هوليوود
عند كل صباح،
لكي أكسب قوتي
أذهب إلى السوق،
حيث تباع الأكاذيب
وأنا، حافل بالأمل
أصطف بين البائعين. – برتولت بريشت
ينطلق تأثير بريشت على السينما بالدرجة الأولى من علم جمال مسرحه، منذ أن جرت مناقشة وتجريب أعماله المسرحية ونظرياته عالمياً. ولم تكن أعماله السينمائية الطويلة المجهولة وغير المعتبرة ومواقفه إزاء السينما، هي التي احتلت هذه الأهمية، باستثناء فيلم “كوله فامبه” الذي يشكل حالة نادرة. ويلفت الفيلم البروليتاري المناوئ للفاشية “الحياة تخصنا” (1936)، الذي تم تصويره من قبل جان رينوار وجان – بول لاجانوا وجاك بيكر وآخرين، النظر بوضوح إلى وظائف وبنية “كوله فامبه”. والفيلم أثر بدوره وبشكل واسع على إنتاجيات أخرى مع بداية الاستقبال العام لبريشت.
(…)
وتعتبر بعض الأعمال، التي يمكن إرجاعها إلى بريشت بصعوبة، أكثر قرباً منه، ولنذكر فيلم فيتوريو دي سيكا الاستعاري “معجزة في ميلانو” (1950)، الذي ثمنّه بريشت كثيراً، أو أفلام فرانشيسكو روزي النمطية والتحليلية “سلفادور جوليانو” (1962) و”الأيدي على المدينة” (1963)، وهي أفلام ملتزمة سياسياً بقوة.
(…)
وسوف نتبين إمكانات الاستيعاب غير المباشرة، والمرتبطة بشروط عديدة، مثل تاريخية المادة، فيما إذا نتج عن هذا العمل في الختام معرفة تفيد القارئ مرة أخرى. المهم في النهاية الوصول إلى رؤية موضوع هو متطور وجديد. وثمة مادة مخصصة لهذا الغرض، تتعرض إلى مغزى هذا العمل – إن كان تغريبياً أم لا، جاءت في شكل مونتاج معين. الإشكالية مفتوحة. وفي مجرى تأثير بريشت على السينما، يجب أن ينقل هذا التأثير بواسطة هذا العمل، إلى أبعد من مساهمة بريشت في السينما.
بعض اتجاهات التأثير بواسطة المونتاج
1- تصيّد التقليد
كان كارل كوخ، وهو طرف في مناقشات سينمائية عديدة، صديقاً لبريشت في العشرينات، وقد عمل في المنفى مع جان رينوار ورأى الجوهري في تأثره ببريشت في “الحس العالي للمنطق” وفي الصراع ضد “الأخيلة الخاطئة”. ويكتب رينوار: “طبق كوخ في مناقشاتنا حول السيناريو والمشاهد هذا المنطق الصارم، الذي ساعد بريشت على إيجاد حلول، بدت باروكية دائماً، لكنها في الواقع لم تكن كذلك.. وكان هو الذي ساعدني حقاً وبشكل رائع ضد التقليد، وبالمساهمة في تقويضه أينما كنا نواجهه”.
2- تجريد ودقة
يكتب جوزيف لوزي المخرج الأميركي الذي أخرج مسرحية “غاليلي”: ما هي التأثيرات التي مارسها مسرح بريشت على عملي السينمائي؟ وما هو تأثير بريشت، الذي عرفته شخصياً، على علاقتي المباشرة بالسينما؟
– تجريد الواقع وإعادة بنائه بدقة عن طريق انتقاء رموز واقع.
– أهمية الإتقان في الإيماءات والتكوينات وخطوط الموضوعات.
– العناية بحركة الممثلين وآلة التصوير. لا شيء يخضع للحركة دون هدف. التمييز بين الهدوء والسكون.
– تدريب العين بواسطة الاستعمال الدقيق للعدسات ولحركات آلة التصوير.
– السلاسة في التكوين.
إنجاز تباينات وتناقضات بواسطة المونتاج والنص. وهذه أول الطريقة الأبسط، في الوصول إلى مؤثر التغريب الشهير.
أهمية الدقة في استعمال الكلمة والصوت والموسيقى. تصعيد الواقع، من أجل إظهار قيمته التامة.
تزويد كل عين منفردة برؤية أوسع.
3- تعليق
رينيه الليو: لا يمكن للمرء أن يتحدث عن بريشت، وينسى، أنه ماركسي.
4- تغريب بدون تغريب
طالب برنارد دورت في عام 1960 السينما، برؤية جديدة منتجة للعلاقات الاجتماعية الملموسة بواسطة التغريب، وذلك للوصول بالمتفرج إلى آراء تاريخية، دون الإذعان إلى طريقة السرد البريشتية في السينما، إنما اعتمادها كمنطلق لكسر التأثير “التزييني” و”السحري” للفيلم.
5- خلق مسافة في السينما
قال آلان رينيه في عام 1962: لست أدري، إن كنت على معرفة كافية بمسرح بريشت… غير أنه من المؤكد، أني أحب إيجاد شيء ما، يكون بمثابة معادل لتلك الحرية، التي أحسها في كل أعمال بريشت المسرحية الوحيدة.
6- تحوّل غودار إلى بريشت
إن فيلم “عاشت حياتها” (1962) هو بالنسبة للنقد البرجوازي فيلم بريشتي. لأنه مبني بفصول. تتقاطع بواسطة لوحات مكتوبة وبمحادثة ارتجالية مع فيلسوف.
أما فيلم “الاحتقار” (1965) فإن غودار يظهر فيه المخرج فريتز لانغ وهو يقرأ أمام آلة التصوير قصيدة بريشت عن هوليود، وفي “الصينيون” (1967) تعرض صور سريعة لبريشت ثم نرى طلاباً يساريين. وسبورة، مكتوب عليها أسماء من أعلام تاريخ الفكر والفن العالمي. وكل الأسماء تمسح من على السبورة إلا اسم بريشت وحده يبقى.
وفي عنوان نضالي “ما العمل” يعترف غودار عام 1970 بموقف سياسي في العمل السينمائي، ويقابل بين المفاهيم الفكرية للعالم، بين المفهوم المثالي والميتافيزيقي وبين الماركسي والجدلي.
_____________________________________
قيس الزبيدي: مخرج ومصوّر وباحث سينمائي مقيم بين برلين. تخرّج من معهد السينما في بابلسبورغ (ألمانيا الديموقراطية) عام 1969 حيث درس التصوير والمونتاج. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: “بعيداً عن الوطن”، و”فلسطين سجل شعب”، و”شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب”، و”وطن الأسلاك الشائكة”. وقدّم روائياً “الزيارة” 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و”اليازرلي” 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض، ولم يعرض كاملاً إلا عام 2010. له العديد من المؤلفات النقدية والبحثية منها: “فلسطين في السينما”، و”المرئي والمسموع في السينما”، و”مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم”، و”مونوغرافيات في الثقافة السينمائية”.
*****
خاص بأوكسجين