء: هؤلاء الذين ينطلقون من دون وجهة أو سابق تفكير. كانت أمي تغيظني دوماً بأنني أحب الأفلام التي لا يحدث فيها شيء… أفلام المبارزة بالسيوف التي لا تجد ولا سيف فيها. ثمة دائماً ما يحدث عندما لا يحدث شيء. أحب ذلك الصمت الصاخب.”

_____________________________________________

المقال مأخوذ عن جريدة “الغارديان”. يمكنكم قراءة مقطع من رواية بيتي في مواد العدد 202 بعنوان “أضواء المدينة: فصل إضافي”.

*****

خاص بأوكسجين